نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم الدولة" (الحلقة 4)

نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم الدولة" (الحلقة 4) نورالدين السعيدي حيون

"بفضل علمه بالتاريخ الأيديولوجي للعالم العربي وكذا لأوروبا، وبمعرفته لمناهج التحليل التي كونها العالم الحديث (....) وبفضل تفتحه ويقظته بإزاء كل ما يستحق عناية إنسان ذكي وحر، أخضع (العروي) أهم قضايا العالم الذي ينتمي إليه إلى أعقل تحليل ممكن"، ماكسيم رودنسون

 

مفهوم الدولة عند "ماكس فيبر"

يقول عبد اللَّه العروي: "ماكس فيبر" كان أيضاً يريد أن يدفع الألمان إلى العقلانية الاجتماعية والسياسية عن طريق احتضان الليبرالية الأنجلوساكسونية، ومن بين ما يخلص إليه العروي في الفصل الأول من كتابه "مفهوم الدولة" تحت عنوان "تكون الدولة" أن: يعترف "فيبر" بأن الدولة أينما وجدت تحمل قدرا من العقلانية، لكنه يلح على أن الدولة الأوروبية الحديثة وحدها تجعل من العقلانية قيمتها الأساس، وبما أنها كانت المثال بالنسبة لسائر الكيانات السياسية الأخرى، فيمكن أن نعرفها وأن نعرف معها الدولة الحديثة بأنها العقلانية التامة الشاملة. إن: "ماكس فيبر". اليوم، بدون شك، الأستاذ الذي يستلهمه أغلب الباحثين في الاجتماعيات والسياسيات، وبالخصوص أولئك الذين يدرسون المجتمعات غير الأوروبية، وما زالت أفكاره ونظرياته ومقارناته، المبنية على اطلاع واسع في مسائل الاقتصاد والقانون والأخلاق والنظم توفر نقاط الانطلاق في كل بحث ونقاش يمس الاجتماع. إن فيـبر هو الذي وضع في قلب العلوم الانسانية المعاصرة ذلك الثنائي المشهور: الحداثة والتقليد .

 

يقول أستاذنا العروي إن: القيمة المؤسسة للغرب الحديث هي إذن العقلانية،.. والدولة الحديثة بصفة عامة هي مجموع أدوات العقلنة في كل دروب الحياة"، حيث يبنى قوله على قول "فيبر"، الذي يقول "إن الدولة هي مجموع وسائل العقلنة فإنه لا يعني ما يعنيه "هيغل" عندما يقرر: الدولة تجسيد للعقل. يتكلم الأول عن الوسائل بينما يتكلم الثاني عن الأهداف،.. عقلنة فيبر هي غير عقل "هيغل" ، إن "فيبر" يتجاهل العقل الهيغيلي ولا يتكلم أبدا إلا على الأعقال. كعالم وضعاني. يحضرني هنا القولة المشهورة عند العامة، وحتى العاملون في الشأن الفكري، والتي مفادها" الغاية/الهدف تبرر الوسيلة".

 

يقول "فيبر" أن العقلنة توجد بمقاييس متفاوتة في قطاعات مختلفة في كثير من الأنظمة السياسية التاريخية.. أصبحت العقلانية قيمة في ذاتها ولذاتها... إلا أنه في نظر العروي فـ "فيبر"؛ حين يقارن بين عهدين من التاريخ الأوروبي: الفيودالي والحديث. يتعامى عن تداخلهما وتولد الثاني عن الأول تولدا بظيئا، فيركب صورتين مجردتين ثم يقابل بينهما ليستنتج اجتماعيات الدولة المبنية على مفهوم العقلانية.

فيما يرى العروي أنه: يبقى بالطبع مشكل العقلانية. أن ربط الدولة الحديثة بالعقلانية وتخصيصها لأوروبا وحدها مسألتان ظنيتان على كل حال، لا سبيل إلى الوصول فيهما إلى اليقين، باعتراف "فيبر" نفسه. ويضيف: بينما يرى فيبر في العقلانية موهبة أو اختيارا عفويا يميز الحضارة الأوروبية"، يختم ذلك بالقول "جهاز الدولة الحديثة بيروقراطية مفصولة عن المجتمع ومبنية على منطق العقل الموضوعي" أي استعمال العقل الحسابي لترتيب العمل الجماعي بهدف اقتصاد الوقت والجهد، ثم يخلص إلى الخلاصة التالية: نجد في هذا التعريف فكرة الدولة الهيغيلية الناتجة عن فصل المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة، والدولة التاريخية الماركسية الناتجة عن نشأة الملكية الخاصة، والدولة الحديثة الفيبيرية المبنية على عملية العقلنة.

 

وحول تصنيف نموذج الدولة الحديثة-الصناعية، يرى أنه: لا مناص من اللجوء إلى طريقة "ماكس فيبر" -سبق أن تحدث عنها في بحثه حول مفهوم الأدلوجة، ص 44 إلى71- وذلك باختيار أمثلة تاريخية معروفة وانتقاء العناصر الأكثر ملازمة، أي تلك التي بوجودها تتضح ظاهرة الدولة وباختفائها تضمر وتختفي. وهي طريقة بديهية يلجأ إليها كل من يفكر بجد في الشؤون الإنسانية ويريد أن يتوصل إلى أحكام عامة انطلاقا من أوصاف عينية، مضيفا العروي في الهامش 9 مـــن الصفحة 63، لأن: هذه الطريقة استقرائية يلجأ إليها بداهة المفكرون الواقعيون ابتداء من أرسطو. تخالف الطريقة الاستنباطية التي اتبعها فلاسفة الأنوار. نجد إرهاصاتها عند "ماكيافللي" و"فيكو" وأنصار المدرسة التاريخانية، من الغرب، وعند "ابن خلدون" ومن نحا منحاه في الشرق الإسلامي .

 

يؤكد العروي على أن: هناك منطق يقود تطور عناصر الدولة، إذا تأثر به عنصر لابد أن يتبعه الباقي، هو منطق التنظيم والتوحيد والتعميم والتجريد، أو منطق العقلانية، حسب تعبير "ماكس فيبر".

 

مفهوم الدولة عند ماكيافللي

يعد ماكيافللي من أشهر المفكرين السياسيين الذين عرفتهم العصور الحديثة، وتعود شهرته أساسا، إلى انتهاجه نهجا مختلفا عما كان رائجا في الكتابات السياسية في العصور الوسطى وما قبلها، إذ كان أول مفكر أروبي يطرح، بوضوح لا لبس فيه، موضوع العلاقة بين السياسة والأخلاق/الدين، حيث  "الغاية تبرر الوسيلة".

