نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم الدولة" (الحلقة 3)

نورالدين السعيدي حيون: العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي من خلال كتابه "مفهوم الدولة" (الحلقة 3) نور الدين السعيدي حيون (مع مؤلف عبد الله العروي "مفهوم الدولة")

"بفضل علمه بالتاريخ الأيديولوجي للعالم العربي وكذا لأوروبا، وبمعرفته لمناهج التحليل التي كونها العالم الحديث (....) وبفضل تفتحه ويقظته بإزاء كل ما يستحق عناية إنسان ذكي وحر، أخضع (العروي) أهم قضايا العالم الذي ينتمي إليه إلى أعقل تحليل ممكن"، ماكسيم رودنسون

 

مفهوم الدولة السلطانية وطوبى الخلافة:

إنها تعبير عن سمات "الدولة التقليدية"، أي حالة "الدولة السلطانية" التي تحدث عنها العروي، يقول: منذ قرون والدولة في البلاد العربية الإسلامية سلطانية، ولكن ماذا تعني سلطانية؟ تعني ببساطة أن الدولة يحكمها سلطان يقول إنه "خليفة الله" في أرضه -لا رسول الله بين الناس- يقول إنه "ظل الله" في الأرض -أي أن لا عدل في الأرض إلا تحت رايته- وأن الله "أورثه" الأرض ومن عليها، بحيث أن الخزينة والبيروقراطية والجيش... كل ذلك، مُلْكٌ له يتصرف فيه كما يشاء، ذلك أن الجيش هو يَدُ السلطان يُحارب في الداخل أكثر مما يُواجه الخارج، والضرائب هي غرامة تُقَدرُ بما يحتاج إليه الأمير، لا بما تستطيع تَحَمُلَهً الرعية، تنتزع غصبا من التاجر والفلاح والصانع والموظف... أما الإدارة فهي في الغالب تحت إمْرَة أفراد يَؤتَمنُونَ على مال السلطان، من نقود وعروض وماشية وعقار. هذا هو حال أجهزة دولة السلطنة، فما هو يا ترى حال الفرد داخل الدولة السلطانية؟ .

 

يقول العروي: ما من دولة سلطانية إلا والفرد فيها مستعبد فيها، بل إن الفرد داخل الدولة مُسْتَعْبَدٌ بالتعريف، فلا يعرف الحرية إلا إذا خرج منها أو عليها، وهو ما يبين أن ما يَنْقُصُ السلطنة هو الحرية كهدف لكل فرد، لذلك قيل "لا حرية في نظام السلطنة". وهذا على خلاف الدولة الليبرالية التي كانت وَطْأَتُهَا خفيفة على الفرد في أوروبا، وهو ما يبين أن الدولة السلطانية كانت دولة القهر والسطو والاستغلال، بل إنها جهاز قمعي صرف، لا يتوفر على "أدلوجة تبريرية" تخلق له إجماعا وتكسبه ولاء الأفراد. وهذا ما أدى بالفلاسفة إلى رفض نظام السلطنة رفضا مطلقا، وحَذَا بهم إلى اتخاذ مواقف انعزالية عن الحياة السياسية مثل المتصوفة. وهذا ليس خاصا فقط بنموذج الدولة السلطانية، بل نجد بعض مظاهره حتى في "دولة التنظيمات"، وفي هذا السياق يقول العروي: لا يمثل الإصلاح قطيعة مع الماضي بل يعني تثبيت النظام القديم بمميزاته الجوهرية"؛ بحيث أن الإصلاح كان يهدف في مرحلته الأولى إلى تقوية الدولة السلطانية، هذا بالإضافة إلى أن جميع المؤلفين "الإصلاحيين" كانوا يُطيلُون الكلام عن "العدل" جاعلين منه مرادفا للإصلاح و"العدل" -بالنسبة لهم- تَقَيُدْ السلطان بقواعد الشرع، وهو ما يبين أنهم لم يسعوا إلى الإطاحة بنظام السلطنة، بل كانوا يسعون فقط إلى تقييد السلطان بقواعد الشرع مع الحفاظ على النظام القائم.

