خيبة أمل ملك وشعب

خيبة أمل ملك وشعب

بعد انتهاء الحرب الأهلية بالولايات المتحدة الأمريكية (1861-1865)، انشغل العقل العام الأمريكي بالبحث عن مداخل لإعادة إعمار البلاد وتحقيق الإقلاع الاقتصادي. ودون الدخول في متاهة تحرير العبيد لتوفير السواعد القادرة على تشغيل المحركات بالمصانع بالولايات الأمريكية الشمالية، يمكن القول إن العقل الأمريكي اهتدى في ما بعد إلى صيغة ذكية تروم منح وظائف لكل منطقة بشكل يخلق التكامل بين المناطق من جهة ويساعد على خلق الثروة من جهة ثانية ويضمن عدالة مجالية من جهة ثالثة.

هكذا نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في جعل كل مدينة كبرى متخصصة في مجال معين، مثلا: لوس أنجلس أضحت لها وظيفة الترفيه والسينما، ولاس فيغاس تخصصت في الكازينوهات وسياحة القمار، ونيويورك احتكرت المال والأعمال، في حين تولت شيكاغو الصناعة، بينما انصرفت عاصمة تكساس للنفط، وتميزت مدن فلوريدا بالبحر والسياحة الساحلية، وهكذا دواليك.

المغرب، الذي خرج جريحا من الاستعمار، لم يحظ بفرصة الاهتمام بإعداد ترابه الوطني بحكم الصراعات التي كانت محتدة حول طبيعة الحكم بين القصر والحركة الوطنية (الشق اليساري منها خاصة)، ولم تتحقق الصحوة بالحاجة إلى إنصاف ترابي إلا في مطلع عام 2000، وما تلا ذلك من فتح نقاش وطني حول إعداد التراب الوطني.

من حسنات ذاك النقاش (الذي أثمر مجلسا وطنيا أعلى لإعداد التراب الوطني عام 2004) أنه أظهر أن استمرار الاعتماد على الدار البيضاء لوحدها لإنتاج الثروة من شأنه أن يقود إلى «كانيباليزم ترابي»، المتمثل في "افتراس" الدار البيضاء للمغرب ككل. وهو الوضع نفسه الذي كادت أن تعيشه فرنسا مع باريز بعيد الحرب العالمية الثانية إلى الثمانينات من القرن الماضي، لولا أن مجيء فرانسوا ميتران للحكم جعله ينتبه إلى الخطر، فكلف وزيره في الداخلية آنذاك «غاستون دوفير» بإعداد قانون جديد للامركزية يروم خلق أقطاب حضرية قوية تنافس باريز من جهة وتخفف العبء عنها من جهة ثانية، فكان من ثمار ذلك الجهد أن اعتمدت فرنسا عام 1982 قانون «باريز، ليون ،مارسيليا»، المعروف اختصارا بـ  «P.L.M»

من هنا القناعة التي تولدت في المغرب بوجوب خلق منافسة داخلية بين المدن، ورأينا كيف اهتم الملك محمد السادس بطنجة ومراكش والرباط ووجدة والقنيطرة وورزازات والجديدة والداخلة وفاس، وأفرد لكل قطب اختصاصا رئيسيا: اللوجستيك الدولي (طنجة)، السياحة (مراكش)، الثقافة (الرباط)، المشكل الحدودي (وجدة)، السيارات (القنيطرة)، السينما والطاقة الشمسية (ورزازات)، الصناعة المعدنية (الجديدة)، ثم الداخلة التي اختير لها التحول إلى منصة المغرب لتثبيت حضوره الإفريقي بعد الانتهاء من إنجاز الميناء الكبير.

هذه الرؤية ساعدت على العودة للدار البيضاء لرد الاعتبار لها لتقود التراب الوطني، ليس وفق منطق «الكانيباليزم»، بل وفق قانون نيوتن الفيزيائي القائم على التوازن الديناميكي الذي يشتغل بالثنائية (Binome de Newton)

هذه الثنائية هي التي قادت إلى خلق التخصص التالي بولاية الدار البيضاء: النواصر (الطيران) الحي الحسني (المال والأعمال) المدينة القديمة (التاريخ والتراث) أنفا (السياحة الساحلية) بوسكورة (المركبات الجامعية) زناتة (اللوجستيك) أولاد حادة مديونة (الصناعة) الرحمة (محاربة الهشاشة)، دار بوعزة (الغولف والترفيه) عين الشق (الأوفشورينغ).

وما كان لهذا التخصص أن ينجح لو لم تفتح مدن فلكية بضواحي البيضاء ولو لم يصدر الأمر الملكي بترحيل مطار أنفا.

وكان الحلم الأكبر للملك وللشعب، أنه بنهاية عام 2015 سيكون المغرب قد أنهى هذا الورش (ورش تأهيل المدن)، ليتسنى للمغرب استلهام نموذج كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا في الإقلاع، حتى تتمكن الدار البيضاء من التوفر على شروط التنافس مع جوهانسبورغ واسطنبول و أبوظبي.  لكن الأمل خاب من نخب ساقطة وفاشلة لم تساير التوجه العام سواء في الولاية الجماعية السابقة أو الحالية: نخب تسلطت على مدننا وأظهرت جهلا فظيعا بالرهانات المطروحة على المغرب، وبالمقابل استبدت بها الشراهة لتحويل المنصب والمسؤولية التمثيلية إلى مضخة للتسمين الذاتي أو الحزبي، بدل الحرص على إخراج النصوص وتنفيذ المشاريع العمومية الموازية لإنجاح الخطة المجالية.

وهذا ما سيكون محور تحقيق قادم سينشر في "الوطن الآن".