وبالتالي فالواقع الذي حاول ماكيافللي إبداع مخارج له، كما أثار ذلك أستاذنا زين الدين الحبيب استاتي في محاضراته عن الفكر السياسي الاستبدادي بعد العصر الوسيط: كان فيه الدين ونظم الحكم وثيقي الصلة، مع محاولات جنينية لفك الارتباط بينهما، خصوصا وأن الكنيسة المسيحية في أروبا، كانت تستشهد بأقوال الباباوات لدعم مطالبتهم بالسيطرة على العالم، ولكن تآكل النظام القديم كان واضحا للجميع. إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به ماكيافللي، وحرية الضمير التي نادت بها حركة الإصلاح الديني استبقت نشوء مجتمع مدني تنظمه سلطة الدولة، وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم "الكنيسة والدولة"؛ بمعنى الدين ونظم الحكم، بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة. كانت هذه بعض الخطوط العريضة للمناخ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي خبره صاحب "الأمير" ، وكرس معظم مؤلفاته لإنتاج مفهوم جديد للسياسة، بصفتها علما وضعيا منفصلا عن الدين والأخلاق، إذ كان ببساطة ينزع إلى تخليص السياسة من أي اعتبار خارجي، وإلى جعلها علما مستقلا بذاته. ورغم تعدد مؤلفاته وتنوعها، إلا أن أبرزها هو كتاباه، "الأمير" و"المطارحات"، حيث دشن طريقة جديدة في الكتابات السياسية، تتميز بميزتين: الأولى، هي تركيز اهتمامه على معطيات العالم السياسي الواقعي، وإهمال أي حديث عن إقامة جمهوريات أو إمارات مثالية؛ أما الثانية، فهي عدم الاكتراث بمقولات علماء الأخلاق عما يجب فعله، بل الاهتمام بما يعمل حقا، بما يفعله الأمراء بصورة خاصة للحفاظ على سلطتهم.

 

واعتبره الأستاذ عبد الرحيم العلام، أول من استعمل الدولة بمفهومها السياسي الحديث للتعبير على نظم الحكم، فإنها لا تنفصل عن الأمير وعن سلطته، وبالتالي تعد الركيزة الأساسية لنظرية الاستبداد التي ستهيمن على هذه الحقبة التاريخية، ولم يهتم بأصل الدولة ولا بتطورها وشرعيتها، بل ككيان موجود يجب العمل على تقويته وتوسيع نفوذه والاحتفاظ به باستعمال كافة الوسائل بما فيها الوحشية، المهم " أن يحافظوا على المبادئ الأساسية للديانة التي تصون وجودهم -حتى وإن لم يكونوا مؤمنين بها- وإذا ما عملوا هذا سهل عليهم أن يصونوا تدين دولتهم، مما يؤدي للحفاظ عليها متحدة طيبة ". وقد قسم أنظمة الحكم إلى صنفين:

 

النظام الملكي، فهو يؤمن بضرورة الحكم المطلق أثناء نشأة الدولة الجديدة، وفي حالة ما استقرت وأصلحت من فسادها وتملكت الأخلاق والفضائل سلوك شعبها، فعندئذ فقط يمكن تطبيق النظام الجمهوري؛

النظام الجمهوري، دافع عنه في كتابه "المطارحات" ولكن تراجع عن هذا الأمر في كتابه "الأمير" ليدافع عن نمط ،"الإمارات" التي قسمها إلى "وراثية" و"دينية"، معتقدا أن النظام الجمهوري هو النظام الأفضل، الذي لا يصلح إلا للشعوب المتمسكة بالأخلاق، أما غيرها من الشعوب فلا يصلح لها إلا نظام واحد وهو الاستبداد المطلق.

 

يعتبر ماكيافللي الدين أداة من الأدوات التي يجب على الدولة تسخيرها في نظام الحكم لكونه أفضل الوسائل التي تعود الناس على الطاعة، كما قال "جان جاك شوفالييه": كخادم للسياسة يعتبر شرطة فريدة من نوعها في الدولة، إنه أداة تأديبية عجيبة لا يمكن للشيء العام أن يستغني عنها، فحيث تكون العبادات الإلهية محتقرة يكون الفساد وهلاك الدولة وشيكين، لهذا فإنه لواجب مقدس على الحكام سواء أكانوا فاسدين استبداديين أو دستوريين أن يحافظوا على أسس الدين باعتباره ضمانا للاتحاد والأخلاق الحسنة، على هذا الأساس، يميز بين طريقتين لاستعمال الدين:

 

دين سليم، يشجع على القيام بمشاريع وخدمة الدولة؛

دين منحط، فإنه يشكل عاملا من عوامل الانحطاط والعجز.

 

ويوصي الأمير بحسن استخدام الدين فهو يجبر الشعب على الطاعة في الأوقات الصعبة، حيث هي مسألة حكمة سياسية ومعرفة بالطبيعة البشرية، ما على الحكام سوى التمظهر بسلوكهم الديني حتى ولو كانوا في قرارة أنفسهم لا يؤمنون بالمسائل الدينية. على اعتبار أن القيمة الأساسية عند الأمير يجب أن تكون "المحافظة على دولته"، وأنه "لتحقيق هذه الغاية عليه أن يوظف كل وسيلة".

 

إن من بين أهم ما يستوقفنا على رأي العروي في ماكيافللي من خلال كتابه "مفهوم الدولة" هو تلك المقارنة السريعة التي أقامها العروي بين ابن خلدون وماكيافلي، وختم بها الفصل الرابع المعنون بالدولة التقليدية في الوطن العربي، حيث قال: "يضع ابن خلدون، كما تمليه عليه عقيدته، مقاصد الشريعة فوق أهداف الدولة.. أما ماكيافللي المعجب بتاريخ روما، والذي كان يرى في انتشــار الدعوة المسيحية سبب احلالها وانهيارها، فإنه يفتقد غاية عليا يضعها فوق الدولة. أي "دولة اللادولة"، حسب العروي، الذي خلص إلى أن: كلاهما يمثل، في الحضارة التي ينتمي إليها، نظرية الدولة الطبيعية، كلاهما متشبث بالواقعية في شؤون السياسة. ومع ذلك ما أكبر الفرق بينهما، وبالتالي يرى في خاتمة نفس الفصل، أنه: إذا اصطلحنا، كما بينا ذلك في فصل سابق، على أن نظرية الدولة هي وحدها تلك التي تنظر إلى الكيان السياسي كتجسيد للعقل والأخلاق، يحق لنا أن نقول أن الفكر الإسلامي، القديم، بما فيه ابن خلدون، يتضمن أخلاقيات واجتماعيات، لكنه لا يتضمن نظرية الدولة، معلقا في الهامش 54: نلمس هنا مجال مفهوم العلمنة وندرك أنه أعمق من مجرد فصل الدين عن الدولة، وإلا لكانت الدولة السلطانية علمانية بالفعل.