 

هذا هو حال "الدولة العربية الإسلامية التقليدية"، سواء كانت "الدولة سلطانية" أو "دولة التنظيمات"، بل حتى "الدولة العربية الحالية" مازالت "غير عقلانية" هذا حكم قال به المفكر التونسي "هشام جعيط" وإن كان هذا الأخير قد قيد الحكم بدولة تونس، فإن العروي يقيس على ذلك بالقول: إن هذا الحكم قابل التعميم" هذا كان موقف الأستاذ العروي من الدولة في العالم العربي متفقا مع الباحث التونسي هشام جعيط، وتلك كانت سمات الدولة العربية الإسلامية التقليدية من دولة السلطنة إلى دولة التنظيمات .

 

يرفض الفلاسفة السلطنة رفضا مطلقا، لكن الرفض المطلق يعني في آخر تحليل عدم إدراك الشيء المرفوض. وهذا هو بالضبط لب اعتراض ابن خلدون عليهم. ثم يضيف: إن الطوبى السياسية في الإسلام -تلك التي يسميها الفقيه خلافة والفيلسوف مدينة فاضلة- هي ظل السلطنة القائمة. وذلك بمعنيين مختلفين. هي أولا نتيجة عكسية، صورة مقلوبة للوضع القائم في القلوب والأذهان المتضايقة منه. وهي ثانيا وسيلة لتقويته وتكريسه، فتنقلب بالضرورة الطوبى إلى أدلوجة. يعيش المرء تحت سلطان ويتخيل نظاما لا يحتاج إلى سلطان (الوازع فيه ذاتي لا خارجي) حسب التعبير الخلدوني، فيقول له الفقيه: ذلك هو الخلافة. ويقول له الفيلسوف: هي المدينة الفاضلة ويقول الصوفي: تلك هي طريقة الإخوان.. هكذا نرى أن المفكرين المسلمين يتفقون في تصورهم لطبيعة الدولة، ويستعملون مفهوما واحدا، هو الذي نجده في القاموس تحت مادة دول. ثم يخلص إلى القول: هذا هو واقع الدولة؛ مفهومها هو التسلط. لا يمكن تصور دولة بلا قهر وبلا استئثار جماعة معينة للخيرات المتوفرة. وبالمقابل لا يمكن تصور الحرية إلا خارج الدولة، أي في نطاق الطوبى. وفي نظره: فالحكم إما ملك طبيعي بحت، وإما خلافة صورية تحافظ على معالم الشريعة لكن يستحيل فيها الوازع من ديني إلى طبيعي قبلي, بتعبير ابن خلدون .

 

لنأخذ الآن -يقول العروي- نموذجا "للدولة التقليدية" من الضفة الأخرى، حتى نتبين معالم "التقليد" بشكل واضح على مستوى "الأجهزة" ولتكن هي "دولة النمسا" في القرن 18، ولنتساءل كيف كانت تسير إدارتها؟ وكيف كانت تدبر اقتصادها؟ ومماذا كان يتكون جيشها؟ وكيف كانت توجه تعليمها؟ كانت "دولة النمسا" -في القرن الثامن- تخضع لنظام إمبراطوري وجيشها يتكون من المرتزقة، بالإضافة إلى أنه متعدد الجنسيات، والجندي النمساوي كان دائما تحث تصرف الإمبراطور، ومن النافل القول انه كان أرستقراطيا مُتَعَودٌ على الخضوع الأعمى. أما إدارتها فكانت تعتمد على الأعراف المتعددة، في حين أن اقتصادها استهلاكي، وسوقها الاقتصادية مجزأة... أما تعليمها فهو تحت وصاية المؤسسة الكنسية مما يبين نوعية المعرفة المهيمنة... بالإضافة إلى أن التعليم فيها أدبي ويدرس بعدة لهجات.

 

هذه هي أهم سمات الدولة التقليدية -باقتضاب- حسب العروي، وبعد أن عرفنا سمات الدولة التقليدية، يحق لنا الآن أن ننتقل على سمات الدولة الحديثة، وأين يمكن "تقطع" هذه الأخيرة مع سمات الدولة التقليدية ؟ وقبل تحديد سمات الدولة الحديثة فلنتساءل عن مفهومها أولا؟

 

