العربي الرودالي: أيها المثقفون حققوا التواصل!

العربي الرودالي: أيها المثقفون حققوا التواصل!

سعى "الإنسان" كونيا منذ القدم ومازال -في صيرورة التاريخ وسيرورة التداول الحضاري، وفي دينامية ماكرومعرفية- إلى التركيب التثاقفي بمراكمة المثل والخبرات والاكتشافات، وهي غايته القصوى.. وذلك بحثا عن امتلاك توازن ثقافي بناء، حتى ولو من خلال التفكيك لإعادة إنتاجه بخصوصيات متبلورة، من أجل تركيب لاحق ومجدد، في تنافسية متحدية لتأكيد الذات، توجسا من هيمنة غازية... وهذا حراك هو أساسا طبيعي وفطري، بنزوع طموح نحو "الزعامة" التاريخية لكل عصر، فصارت بهذا فتوحات الإنسان الكبرى نتائج مركبة، من خلال رصد الوجود وامتلاك المعرفة... واستمر ما يستلم من حقبة إلى حقبة يتنشأ ويتراكم.. فالثقافة إذن هي الصعود نحو التحضر المنفتح انطلاقا من التحضر المؤسس،  وهي بحركيتها هذه تمثل لحضارة أرقى، في راهنيتها وحقبتها، لتأسيس مجتمع الحضارة المقبلة في زمانها.. وبهذا تعبر أصلا وأساسا، في وعيها الجمعي المتواتر، عن ذلك التحقق التواصلي بين الأجيال حتى لا تضيع أجيال التواصل.. فهوية  الإنسان كعنصر خلقي، تتجسد فيما فضل به وما كلف به، دون سائر المخلوقات، من ثقافة صغرى وكبرى في كينونة وجود مشترك.. ودون هذا الوعي، لا يمكن "للشخص" إلا أن يكون "أميا" جاهلا لوجوده... ولهذا فالأمية الأكثر فداحة هي أمية "الثقافة"، بدلالاتها الإبداعية المسؤولة عن الذات لديها.. كما أن كل اغترار بأحادية توجهها، انطلاقا من عقدة التفوق والاستخفاف، يجعل منه، أي هذا الاغترار، عامل تدمير وتقهقر لها، يتبعه انحلال ثم انهيار... وذلك نتيجة تمزيق التواصل وإعاقة التلاقح بين الأطراف في جسد المجتمع الواحد خاصة، أو بين عناصر المجتمع الإنساني عامة.. ولهذا ففي مجتمعاتنا، نحن بني الإنسان أفرادا وجماعات، لا نحس ضمن نسيجها إلا بالثقافة.. فلا معنى للوجود دونها، لأن بذور تفتقها هي أكثر عمقا وتجذرا في الحياة والهوية والتاريخ،  أي في مسار ما لدينا من حضارة.. وبدون حدود، فهي تملأ كل حيز وتغطي كل مجال وتتزامن وتتساكن مع/ وفي لحظات كل الحياة..

ومن هنا، فنحن الأفراد لا يمكن أن نتماسك دون نسيج ثقافي، نتلمس ذاتنا ونستشعرها ونتوق إلى إشعاعها، نتباين ونتبنين، في آن واحد، ونتحمل مسؤولية عصرنا  في أوطاننا... نتسلم بجدارة ما ورثناه من السابقين ونسلمه باستحقاق إبداعا متجددا لللاحقين.. لكن التخوف يكمن في حالة ما إذا تموقعنا في خانة "مثقفين" وتفاقمت فيما بيننا ظاهرة "الأنتلجانسيا" بغرور التعالي العلماوي والتمركز الذاتي، فننفصل عن جوهر ثقافتنا ونتحول نتيجة ذلك، إلى مجرد أقلام ومكاتب ولغات وأوراق وأصوات وصور وسلط... ثم نطفو فوق السطح، نتفوقع بأشكالنا وألواننا وسطورنا وخطاباتنا، المريضة سلبا بفخفختها واغترارها، بدل الغوص في عمق  يستلزمه كل موقف... إن الثقافة ليست فحسب كراسات ومعلومات ونصوص وأجناس أدب وفن، بل هي فعل وحياة وفكر ووجدان وذوق وتربية.. ليست خطابات بل فحوى.. وليست أدوات بل أداء.. ومن لا تربيه عطاءاته  الإبداعية، فلا قيمة لذاته الثقافية.

- لكن إذا ما افترضنا عدة احتمالات معيقة، وتطلعنا إلى الإجلاء عنها، فإن ما يهم طرحه قبلا وبعدا هو التساؤل التالي بكل فروعه: كيف سيؤول حال ثقافتنا التي نحن منها وإليها، كما هي أيضا منا وإلينا..؟

- لو أننا نركب الاحتكار، فننصب أنفسنا سلطا، نفرض ذواتنا بدل تحقيقها، غايتنا أن نجعل لأنفسنا "موقعا" نفعيا هو المبتغى في نهاية المطاف..؟

- لو أننا كنا لا نعمل سوى على خلق عوامل الخلاف بقطائعه بدل الاختلاف بخصوبته، فنتورط في معادلة  صعبة، صنعناها وأزمناها، فنعجز عن حلها..؟

- لو أننا كنا متطرفين حسب قاعدة "إما أو إما".. إما أن نهب أنفسنا كليا أو نمنعها كليا، فنتأرجح بين ثقافة الإباحة و ثقافة التابوهات..؟

- لو أننا نحسم في الرأي، ثم نوصد علينا أبواب قلعتنا منعزلين، فتنشطر ثقافتنا إلى ثقافات تنافرية، كل له وجهته المغلقة..؟

- لو أننا كنا نغلب ثقافة الغير على ثقافتنا إلى حد الإشعاع، و نجعل ما لدينا مغمورا يواريه النسيان إلى حد الخفوت، فتكون النتيجة أننا نمر ونعبر بأنفسنا انطلاقا من مشروع الآخر..؟

- لو أننا كنا نقوم بالانتقاد بدل النقد، فننتقد للهجوم فقط، في صراع حول "النفوذ الثقافي" أو غيره، وليس لتقويم ما يعوقنا في أنفسنا كمخاطبين أو يعوق الآخرين كمتلقين.. أي نمتطي الخطاب من أجل الاستقطاب، وننزع إلى المدح والاستمداح، ولما دوننا القدح والإقصاء؟

- لو أننا كنا نعدم روح البحث والاستكشاف، فنتقاعس عن التطور، ثم نلغي أنفسنا ونقصيها من حلبة السباق الحضاري، فتكون النتيجة انحسار رصيدنا وجموده..؟ وبذلك نعطي للغير فرصة دراستنا وقراءتنا قراءة أنتروبولوجية، في خانة التخلف.

- لو أننا كنا مجرد خطابيين، لا نحسن الإصغاء، ولا نحترم قيم الحوار.

- فمتى يتحقق التواصل بكل ألواننا؟ ونحن نرى الفراغات الثقافية تتفاقم، فيتزايد تقزيمنا بين الأجيال والعصور والشعوب... ونرى تراثنا آفلا وقد صار متحفيا، وخطاباتنا تنزل على أرضية حقل لا توافقها تربته... ونرى إبداعنا يغامر ويخاطر في خضم أشكال القطائع المطلقة.. فلا يسعنا سوى أن نصيح: "أيها المثقفون تواصلوا"... فنحن في حاجة إلى الالتحام حتى لا نتنافر، وإلى المناعة حتى لا نخترق، وإلى الثقة حتى لا يكتسحنا الإحباط ...