 

دراسة وتحليل مفهوم الدولة عند العروي

إلا أن السؤال الذي يبقي مطروحا هو عن أي نوع من "الدولة" يدافع هل عن "الدولة التقليدية" أم عن "الدولة الحديثة"؟ وهل هذه المفاهيم بديهية يتفق عليها كل باحث في مفهوم "الدولة" عموما؟ ألا تختلف المناهج بين علماء الاجتماع وعلماء التاريخ والفلاسفة... عند تحديد المفاهيم؟ وإذا تَبَتَ أن هناك اختلافا في المناهج، ففي أي صف نجد الأستاذ العروي يَقفْ؟ وكيف يعرف مفهوم "الدولة الحديثة" ومفهوم "الدولة التقليدية"؟ وهل بين المفهومين "استمرارية" أم "قطيعة" وإذا كانت "قطيعة" فأين هي تجلياتها؟

بداية، يمكن أن نرصد اختلاف المناهج بين علماء الاجتماع وعلماء التاريخ والفلاسفة، بحيث يمكن القول أن السؤال عن "الماهية" هو من اختصاص الفيلسوف بامتياز، فهو الذي يطرح سؤال: ما الدولة؟ أو ما هدف الدولة؟ بحيث أن السؤال حول "ماهية الدولة" يدور في واقع الأمر حول "هدفها"؛ وبالتالي من يسأل عن هدف "الدولة" يسبح في "المطلقات" فينظر ويتفلسف، أما سؤال "عالم الاجتماع" فيدور حول وظيفة الدولة، أما سؤال المؤرخ فيختلف عن سابقيه، بحيث أن سؤاله هو: كيف تطورت الدولة؟ ذلك أن المؤرخ يسجل فقط ما أتبته الوثائق الصحيحة القطعية حتى لو تعارضت مع تحليلات الفيلسوف وأوصاف عالم الاجتماع، وهو ما يبين أن لكل "سؤال منهج ولكل منهج سؤال". ولكن أين يمكن أن نصنف الأستاذ العروي؟ هل سيتبع "منطق المؤرخين" فيبحث عن "الدولة القائمة" أم سيتبع "منطق الفلاسفة" فيُنَظرُ ويتفلسف؟ أم أنه "رَقْمٌ صعب" يَنْفَلتُ من خانة التصنيف؟

 

لننظر الآن في ما يقوله عبد الله العروي عن نفسه، يصرح في أغلب كتبه وحواراته أنه "مؤرخ"  وتراه أحيانا يتهرب من لقب فيلسوف، وإن اعترف بأنه يميل إلى "التفلسف" -ولكن على طريقته الخاصة- يقول العروي: الحاصل إذن هو أني أقرأ إلى اليوم المؤلفات الفلسفية في سياق غير الذي يَتَعَودُ عليه طالب قسم الفلسفة. ويضيف: أصبحت أختزل الفلسفة في الماورائيات، وكلما تَحَدتُ عن الفلسفة فإني أعني الميتافيزيقا، ومن التفلسف، يصرح أحيانا بكثير من التواضع بأنه "تلميذ للغرب"، ويكتب أحيانا أنه "باحث في العلوم الاجتماعية"، انطلاقا من هذه الإضاءات يتبين أن العروي لا يخضع "لمنطق التصنيف" الضيق ذلك أنه يقول بأنه "مؤرخ" و"متفلسف" و"باحث في العلوم الاجتماعية" -من اقتصاد وسياسة واجتماع- ومن "مفارقات" الأستاذ أنه يقول بالتخصص ولكنه أقرب إلى "الموسوعيين" من "الاختصاصيين"! لندع الآن الخوض في هذا المجال، ولنتساءل عن "المنطق" الذي يتخذه في تحديده لمفهوم "الدولة الحديثة" و"الدولة التقليدية".

 

يمهد الأستاذ العروي لكتابه "مفهوم الدولة"، بتلازم الدولة بالحرية والحرية بالدولة، وأن: كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية، أو بعبارة أدق، تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة، لأن الدولة هي الوجه الموضوعي القائم في حين أن الحرية تطلع إلى شيء غير محقق. هنا يفرض التساؤل نفسه، هل توجد أصلا دولة حرة؟ في نشأتها وتطورها وقراراتها وحياة شعبها.. يأتي هذا على غرار ما مهد به استاذنا لكتابه واستلهاما من تساؤله حول معنى الحرية بعد معنى التربية. ماذا نعني بالحرية إذا لم تعن نقيض المعاناة المذكورة، أي الوعي بحدود موضوعة على التصرف؟  الدولة الكاملة، المعقولة، فهي التي تعترف بحرية الذات وتعمل على غمس الذات في المبدأ العام، والتي تترك الفرد حرا يفعل ما يريد في الوقت الذي يطبق تلقائيا القانون العام.

 

مسألة أخرى ربما لن يرضاها أستاذنا هي كذلك، وهي ما تحمله كلمة نقد من شحنة فلسفية. والمعروف أن العروي يأبى لكتاباته أن تدرج ضمن الإنتاج الفلسفي، وهو يفضل أن يصنفها بالأولى، ضمن اجتماعيـات الثقافة. وعلى أية حال فإن كان بإمكاننا أن نسلم بأن الكتب الأخرى التي تعرض فيها لسلسلة المفاهيم كمفهوم الأدلوجـة ومفهوم الدولة ومفهوم الحرية ومفهوم التاريخ هي أقرب إلى اجتماعيات الثقافة، فإن الكتاب الذي بين أيدينا كتاب في الفلسفة، منهجا ولغة ومضمونا وموضوعا، بل إن صاحبه يبين عن تمكن كبير وإطلاع واسع على الفكر الفلسفي عربيّه وغربيه، لذا فهو حوار مزدوج مع التراث الغربي والتراث الإسلامي .

 

وهنا تعترضنا نقطة ثالثة، لم يكن الأستاذ العروي ليعترف بـها فيما قبل. وهي الحوار مع التراث، بل وضرورة تفكيكه. لا استعمل كملة تفكيك هنا إتباعا لموضة ثقافية، فهي واردة في الكتاب. أستعملها لأشير فقط إلى أن هذا الكتاب ينطوي على مفهوم عن القطيعة لم يكن الأستاذ العروي ليقبله، وهو أن الانفصال عن التراث ليس عملية تلقائية. كما أنه ليس خصاما وإنما تملكا وإحياء.