يقول العروي: لم نجد نظرية الدولة، بمعنى محدد، في الفكر السياسي التقليدي، ولم نجدها كذلك عند مؤلفي عهد النهضة -يعني بهم المؤلفين الأصلاء، لا التراجمة. والفرق بينهم نسبي بالطبع- بل يمكن القول أن فكر هؤلاء أبعد عن الواقع من التفكير القديم. وقد يكون هذا هو السر فـي اكتشافات ابن خلدون المتوالية وفي عدم القدرة على تجاوزه. إلى أن: نصل إلى جوهر القضية. هل غيرت دولة التنظيمات. المبنية على المنفعة كما يتبينها العقل البشري، نظرة الفرد العربي إلى السلطة؟ هل جعلته يرى فيها تجسيما للإرادة العامة وتجسيدا للأخلاق كما يقول هيغل بعد ماكيافلي؟ بعبارة أخرى، هل جدت في عهد التنظيمات ظروف مؤاتيه لنشأة نظرية الدولة، باعتبارها (أي الدولة) منبع القيم الخلقية ومجال تربية النوع الإنساني حيث يرتفع من رق الشهوات إلى حرية العقل؟، ويجيب على تساؤلاته بالقول: "الجواب على السؤال هو النفي بالتأكيد"، ثم يركز على: أن مفهوم المنفعة العمومية، ركيزة دولة التنظيمات، قد قرب بلا شك السلطة السياسية من المجتمع الانتاجي... لا جدال في أن هذه الظاهرة هي ما يفصل جوهريا دولة التنظيمات عن السلطنة التي سبقتها .

 

لا يمكننا التاريخ، ولا الفلسفة، ولا أي علم متفرد، من تحديد النمط الذي توجد عليه الدولة فعندما ينطلق الباحث من هذا الميدان المعرفي أو ذاك، فإنه يظل يتأرجح بين الملاحظة التجريبية والتشييد الاعتباطي. إن النظرية العامة الموجودة في أعمال "ماركس" هي الوحيدة التي تمكننا من إدراك هذا الوجود المفارق والمألوف معا، غير أن أعمال ماركس لا تحتوي على نظـرية للدولة. فضلا عن ذلك، إن الدولة الحديثة (الحالية) هي التي تكشف عن ماضي الدولة. سبق وأن وضحه ماركس جيدا.

 

بدءا لا يمكن فهم مفهوم الدولة الحديثة عند الأستاذ عبد الله العروي إلا بالرجوع إلى تصورات علماء الاجتماع حول الدولة القائمة، ويمكن أن نعطي نبذة عنها حتى نتبين موقف العروي من أصناف "الدولة القائمة"، وكيف يبني مفهوم الدولة الحديثة انطلاقا من تصورات علماء الاجتماع. وحتى نتبين موقف العروي سنتساءل عن تصوراتهم، وما التي يقبل منها، وما التي يرفضها؟ وما هي سمات الدولة الحديثة؟ وما سمات الدولة التقليدية؟ وأين تقطع الدولة الحديثة مع الدولة التقليدية؟ (42).

 

يُصَنفُ "علماء الاجتماع" أربعة تصورات تعني "الدولة القائمة" النموذج الأول ينفرد به "فريدريك إنجلز" والإثنولوجيين وتسمى بـ "الدولة التاريخية" وهي مرتبطة بالملكية الخاصة، وهذا النموذج نشأ في آسيا الغربية مبني على "نظرية الحق الإلهي في الحكم" والسلطة الفردية المطلقة. أما النموذج الثاني فهو الذي وجد عند "ماركس" في نقده لفلسفة الحق عند "هيغل" وسماه "التنظيمات الجديدة"، واتخذ "ماركس" كنموذج لتلك الدولة، ملكية "فريديريك الثاني" و"لويس الرابع عشر" وإمبراطورية "نابليون الأول"، وهو ما يُلَمحُ إليه العروي بمفهوم الدولة الحديثة، بعد أن يمزجها بالنموذج الثالث؛ وهو الذي ظهر في "اجتماعيات" القرن الماضي والذي نوه بالدولة الصناعية التي تعطي الأولوية للصناعة على الفلاحة في سلم الأولويات، أما النموذج الرابع فهو الذي ظهر أواسط هذا القرن في "الاجتماعيات" والذي سمي بالدولة المعاصرة التي تعتمد على تداخل العلم والصناعة بالإضافة إلى اعتمادها على وسائل الاتصال السمعية والبصرية والإعلاميات حتى سماها العروي بالنموذج الإعلاموي. إلا أن السؤال الذي يبقى مطروحا هو ما هو مفهوم الدولة الحديثة عند عبد الله العروي؟ .