 

يعتقد العروي بأن العرب لم يقوموا بالثورات الضرورية للانطلاق الحضاري، باستثناء الثورات الوطنية السياسية التي اكسبت العرب الاستقلال السياسي، ولكنها لم تنجز شيئا على مستوى الحداثة والعقلانية، وبالتالي فإن التأخر يتعدى الأوضاع المادية ليتغلغل في الأيديولوجيا العربية أي الفكر والثقافة. ولاستدراك هذا التأخر فلا مناص من التاريخانية التي يستند إليها العروي والتي تطالب بالاستفادة من التجربة الأوروبية في الحداثة والاشتراكية. التاريخانية لدى العروي تستند إلى وحدة التاريخ الكوني وغايته الإنسانية ومسيرته ومنهجه قادرة على عقلنة الواقع العربي وتنوير ثقافته، ولكن بعد اعادة انتاج الماركسية عربيا وازالة شوائبها الغربية وتقريبها من البيئة المحلية، علما بأنه تأثر بالنزعة الإنسانية الماركسية لدى "انطونيو غرامشي" و"جورج لوكاتش". يبين العروي ان المثقف التاريخاني يبرز كرد مضاد على المثقف السلفي والمثقف الليبرالي الانتقائي اللذين كانا عوامل رئيسية في الإخفاق التاريخي، نتيجة الوعي الناقص والمهزوم بسبب تقسيمه للفكر الغربي وفصل الجزء عن الكل. فالعروي يشخص هوية الذات ويشخص العدو ولذلك انتقد الموقف العربي الإسلامي والموقف الاستعماري من الدولة العربية .

 

إلا أنه ينبغي التنبيه هنا إلى أن العروي دافع على شكل من أشكال الدولة، أو تنظيم سياسي معين، يراه هو المتمثل في الدولة الحداثية، وهذا باعترافه هو نفسه، بحيث يقول: لقد كتبت كتابا عن موضوع الدولة، ودافعت فيه عن الدولة الإقليمية، وأحيانا يسميها بالدولة "الوطنية الحديثة"، وغالبا ما يسميها "الدولة القومية" كما هو الشأن في كتابه مفهوم الدولة، وبالتالي فموقف العروي في كتابه "مفهوم الدولة" هو موقف دفاعي عن الدولة القومية ضد منتقديها، ولكن هل كان –دائما- يدافع في كتبه؟ يقول عن نفسه واصفا مواقفه في بعض كتبه:... كنت فاحصا، محلا في الكتاب الأول -يقصد الإيديولوجيا العربية المعاصرة-، وداعية في الكتاب الثاني -يقصد العرب والفكر التاريخي-. ثم يشير: وإن اعتقاد الصدق في داعية الإيديولوجيا سقوط في أشراك الإيديولوجيا، ويضيف: لأن الإيديولوجيا دائما وأبدا عبارة عن مصالح. وبالتالي حتى لا نسقط في حبائل العروي فالمطلوب هو حفظ المسافة  بين "المفكر" و"الباحث" في "فكره". أو القارئ لفكره، طبعا هذا يأتي بعد أن يكون "الباحث" قد تماهى مع "فكر المفكر" من أجل فهمه...

 

إن دفاع عبد الله العروي عن دور "الدولة" في المجتمعات العربية له في الحقيقة ما يبرره ذلك أنه يمكن تصنيفه من "المثقفين الهيغيليين اليساريين" في العالم العربي، ومن المعلوم أن هذا النوع من "المثقفين يكونون غالبا من المدافعين عن "الدولة" في وجه مناوئيها ونقادها خاصة من "الليبراليين" فتراه مثلا من المآخذ التي يسجلها على "إرنست كاسيرر" صاحب كتاب "أسطورة الدولة" أنه لا يعطي أهمية "للدولة" في حياة البشر، ويصف العروي هذا الموقف بالسلبي،  وهو ما يبين أن العروي من المدافعين عن "الدولة" في مقابل نفات أهمية دور "الدولة" في حياة البشر .

 

والدليل على ذلك ما قم به من مهام وخدمات لصالح الدولة المغربية، وعلى رأسها: تكليفه من طرف الملك الحسن الثاني للقيام بشرح أبعاد وأهداف معاهدة الاتحاد العربي الأفريقي مع ليبيا في صيف 1984. ونيله عضوية أكاديمية المملكة المغربية في أبريل 1985، وعضوية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في مايو 1990 إلى ديسمبر2002. عاش تجربة سياسية بدأت في صفوف اليسار، ورافق المهدي بن بركة فترة غير قصيرة، وسافر معه في إطار حركة عدم الانحياز إلى عدد من الدول الغربية. كانت بصمته واضحة في صياغة تقرير "الاختيار الثوري" الذي قدّمه بن بركة للمؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) عام 1962، ترشح في يونيو 1977 للانتخابات التشريعية في الدار البيضاء باسم حزب الاتحاد الاشتراكي. وأيضا موافقته على تكليف الملك الحسن الثاني له بالاتصال باليسار الفرنسي عام 1990 و1991، واستثمار علاقاته القديمة معه لتجاوز أزمة توتر العلاقات المغربية الفرنسية حينئذ. كما سعى لدى اليسار الأوروبي بشكل عام لإيقاف الحملة الإعلامية والسياسية على المغرب، ورافق الملك محمد السادس لما كان وليا للعهد في زيارات أفريقية وآسيوية وأوروبية.

 

من خلال ما سبق، يبدو أنه يغلب عليه طابع "المؤرخين" أو "منطق المؤرخين" لأسباب نذكر من بينها أنه لا يهتم إلا بالدولة القائمة، ولا يبحث عن "الدولة الفضلى"، وهذا ما يظهر بجلاء عندما يتحدث عن "هيغل" بحيث يقول "سيتضح لفيلسوفنا أنه لن يدرك أبدا مفهوم "الدولة" إذا هو إنساق وراء البحث عن "الدولة الفضلى" إذا ابتعد عن "القائم الموجود" ملتجئا إلى "تصورات خيالية"، وكما سبق أن أوضحنا أنه، يعترض على عالم الاجتماع الكبير ماكس فيبر قائلا: إن ربط الدولة الحديثة بالعقلانية وتخصيصها لأوروبا وحدها مسألتان ظنيتان على كل حال... خاصة وأن "فيبـر" يعارض في هذه النقطة المؤرخين أنصار القومية من جهة، والاقتصاديين الماركسيين أنصار الطبقة من جهة. لقد سبق وأن قلنا إن العروي "مؤرخ"، وسنبين أنه من "أنصار القومية" في حينه وأوانه، إلا أن العروي -بصفته مؤرخا- اعترف أنه يصعب تحديد مفهوم "الدولة" بدون الرجوع إلى ما كتب حولها، وفي هذا السياق يقول: من يستطيع اليوم أن يعطي للدولة تحديدا شكليا قطعيا بدون رجوع إلى التاريخ والاجتماع والاقتصاد والنظريات السياسية؟ وهو ما سيفعله بالضبط حينما سيعود إلى تصورات علماء الاجتماع حول مفهوم الدولة. فلنجمل محصلات هذه الدعوة التاريخانية التي تضع شروط الحياة الفعلية بين قوسين.

 

نقص المعرفة أولا، من الذي يهتم بمعرفة الناقص، إن كانت متاحة له معرفة "عالم المثل" الأوروبي؟ معرفة الواقع النثري المنظور، الناقص، لا بد أن تكون ناقصة ونثرية هي ذاتها. لا داعي لها، إذن. العروي يقول ذلك بالحرف تقريبا، يقول إن خلاصة تحليلاته تقود إلى استنتاج واحد: استبعاد كل معرفة موضوعية للمجتمع العربي. هذا لأن عرب اليوم: يحتقرون الحاضر الذي يعيشونه إلى حد أنهم لا يرونه جديرا بالدراسة. سيكون فعل المعرفة الجيد، بالمقابل، هو متابعة تيارات الفكر الغربية، والغربية حصرا (ليس الهندية أو البرازيلية أو التركية أو الإيرانية...)، ومحاكاتها. أن نوسع اطلاعنا على هذه التيارات، لكن مع العيش في الواقع الواقعي والانخراط في صراعاته لا يبدو خيارا جاذبا. أجزم أن نتاجنا المعرفي متواضع لهذا السبب بالذات، وأن قلة نظرياتنا المبتكرة ومناهجنا الجديدة ومساهماتنا الأساسية في العلوم أصلها هنا .

 

العروي يتحفظ عن تيارات فكرية غربية، ما بعد البنيوية الفرنسية وما بعد الحداثة، لكن هذا التحفظ يبدو ذاتيا، تجميدا مصطنعا لتطورات فكرية تضمر تحولات اجتماعية واقتصادية، باسم طور بعينه من أطوار حداثة الغرب. هذا قرار تعسفي، يفقر صورة الغرب، بعد أن كان اختيار الغرب مستقبلا ماضيا أفقر العالم ونظرتنا إلى العالم، وهو يعكس الطابع الوظيفي التعبوي لدعوة العروي التاريخانية، ثم هشاشة الثقافة. الواقع "الصلب" ممانعة مبدئية للتشكيل والتمثيل والتغيير، والثقافة نتاج التوقف أمام الممانعة، أو الصراع مع الواقع. لا تتشكل ثقافة ذات شأن قبالة واقع ذي قابلية تامة للتشكل على ما تصادر تاريخانية العروي، والتاريخانية الموضوعية لعموم الحداثويين، بل عبر مقاومة ممانعته ومحاولة التغلب عليها. كانت مشكلة الأدب الاشتراكي أنه افترض مطواعية الواقع، مما أدى إلى النزعة "الإرادوية المزدرية" للثقافة. هذا الأدب متواضع لذلك بالذات. وانتهى إلى الدعاية للمذهب لأن الحقيقة (الحق والجمال والخير) معروفة سلفا ومكنونة فيه (في المذهب).

 

وبإعدام الواقع "الواقعي" على مذبح الواقع "الموضوعي"، أيّ موضوع يتكون للثقافة؟ غاية ما يتكون ثقافة "تعبوية"، "إرادوية" في البداية، ثم إدارية مع تسرب الملل إلى النفوس ووهن العزائم، من نوع تلك التي كانت قد تطورت في الاتحاد السوفياتي على أرضية اعتبار الواقع مطواعا تشكله الإرادة الثورية كما تشاء، أو "صفحة بيضاء" يخط عليها أمثال "ماوتسي تونغ" المصير الذي يرتأون لمئات الملايين. لكن ربما في لحظة معينة يصبح الواقع الموضوعي هو واقعنا الواقعي، فنبدأ بإنتاج المعرفة والثقافة والفن بمنطق واقعي وفكر مفتوح؟ لم يحصل ذلك في الاتحاد السوفياتي الذي انقلبت الثقافة فيه إلى إدارة، والفكر إلى ملخصات، والسياسة إلى مخابرات. وليس هناك ما يسوغ الاعتقاد بأن "الموضوعيين" بيننا سيغدون "واقعيين". ما تدره "الموضوعية" من سلطة وتحكم يقف عائقا أمام "واقعية" عامة مهمشة .

 

وفي المقام الثالث تسلطية السياسة. يتوافق الموقف المعرفي الأساسي مع إنكار المواطنة المعرفية للوقائع كما سبق القول، فيخفض من شأن واقع حياة الناس وتجاربهم وأشواقهم وإبداعهم وعلاقاتهم. هذا التخفيض يقوض فرص المواطنة الحقوقية والسياسية لمن يعيشون في الواقع الواقعي وحده. المواطنة لا تتأسس على أرض كهذه. بالمقابل، يرفع البرنامج التاريخاني من شأن نخبة محدودة من السياسيين والمثقفين، أو بالأصح السياسيين-المثقفين "الموضوعيين" و"العقلانيين"، الممنوحين "دورا إيجابيا". ومقابل الواقعيْن، الواقعي والموضوعي، تنشأ ثقافتان، واحدة واقعية لكن فقيرة، لا يجد أهلها ما يحد من إملاقهم الثقافي غير دين آبائهم القديم، والثانية موضوعية، يتداول أهلها المعارف العقلانية والفنون التقدمية والمفاهيم العصرية التي تقول لهم إنهم من أهل التقدم والحداثة، السلطة لهم والمجد. وبقدر ما تمسي هذه الثقافة أساسا لتميز نخبة، يتدهور محتواها التحرري والديمقراطي .

 

وبما أن بنية المجتمع الذي ترد منه المفاهيم، أوروبا، ترتسم في أفقنا الذهني، وأن على جهود تدارك التأخر أن تنطلق من هذا الارتسام لتثمر، فإن ما سوف نراه لن يتعدى ما هو منظم ورسمي ومُضاء وفوق وعقل ووعي، وما هو دولة ونخبة وترتيب ومركز ومدينة وبرجوازية، وقوي و"أوروبي" و"مثقف" بالمعنى الإيديولوجي للكلمة، أي ما أسميه "العالم الأول الداخلي"، بينما ينزوي غير مرئي كل ما هو حواس وغير منظم وغير نظامي ومعتم وتحت وأمي ومجتمع وفقير وريف ومحيط وضعيف وعام ومحلي (العالم الثالث الداخلي). وسيجد المثقف المبرمج على "الواقع الموضوعي" نفسه أقرب إلى نخب السلطة التي تنظم وتحرس هذا القطاع المنظم والمضاء والنخبوي من القطاعات المعتمة، غير المنظمة، والشعبية. هذا الانقسام بين أمتين وعالمين مسجل في برنامج المثقف الذي صممه العروي، برنامج تحقيق الحداثة، أو أوروبا، أو الغرب .

 

المعرفة لا لزوم لها أيضا، فبما أن الأصل الواقعي لعدم الاعتراف بالواقع هو "أولوية العمل" ، أسبقية تغيير الواقع على أي شيء آخر، إرادة التقدم والتمدن، "الوازع العملي أو الهم الإنجازي" على قول العروي نفسه ، فإن المعرفة مؤجلة. أسباب مشروعة جدا ومهيبة هي ما سوغت الغفلة عن حاجة حيوية جدا، لكن أقل هيبة: التلبث أمام الواقع الواقعي ومعاناته والاعتراف به ومعرفته، والعمل على الربط بين هذه المعرفة وبين الواقعين الواقعيين من الناس. بـ"الهم الإنجازي" من ناحية، ولكون "الوقت محسوبا لدينا" من ناحية ثانية، يبرر العروي تراوحنا داخل "الدولة القومية" بين "الإحجام عن التفكير" وبين التفكير بالمثل أو المماثلة.