 

يرفض العروي النموذج الأول -"الدولة التاريخية"- ويصفها بأنها نموذج "جد فضفاض"، هذا بالإضافة إلى أنه يقوم على "نظرية الحق الإلهي"، ويستبعد النموذج الرابع على اعتبار أنه "يخص قسما مازال ضئيلا بالنظر إلى المنتظم الدولي"، وبالتالي يبقى النموذجان الثاني والثالث فما هو موقف العروي منهما؟ لنعر أسماعنا إليه يقول العروي: "يبقى النموذجان الثاني والثالث يتداخلان ويؤلفان نموذجا واحدا يسمى بالدولة الحديثة، وهو ما يستعمله الباحثون في العلوم السياسية، وهو ما يسميه العروي أحيانا نموذج "الدولة الحديثة الصناعية"، إلا أن العروي يربط الدولة الحديثة أو العصرية بازدهار الوعي القومي؛ بحيث يقول: "كان المؤرخون ولايزالون يربطون ظهور الدولة الحديثة مع مميزاتها العسكرية والتنظيمية والاقتصادية والثقافية بظاهرة القومية. هذا بالإضافة إلى ربط مفهوم الدولة الحديثة بمفهوم العقلانية، بل إن أصل مميزات الدولة الحديثة هي العقلنة، بل إنها في مقدمة مميزاتها، ويضيف العروي موضحا: و"البيروقراطية" هي عنوان "العقلنة". هذا مع العلم المسبق: أن الدولة بلا حرية ضعيفة متداعية والحرية خارج الدولة طوبى خادعة، بحيث أن السؤال المطروح حسب العروي هو: كيف الحرية في الدولة والدولة بالحرية؟ كيف الحرية بالعقلانية في الدولة؟ كيف الدولة للحرية بالعقلانية؟ .

 

كانت هذه الأسئلة هي محور تفكير الأستاذ العروي، بحيث أن آخر سؤال -كيف الدولة للحرية بالعقلانية؟- هي آخر المفاهيم التي ختم بها كتاب مفهوم الدولة متسائلا كيف: مزاوجة الدولة بالحرية والعقلانية، ذلك كان مفهوم الدولة الحديثة عند عبد الله العروي، أما الآن فَسَنَرْصد تجليات "العقلانية" على مستوى أجهزة الدولة الحديثة.

 

انطلاقا مما سبق يكشف العروي عن الدولة عند ماركس كما سماها هذا الأخير: دولة الحاجة -إرادة الانتاج- التي يعيش فيها الفرد غير المتطلع إلى سواها، وهناك الدولة السياسية المنفصلة عنها، تريد الثانية أن تخضع الأولى لقانونها رغم أنها غير محتاجة إليها؛ ويبسط أستاذنا ذلك بالقول: هذا هو منطق السياسة، وهو ما يعبر عنه "هيغل" بالعقل المطلق أو بالأخلاق الجوهرية، وهذا هو موقف فلسفة الأنوار في نقدها للملكية المطلقة، وموقف الديمقراطية (حكم-الشعب) الذي تبناه اليسار الهيغيلي وورثه ماركس، دولة الحاجة هي المضمون في حين أن الدولة السياسية هي الشكل، كل الفكر الهيغيلي متجه إلى إخضاع المضمون للشكل، وهذه العملية تحمل إسم "العقلنة" ويشرح ذلك بالتفصيل فيقول: هذا هو أصل نظرية العقلانية عند "ماكس فيبر"، بعد أن تداخلت مع إبستيمولوجيا "كانط"، العقلنة تعني في الغالب "الشكلنة".

 