 

ويحضرنا هنا جواب العروي عن سؤال وجهه إليه الأستاذ محمد وقيدي، في إطار حوار حول "الفكر الخلدوني" جاء فيه: إنها محاولة تحليل مفاهيم أساسية ثلاثة هي مفهوم الدولة أو المخزن، مفهوم القبيلة، ومفهوم الزاوية. هذه المفاهيم إما أن الإنسان يأخذها كوقائع تاريخية ويدرسها استنادا على مفاهيم أخرى كيفما كان نوع هذه المفاهيم، وإما أننا نأخذ هذه المفاهيم وندرسها كما كان يفهمها سكان المغرب في الوقت المعني... أي تحليل هذه المفاهيم من الداخل رجوعا إلى المعنيين بالأمر أي المغاربة في القرن 19..ليس هو التحليل النهائي وإنما هو النقطة الأولية الأساسية التي تقودنا بعد ذلك إلى تحليل آخر من الخارج.. ولذلك لا تنتظر جوابا نهائيا في هذه الناحية.

 

الدولة والمخزن، مؤسستان أم مؤسسة واحدة؟

سأركز بداية على معنى "المخزن" كنظام؟ وجذوره ضاربة في عمق الماضي المغربي، وكثابت ومتحكم في المسار التاريخي للمغرب والمغاربة؟ ما هي العوامل الكامنة خلف استمراريته، انطلاقا من مفهومه في المشروع الفكري للأستاذ عبد الله العروي.

 

إلى حدود عام 1956، كان يسوس المغرب سلطان، ويحف بحضرته مخزن، وليس ملكا تساعده حكومة. و هو في الواقع نسق في التسيير يعكس طبيعة العلاقة بصانع الكون، على اعتبار أن السلطان خليفة الله في الأرض. و تقوم القاعدة الأصلية المؤسسة للسلطة السياسية على البيعة كصيغة لإضفاء الشرعية على النظام، و تعبر في شكلها ومضمونها على فكرتي اليمين والعقد الواردة في الآية: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).

 

"المخزن" في نظر ابن خلدون هو سلطان، قبيلة أو زاوية. في الحالة الأولى تغلب على الدولة خصائص القبيلة في تنظيماتها وسياستها وغاياتها كما كان الأمر أيام المرابطين والمرينيين وغيرهم. وفي الحالة الثانية تغلب صفات الزاوية كما عند الأدارسة والفاطميين والسعديين وبأحرى الدلائيين. وفي الحالتين المخزن تنظيم مضاف، يتلخص في "جيش وديوان"، أي "سيف وقلم". من يحمل هذا أو ذاك، الجندي والكاتب، فهو مخزني، وأسرته مخزنية متى توارث فيها المنصب. المخزني صاحب " كلمة"، يتلقاها ويبلغها، له مأمورية، يأمر ليطاع لأنه هو "مأمور مطيع". المخزن بالتحصيل هو البنية البشرية للدولة: في معناه الضيق، يتعلق الأمر بالمشتغلين في الجهاز الإداري أي الجيش والبيروقراطية. وهما العنصران الأساسيان المكونان له، وكل من يتقاضى أجرا من الخزينة السلطانية، وليس ممن يتم تعويضهم من مال الأحباس كأعضاء الإدارة الحضرية، والهيأة المكلفة بالحفاظ على الأمن في المدن، وإلى حد ما في القرى. أما في معناه الواسع فيشمل جميع الجماعات المشكلة لأعضاء المخزن الضيق؛ الخاصة وقبائل الكيش، الشرفاء والعلماء والأعيان والمرابطون المنتشرون في البوادي. وهم إجمالا من يحضون بالصلاة، أي الهدايا ويملكون ظهائر التوقير والاحترام أو بإمكانهم الحصول عليها، ومن يعتبرون أنفسهم جزءا من المخزن تأسيسا على إقراره لهم بفضائل لا تتوفر في العامة. بهذا التعريف يؤكد العروي على الطابع الأساس للمخزن أنه مؤسلم وعربي ومعرب، ويستند إلى القوى المحلية لمقاومة البلاد التي تقاومه ويفرض نفسه بشكل شبه مستديم على المناطق الخارجة عن سلطته بالاعتماد على قوى محلية كالزوايا والزعامات، مفندا مقولة كون المخزن قبيلة حاكمة أو إقطاعية أو نموذجا للاستبداد الشرقي .

 

العامة هم من يباشرون الأشياء؛ من فلاحين وكسابين وصناع وتجار، أصحاب مهن متميزة، وعلاقتهم بالإنتاج أظهر وأوثق. والخاصة هم من يباشرون البشر من شرفاء وعلماء وشيوخ وقادة. وفوق هؤلاء وأولئك يوجد الحكام أهل الحل والعقد، أصحاب الأمر والكلمة. فهم إما عسكر "السيف" وإما كتاب "القلم" وإما قضاة "الشرع": الشرفاء والعلماء والشيوخ… هيئات متميزة، لكن تجمعهم ظاهرة، كونهم لا يباشرون الإنتاج. فهل من شريف فلاح أو عالم صانع إلا مضطرا أو زاهدا !! إلى حدود القرن 19 ظل الجيش يرمز إلى النظام القديم ولم يحدث فيه أي تغيير، بينما شهد الجهاز البيروقراطي تطورا ملموسا دون أن يصل به الأمر إلى درجة حصول قطيعة مع الماضي. لكن هذا القرن شهد تطورا في المراتب المرتبطة بالإدارة المركزية المتمثلة في "البنيقات" بشكل يمكن الحديث عن بيروقراطية وازنة، بسبب اتساع حجم العلاقات بين المغرب وأوروبا. ودأب المتعاملون الفرنسيون معها في نهاية القرن إلى الإشارة إليها بعبارة "Administration maure" .

 

يشير الأستاذ عبد الله العروي إلى ارتباط ظهور أجهزة المخزن  ببذور فكرة الدولة بمفهومها العصري، حيث أضحت الكلمة تطلق على مجموع أرض المغرب على شكل هيأة إدارية وتراتبية اجتماعية وعلى سلوك ومراسيم، بمعنى أن المخزن كان سيفا وقلما، نما وتطور في كل دولة وإمارة تعاقبت في المغرب، حتى في الدولة "الزيانية" التي كانت أقل اتساعا وغنى . مما يقيم البينة على أنه: وجد في المغرب خلال القرن التاسع عشر دولة ومجتمع بكل ما يعنيه المفهومان، أي أن البلاد لم تكن كما يعتقد شتات قبائل مستقلة . المهم أنه: توجد عندنا "ذهنية مخزنية" تفوق في تميزها و فرادها ما يماثلها اليوم في مجتمعات أخرى .