يمكن إجمال سمات الدولة الحديثة في مياسم محورية من أهمها أن المؤسسة العسكرية أو الجيش، مؤسسة ديمقراطية، وأن الجندي يدافع عن الوطن أو التراب... مما يُبين "الحس الوطني"، لديه هذا بالإضافة إلى أنه جيش نظام وشعبي... أما الجهاز الإداري فهو خاضع لقانون موحد... مما أدى إلى ظهور طبقة البيروقراطية والتي هي بمثابة جيش مدني؛ بحيث أنها تتكون من موظفين مختارين على أساس مباراة مفتوحة، مما من شأنه أن يخلق مسألة تكافؤ الفرص... أما في ما يخص جهازها التعليمي فهو تطبيقي، ويعتمد على اللغة الموحدة بالإضافة إلى أنه مؤمم. أما اقتصادها فهو اقتصاد السوق يعتمد على الإنتاج، بالإضافة إلى أن سوقها الاقتصادية موحدة، هذه كانت بالجملة أهم مميزات الدولة الحديثة على مستوى الأجهزة، إلا أن الدولة الحديثة لا تَنْحَلُ فقط في الاجهزة، ذلك أن الدولة الحديثة ذات وجهين، وجه مادي قمعي ووجه أدبي، والأدلوجة هي الوجه الأدبي للجهاز، ذلك إنه لا دولة حقيقية بدون "أدلوجة دولوية" حسب تعبير العروي. لأنها هي التي تجسد مفهومي "الشرعية" و"الإجماع"، ذلك أن الجهاز وحده لا يضمن الاستقرار في عالم تتعدد فيه النزعات العقائدية، وهو ما جعل العروي يقول: إننا لا نُقَيم قوة الدولة أو ضعفها بالنظر إلى جهازها بل على أدلوجتها .

 

ويخلص العروي عند قيامه بملامسة العلاقة بين "ماركس" و"هيغل" -وقبل ذلك يحيط القراء علما أن هذا الأخير بعد أن يعلن أنه يتكلم عن الدولة، بينما هو يتكلم عن المجتمع، كعادته يخالف دائما المقال العنوان- إلى معادلة قال بها لينين في كتابه "الدولة والثورة" حيث: تمثل الدولة الحديثة توافقا بين الدولة السياسية والدولة غير السياسية -يعني الحكومة والمجتمع، السياسة والاقتصاد- إن "هيغل" على حق، الدولة السياسية هي الدستور، أي أن الدولة المادية ليست سياسية، ويوضح العروي ذلك أكثر، فيعتبر أن: الأساس عند فلاسفة الأنوار هو المجتمع. أما الدولة فهي تركيب اصطناعي الهدف منه خدمة المجتمع؛ ولا يعني هذا أكثر مما توحي به الكلمة، تجمع الأفراد لتنمية إنتاجية العمل.. ثم حصل الانفصام في العهد الحديث، لم تبق الدولة موازية للمجتمع حيث نشأت إدارة خاصة بهذا الأخير وتعالت الدولة حتى عادت أدلوجة.

 

بعد ذلك، يخلص العروي إلى خلاصة "إنجلز" حيث يقول: ولكي لا تفنى تلك الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتناقضة في صراع عقيم، تنشأ بالضرورة سلطة مستقلة ظاهريا تخفف من حدة الصراع بوضعه في نطاق (النظام). تلك السلطة الناشئة عن المجتمع، المتعالية عليه، والتي تزيد استقلالا يوما بعد يوم، هي الدولة.

 

يخبرنا العروي في هذا الإطار بتنبيه "لينين" قراءه بالتأكيد على أن الانفصام بين الدولة والمجتمع، المنفي نظريا في التصور الاشتراكي، لا ينتهي عمليا بمجرد قيام الثورة، ويقرر: ما دامت الدولة قائمة فلا حرية، ولما توجد الحرية فلم تبق دولة، وبذلك قيل -حسب العروي- أن "لينين" قد انحرف نحو الفوضوية في كتابه "الدولة والثورة". كما يسوق لنا موقف "ماركس" فيخبرنا بأنه: يقف إلى جانب الواقعيين، "ماكيافللي" و"هيغل"، ضد الطوبويين الذين يعلنون: الفرد قبل وفوق الدولة، ويختم تحليل فصل النظرية النقدية للدولة في كتابه حول حاضر الدولة فيكتب: إن لماركس نظرية نقدية، لكنها على كل حال، نظرية، وهذا بالذات ما يربطه بهيغل. بعد أن يقدم لذلك بسؤالين، كيف يجوز اعتبار الدولة تركيبة اصطناعية؟ كيف يجوز إهمال نظرية الدولة؟

 

إن الدولة كائن مجرد، لكنه ملموس وموجود اجتماعيا، شأنه شأن السلعة والقيمة التبادلية والمال والنقد. وهذا هو ما يشكل السر واللغز شبه اللاهوتي لأشكال الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إنها بمثابة روابـط (العلاقات)، وليست جواهر أو أشكال "خالصة" (ذهنية، فكرية أو روحية). ولكي توجد بالفعل، يجب أن يكون لها محتوى من الأشياء والكائنات الاجتماعية (البشرية)، لكنها تعمل بشكل مفارق على إقصاء هذا المحتوى وتميل إلى تحقيق وجود مستقل، لكنها لا تنجح أبدا في تحقيق ذلك تحقيقا كليا، إن هذا المظهر المزدوج يفلت من بين أيدي مجمل المحللين والمنظرين. فبعضهم لا يرى سوى التجريد (ويتعلق الأمر هنا بالدولة، بالقانـون، بالحق، بالدستور، الخ)؛ ولا يرى البعض الآخر سوى الممارسة: الوظائف، البيروقراطية، فعل القمع، التراب الوطني الخ ؛ بينما يظل إدراك النمـط الذي توجد عليه هذه "الوقائع" رهينا بالإمساك بمظهرين: المجرد ـ الملموس، الوهمي ـ الواقعي ؛ الشبحى ـ القوي! يتعين علينا أيضا ألا نخلط المجرد ـ الملموس بالمتخيل والرمزي والتمثلات المختلفة. بل يجب علينا أن نذهب إلى حد إدراك هذين البعدين (المجرد والملموس) ضمن وحدة وكلية تجمع بينهما وتتجاوزهما: هذا المجتمع أو ذاك، هذا النمط أو ذلك من إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات. إن كل علاقة تتضمن اختلافا بين الحدود التي تربط بينها، لكن عندما تميل العلاقة نحو الاستقلال، فإنـها تميل في نفس الوقت إلى محو الاختلافات التي تحتوي عليها. إن هذا المفعول العام لا يخص الدولة وحدها. إذ ينتج عن ذلك أن تدمر هذه العلاقة شروط وجودها الخاصة بعد أن تحقق استقلاليتها وتعلن أنـها علاقة واقعية وحقيقية. عندما يتوفر أفراد واعون على هذه العلاقة، فإنـهم يسعون إلى حمايتها أو إعادة بناء شروطها. لذلك فإن المال والرأسمال يميلان إلى إعادة إنتاج نفسيهما بشكل مستقل وبواسطة قوة خاصة (المضاربة، لعب الكتابة)؛ لكن إذا نجح المال والرأسمال في إعادة إنتاج نفسيهما دون المرور بالإنتاج وتبادل المنتوجات والسوق وإعادة توزيع الأرباح (فائض القيمة)، فسيكون ذلك حتما بمثابة نـهاية للاقتصاد الرأسمالي ولإعادة الإنتاج الاجتماعي للرأسمال. وينطبق نفس الشيء على الدولة؛ فهي تميل إلى الحد الذي تصبح فيه تشتغل لذاتـها وبذاتـها، لكن دون جدوى. إذ نجد بعض رجال الدولة البارعين يضعون بعض الإصلاحات، محاولة منهم لمنع الدولة من الاستمرار في هذا الطريق الخطير الذي يؤدي إلى الانفجار الكارثي .

 

تنـزع الدولة الحديثة إلى احتلال كل أرجاء الكرة الأرضية بوساطة منظومة من الدول وليس بواسطة دولة عالمية واحدة. إنـها تنزع إلى تحقيق الاستقلالية والوجود السياسي المطلق وأخيرا، إنـها تنزع إلى التحكم في تسيير المجتمع برمته، وباختصار، إنـها تنـزع إلى ما أسميه: نمط الإنتاج الدولاتي. ليس كل ذلك إلا نزوعا، يظل غير متكافئ تبعا للبلدان والظروف التاريخية، لكنه حاضر في كل مكان .

 

وأخيرا، ما هي "قاعدة" الدولة الحديثة ؟ إنـها تتمثل في كون الدولة تقتضي بعض الأشكال المتنوعة التي تنظم سلسلات من التكافؤات: السلعة، العقد، القانون، الخ. إنـها تصرح بأن سلسلات التكافؤات تتميز بالتكافؤ. إنـها المحدد الأسمى للهويات الذي لا يحدد فقط هوية كل عضو فردي (المواطن المحدد بأوراق هويته وحالته المدنية)، وإنما تحدد أيضا هوية الأشكال وتسلسلات الظواهر الاجتماعية. إنـها ترفض الاختلافات ولا تقبلها إلا وهي مقلصة. إنـها ليست "ذاتا" (بالمعنى الفلسفي) ولا "موضوعا"، وإنما هي شكل الأشكال، هوية الهويات، التجريد الملموس المزود بقوة مغرية. إنـها كائن لا شخصي، رغم أنـها تتجسد دوما في شخص أو عدة أشخاص (رئيس الدولة، رئيس الحكومة، زعماء الأحزاب، الخ).