 

تعد "الخدمة المخزنية" بابا من أبواب الثروة والترقي وفرصة سانحة للإثراء، بشرط الولاء والتفاني في الخدمة، منذ النصف الأول من القرن 19: الولاء عند مخزنيينا تام وكذلك الخضوع وكذلك الكتمان. لا شخصية لرجل المخزن سوى "المخزنية"؛ بانتمائه إلى المخزن باحتمائه به، يكون قد حط الجمل عن كتفه، لا غاية له لا شغل له، سوى انتظار الأوامر وتبليغها. هذه الذهنية لا تنحصر في رجال المخزن، وهم قلة بل تنتشر آليا في سائر المجتمع .

 

والمنصب الحكومي يوفر لصاحبه النفوذ والسلطة كما يتيح له اقتناء أموال منقولة وعقارات يحصلها في غالب الأحيان مما للدولة أو مما للجماعة. وتجار السلطان فئة من المحظوظين يحصلون على امتياز يمنه إياهم السلطان لممارسة التجارة الخارجية مع الأجانب، في إطار سياسي عام كان أساسه التحكم السلطوي في المال. والسلطة عندما كانت تخول أحد المستفيدين نصيبا من الجاه، فقد كانت تعطيه فرصة تحصيل "ثروة غير عادية"، والجاه أساس السلطة، وهو السبيل إلى الاغتناء كما قال ابن خلدون، فإن كان متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقا قليلا فمثله. فكل من لم يملك جاها أي صلة وطيدة بماسكي الأمور في الدولة، بما يمكنه من ممارسة القهر والعسف والتسلط على مراتب المجتمع الفاقدة للجاه وللتحصيل. والمخزن يغدق على خدامه الأوفياء ويجازيهم خير الجزاء، لكنه يتصرف مع خدامه المثرين وكأنهم مستغرقو الذمة. يفرض الضرائب ويستخلصها دون أية معايير موضوعية، ويترك لأعوانه ضمنيا هامشا لأخذ نصيبهم من تلك الضرائب. وضع لا يختلف عما يجري اليوم في الألفية الثالثة. باختصار، النظام المخزني قائم على ابتزاز فئات واسعة من المجتمع، مقابل تمتيع فئات محظوظة بامتيازات ريعية غليظة. يقوم على هاجس الأمن والتخويف وليس على النجاعة الاقتصادية. وما شهدته أحداث الحسيمة وجرادة شاهد على ذلك .

 

وتميزت طائفة من النخبة السياسية بعداء شديد للإصلاح ولأي تغيير في الأوضاع القائمة في البلاد. وقد سعى الاستعمار منذ توقيع اتفاقية الحماية سنة 1912، إلى الحفاظ على ثيوقراطية الحكم السلطاني، للوقوف ضد أي محاولة ترمي إلى الأخذ بأسلوب المؤسسات البرلمانية الفرنسية، بهدف الحفاظ على المظاهر الخاصة بالتقاليد، وفطن إلى منفذي النزوع التقليدي الوراثي عبر الاتكال على ذوي النفوذ المحليين، فأوكل للأعيان مهمة مراقبة العالم القروي التقليدي،  وتم تلقيح "المخزن التقليدي" بــ "إدارة الحماية"، مع الاحتفاظ بمسألة التداخل بين الديني والزمني، وركبت السياسة انطلاقا من هذه المستويات المتناقضة؛ فلجوء النظام السياسي المغربي بعد الاستقلال إلى تبني مفهوم الدولة الحديثة لم يمنعه من الإبقاء، موازاة مع ذلك، على أنظمة ومفاهيم تقليدانية، يوظفها بالطريقة التي تمكنه من الحفاظ على استراتيجيته المحبوكة في الحكم. وهي  إفراز الحماية، يقول: كانت الدولة المغربية مزدوجة (وإن توحدت رمزيا في القمة)، لغتان، ثقافتان، اقتصادان، قانونان. كانت هناك دولة وافدة، بمعالمها ونظمها، هيئاتها، يرأسها المقيم العام، ودولة أصيلة على رأسها إمام شريف .

 

واصل الامتداد المخزني حضوره في المغرب، باعتماد سياسة الريع أسلوبا في الحكم، لدرجة أضحى معها السمة المميزة له، وباعتماد الدولة الحديثة مع الاحتفاظ بالتقليدانية. تم تفكيك بنية "المخزن" كجهاز سلطوي تقليدي، ذي عمق تاريخي وتراتبية خاصة وشبكات امتدادات وهيمنة متجذرة في أعماق المجتمع، وإعادة هيكلته بميكانيزمات العصر الحديث، مع تقوية وتعميق آليات السيطرة والهيمنة القديمة، ليضحى النظام المغربي خاضعا لمنطق المساكنة والمجاورة بين التحديث والتقليد، بمعنى أنه مبني على خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا:

 

- الأول، خط مخزني مغرق في التقليد المتوارث والتقليدانية. وهو صورة عامة للنظام المغربي التقليدي في مرحلة كان فيها ما يزال في منأى عن مصادر التأثير الأوروبي؛

- الثاني، خط تحديثي ممثل بالمؤسسات الحديثة الناجمة عن الاتصال بالآخر(الغرب)؛ حيث مر الزمن وتغيرت الظروف ومعها الألفاظ والتعابير، شعب ونخبة وحكومة، جيش وبيروقراطية وقوانين، سيادة وتفويض وتنفيذ: عاد الجيش وعادت الإدارة في غالبيتها مستحدثة بيد ممثل الدولة الحامية لكون معاهدة الحماية عقد تفويض. كلف الممثل المذكور بإصلاح ما هو قائم، وإنشاء الدوالب الناقصة والضرورية في مفهوم الدولة الحديثة. وهكذا في ظرف نصف قرن شيد على أرض المغرب مجتمع جديد بقاعدته الإنتاجية وتنظيماته الاجتماعية ولغته وثقافته وعقيدته الخاصة، مجاور للمجتمع الأصلي، غير متداخل معه. وعبر هذه التركيبة تتعايش المؤسستان وتشتركان في عملية التسنين (traditionalisation) بتعبير الأستاذ العروي، أي الانتماء لنظام اجتماعي معين يتجسد في سلوك محافظ تكراري، بمثابة حاجز وقائي ضد عوامل التغيير والتحول، يقوم على إعادة إنتاج النظام، بثقافته التقليدية الحية، بتربيته الأولية الغالبة، وإعطائه مبررات الاستمرارية والقوة الرمزية والإيديولوجية والتي تتقوى فاعليتها زمن الأزمات، له قاعدة إنتاجية، يبحث فيها الاقتصاديون تتداخل فيها عوامل عتيقة وأخرى مستجدة يقول العروي: تتعاقب الأجيال، يتتابع الحكام، يتبدل الأشخاص، ويبقى النظام على حاله، ثابتا راسخا، وكذلك الذهنية العامة. والتسنين اختيار تقليدي واعي بذاته وبأهدافه، وليس وصفا موضوعيا لما مضى وانقضى، بل هو تركيب حداثة/تقليد. واختيار يتم وفق مصالح قوى اجتماعية معينة تروم الحفاظ على وضعها وتطلعها للمستقبل، بجعله أداة توظيف سياسي لخدمة مصالحها، حيث تعيد البنية إعادة إنتاج النخبة وثقافة المجتمع المغربي بصفة عامة: الفقه باعتباره ثقافة العلماء، الآداب بما فيها الفلكلور بوصفها ثقافة المخزن، التصوف يشكل ثقافة الشعب، غير أن وراء تنـوع الإبداعات الثقافية توجد منهجية وحيدة تؤسس للإيديولوجيا التي هي الضامنة للنزعة التقليدية المغربية.

 

يقول الأستاذ العروي: كان "علال الفاسي" لا يقبل يد الملك وقبلها "محمد بوستة"، كذلك "عبد الرحمن اليوسفي" لا يقبل يد الملك الجديد، وقبلها مرتين الوزراء الشبان. تنتعش المخزنية بتجدد الأجيال حيث تكثر المنافسة. ويعلق "حب الولاء هوى كل مغربي"، إذ يتأكد عجز النخب عموما والنخبة المثقفة على الأخص والسياسية على وجه الخصوص وأوهامها عن مقاومة التطويع.

 

الدولة المغربية التقليدية "المخزن" كما يقول الأستاذ العروي: جيش ونظام، شرف وشرع وقيادة، الحاصل تطابق بين النوازع النفسانية والهيئات الاجتماعية والتنظيمات السياسية والوظائف التي يقوم بها متولي الأمر، فهو بذلك سلطان وأمير وإمام وشريف وقاض...

 

الهوامش:

1- عبد القادر الشاوي، حوار مع عبد الله العروي، أجراه عبد الله ساعف، عن موقع ذاكرة الفكر، مجلة آفاق، عدد 4/3، الرباط 1992، ص 147 إلى 190، شوهد في: 23/3/2020، فيhttp://www.arabphilosophers.com/

2- العروي، الدولة، ص 77.

3- العروي، الدولة، ص 74.

4- العروي، الدولة، ص 73-75.

5- العروي، الدولة، ص 78-86.

6- العروي، الدولة، ص 63.

7- وزي وزي، ما أنواع أنظمة الحكم،25/3/2020، على الرابط: https://sotor.com/

8- زين الدين الحبيب استاتي، محاضرات الفكر السياسي : الفكر السياسي الاستبدادي ، 2020/2019

9-      عبد الرحيم العلام، سؤال الدولة والدين عند مكيافيلي وابن خلدون، 26/3/2020،  على الرابط: https://caus.org.lb/ar/

10- موضوعي حول، دور الدين في إرساء نُظم الحُكم: تطابق الرؤية الميكافيلية مع التصور الخلدوني، السداسي السادس، قانون عام، 19/20.

11- العروي، الدولة، ص 125.

12- بووشمة، نفسه.

13- بووشمة، نفسه.

14- العروي، الدولة، ص 5.

15- العروي، الدولة، ص 22.

16- عبد السلام بنعبد العالي، نقد العقل العربي الإسلامي: حول كتاب "مفهوم العقل" لعبد الله العروي، شوهد في: 13/3/2020، في  https://www.aljabriabed.net

17- بنعبد العالي، نفسه.

18-    وريف عوادين، عبد الله العروي،16/5/2016، شوهد في: 16/3/2020، في  https://www.facebook.com

19- بووشمة، نفسه.

20- بووشمة، نفسه.

21- بووشمة، نفسه.

22- بووشمة، نفسه.

23- ياسين الحاج صالح، في نقد عبدالله العروي: المثقف العربي برنامجاً لتحقيق الحداثة، عدد 11، ربيع 2015، شوهد في: 23/3/2020، في http://www.kalamonreview.org 

24- الحاج صالح، نفسه.

25- الحاج صالح، نفسه.

26- الحاج صالح، نفسه.

27- إن العروي حين يتكلم على الغرب أو أوروبا فإنه يحيل إلى الحداثة والعقلانية والليبرالية والعلمانية والبرجوازية، الغرب العام أو الكوني في تصوره، وليس إلى الغرب الخاص، الثقافي (يهودي مسيحي)، أو السياسي. تحقيق الغرب هو التحديث والعقلنة على هدي ما تحقق في الغرب. هذا في رأيي برنامج فوقي وغير ديمقراطي، لكن لا وجه عادلا لاستثمار إسلامي أو قومي عربي لنقد هذا البرنامج.

28- عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ط 3، ( بيروت / الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1995 )، ص 94. هذه الطبعة من الكتاب ترجمها العروي نفسه في ”صياغة جديدة“، متحفظا عن ترجمة المرحوم محمد عيتاني للكتاب عام 1970. وفي هذا ما يقول إنه مثابر على البرنامج التاريخاني، الأمر الذي أشار إليه باقتضاب دون توضيح في السنة والإصلاح (2008). ص 190.

29- العروي، الإيديولوجية، 160

30- العروي، الإيديولوجية، 160.

31- منشورات جريدة الإتحاد الإشتراكي، حوار حول الفكر الخلدوني، ع 4، ( الدر البيضاء: دذار النشر المغربية، 1986)، ص 26 و 27.

32- خديجة صبار، المغرب: نظيمة المخزن، تركيبتها ودورها في تكريس التقليدانية، 10/4/2018، شوهد في: 23/6/2020، في https://www.raialyoum.com/

33- صبار، نفسه.

34- صبار، نفسه.

35- عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، ج 2، (البيضاء/لبنان: المركز الثقافي العربي، 1994)، ص 209 و210.

36- عبد الله العروي، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912، ط 1،( الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، 2016 )،  ص 170.

37- العروي، الأصول، ص 170.

38- العروي، من ديوان السياسة، ط ،( الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2010 )، ص 31.

39- صبار، نفسه.

40- Rémy Leveau, le fellah marocain, défenseur du trône, 1985, p7

41- العروي، من ديوان السياسة، ص 113.

42- العروي، من ديوان السياسة ، ص 112.

43- العروي، من ديوان السياسة، ص 113.

44-Abdallah Laroui , les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain 1830-1912,P 228

45- العروي، خواطر الصباح: يوميات 1967-1973، ط 1، ( الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2001)، ص 9.

46- العروي، خواطر، ص 72.