 

"الدولة هي الدولة": يبدو أن هذا الحشو لا يعني شيئا. لكنه في الحقيقة يقول الشيء الكثير، شأن مختلف أشكال الحشو الكبرى في الفلسفة: الوجود هو الوجود، الخ. فهذا الحشو يعني أن الدولة تحدد الهوية: إنها الهوية أثناء الفعل، لكن هذه الهوية لا تصبح فعلا، إلا بواسطة البشر الذين يخدمونـها ويخدمون إرادتـهم في القوة في نفس الوقت. بعد أن عرفنا مفهوم وسمات كل من الدولة الحديثة والتقليدية، فيحق لنا الآن أن ننتقل إلى "القطيعة" التي قد تكون أن تُقيمَها الدولة الحديثة مع الدولة التقليدية.

 

تجليات "القطيعة" بين مفهوم الدولة الحديثة والتقليدية. يمكن القول بالجملة: إن الدولة التقليدية قامت على مبدأ الاستبداد -حتى وإن كان مستنيرا- المتمثل أساسا في نظرية حق الملوك الإلهي في الحكم، في حين أن الدولة الحديثة جاءت بالأساس لتقويض هذا الحق المزعوم، وتعويضه بالحق المدني، بحيث إذا كان القانون الذي اعتمدته الدولة التقليدية مُسْتَوْحَى من المقدس من طرف المؤسسة الدينية، فإن الدولة الحديثة "قطعت" مع ذلك، لتعوضه بقانون مستوحى من العقل، (القانون المدني)، بالإضافة إلى أفول رمز الاستبداد -عنينا به مفهوم "السلطان"- كما في "دولة النمسا" في القرن الثامن عشر- بل انحل حتى مفهوم الإمبراطورية ليحل محله مفهوم الدولة الوطنية ذات السيادة، وثم إلغاء كل الالتزامات الإقطاعية ليظهر مبدأ حرية التملك، وغيرها من الحقوق المدنية والسياسة، وإذا كان المبدأ الذي قامت عليه الدولة التقليدية هو تجميع السلطات، فإن المبدأ الذي قامت عليه الدولة الحديثة هو الفصل بين السلطات، وهو الذي أدى إلى الانتقال من "الحرية المطلقة" إلى "الحرية المقيدة" بالقانون المنظم للعلاقات (الدستور)، وأصبحت السلطة مؤسساتية، وانتقلت من مفهوم "الرعية" إلى مفهوم "المواطن"، أما عن "القطيعة" على مستوى "أجهزة الدولة" فيمكن أن نقول بالإجمال ما يلي:

 

تعليميا تم الحد من هيمنة الكنيسة على مجال التعليم، ومن التدريس باللهجات المتعددة وثم تعويضها باللغة الموحدة. وأصبح الاعتماد على التعليم التطبيقي والحد من هيمنة التعليم الأدبي.

 

اقتصاديا تم الانتقال من اقتصاد الكفاف أو اقتصاد المعاش الذي ظل "اقتصادا مغلقا" إلى اقتصاد السوق الذي يعتمد علي الانفتاح بدل الانغلاق. وتحولت السوق الاقتصادية المجزأة إلى سوق اقتصادية موحدة. فأضحى الاعتماد على برامج التخطيط والتوجيه... من أجل الإنتاج والتصدير بدل الاستهلاك.

 

إداريا حدث تحرير البيروقراطية من سيطرة الحاكم، وأصبحت تخضع لنظام المباراة المفتوحة للجميع، مما يعني أنها أضحت تعتمد على مفهوم "الاستحقاق"، بالإضافة إلى أنها أَمْسَتْ تخضع لقانون موحد يعم الجميع، وهو الشيء الذي من شأنه خلق تكافؤ الفرص.

 

عسكريا حدثت "القطيعة" مع الجيش غير النظامي (جيش المرتزقة) وثم تعويضه بالجيش النظامي. استحال الجندي يدافع بروح وطنية وليس بدافع الانتماء إلى السلطان. ووقعت "القطيعة" مع الجيش المتعدد الجنسيات ليتم استبداله بجيش وطني موحد الجنسية.

 

هذا بالإضافة إلى أن الدولة الحديثة تتكون من وجهين: وجه قمعي يرمي إلى السيطرة ووجه أدبي يرمي إلى الهيمنة، وتأتي هذه الأخيرة من الأدلوجة التي تروجها الدولة عبر وسائل الإعلام وأقلام بعض المثقفين الموالين للنظام... في حين أن الدولة التقليدية كانت تقتصر على الجهاز القمعي فقط، ولا تتوفر على "أدلوجة تبريرية" تخلق لها "الشرعية" وتكسبها ولاء "الأفراد"، بالإضافة إلى ذلك فان الدولة الحديثة دولة ديمقراطية، نظرا لمفهوم الديمقراطية تربطه علاقة تكامل بمفهوم الدولة الحديثة، تصل حد التلازم، بحيث أن لا دولة حديثة إلا الدولة الديمقراطية، هذه قناعة عبر عنها الأستاذ العروي، إلا أننا تناولناه لوحده حتى نبين اين يقطع هو ايضا مع مفهوم الشورى، اقتضتها الضرورة المنهجية، وفي هذا السياق يقول عبد الله العروي: منذ أن نشأت الحركة السلفية وهي تخلط بين الديمقراطية في مفهومها العصري والشورى في مفهومها القديم، ولكن ما الديمقراطية؟ وما الشورى؟ وأين يمكن أن يقطع مفهوم الديمقراطية مع مفهوم الشورى؟ يقول العروي: إن الديمقراطية الحديثة مبنية على منطق الإنسان الاجتماعي الذي يحاور ويناقش ويصوت في شؤون الجماعة مقيدا فقط ببنود الميثاق الاجتماعي". وهذا ما يبين أن الديمقراطية تسير بمنطق اجتماعي، في حين أن الشورى تعتمد على مفهوم "أهل الحل والعقد"، وهو ما يبين أنها لا تعتمد على المنطق الاجتماعي، بل الاستشارة فيها محصورة فقط على "أهل الحل والعقد"، وهم بلغة اليوم "النخبة المثقفة"، وبالتالي فهي عملية لا يتدخل فيها الشعب، عكس الديمقراطية التي يمثل الشعب أساسها، وجوهرها. ولا يظن احد أن العقلانية مقتصرة على الميدان السياسي فلقد سبق للعروي أن نبه لهذا بحيث يقول: فانا لا أريد أن الخص العقلانية في الميدان السياسي، بالتالي فان "للعقلانية" تجليات أخرى بغض النظر عن "العقلانية السياسية"، فهناك العقلانية الاجتماعية .

 

الهوامش:

1- عبد الرحمان بووشمة، العقلانية السياسية في فكر عبد الله العروي: مفهوم الدولة بين التقليد والحداثة، نشر في طنجة الأدبية يوم 18 - 05 – 2009، شوهد في: 10/5/2020، في https://www.maghress.com

2- بووشمة، نفسه.

3- بووشمة، نفسه.

4- العروي، الدولة، ص 113.

5- العروي، الدولة، ص 113 و114.

6- العروي، الدولة، ص 118.

7- بووشمة، نفسه.

8- العروي، الدولة، ص 137.

9- العروي، الدولة، ص 138.

10- بووشمة، نفسه.

11- بووشمة، نفسه.

12- بووشمة، نفسه.

13- بووشمة، نفسه.

14- العروي، الدولة، ص 42.

15- بووشمة، نفسه.

16- العروي، الدولة، ص 55.

17- العروي، الدولة، ص 47 - 50.

18- العروي، الدولة، ص 52.

19- العروي، الدولة، ص 54 - 55.

20- هنري لوفيفر، الدولة والسلطة، ترجمة: حسن أحجيج، شوهد في: 12/4/2020، في https://www.aljabriabed.net 

21- لوفيفر، نفسه.

22- لوفيفر، نفسه.

23- لوفيفر، نفسه.

24- بووشمة، نفسه.

25- بووشمة، نفسه.

26- بووشمة، نفسه.