أشجار عمرها 1000 سنة.. تم مسحها عن أديم الأرض في 6 أيام.. الإنسان يفترس "الطبيعة" بعنف وقسوة.. ليست المسألة مسألة أدوات تقنية أي وجود آلات ضخمة وطاقة فعالة تشغلها.. المسألة تكمن في انفصال الإنسان عن الطبيعة.. حصل ذلك قبل قرون.. حين اعتبر الإنسان نفسه "ذاتا" في مواجهة "موضوع" هو الطبيعة.. ثم اعتبر نفسه سيدا لم توجد الطبيعة إلا لخدمته.. وتخلى أن يكون جزءا من الطبيعة.. جزءا مكملا ومتكاملا مع الطبيعة..
تخلى الإنسان على أن تكون الطبيعة حضنا حاضنا له.. يخبئ فيها أسراره.. ويرمي عليها صفاته.. ويزرع الجن والعفاريت في أرجائها.. ويزرع السحرة والساحرات في باطن أشجارها وأنهارها وحيواناتها.. كفت الطبيعة عن أن تكون مرآة للإنسان.. يرى فيها هواجسه وقلقه وأحلامه وتخوفاته.. لم يعد يرتعد للرسائل التي تنبعث من قصف الرعود.. ومن لمع البروق.. ومن صفير الرياح بين الفجاج.. لم يعد الإنسان يأنسن الطبيعة..
انفصل في الخطاب العام البعد الأسطوري المبهر العجائبي الدافئ المتدفق عن البعد العقلي الحجاجي البرهاني البارد الزاحف.. حصل هذا الانفصال قبل أزيد من 24 قرنا.. في القرن 4 قبل الميلاد.. وعبر حقب التاريخ المعرفي والفكري، انتصر "اللوغوس" (العقلي) على "الميتوس" (الأسطوري).. أصبح "العقلي" يتجه ببطء نحو المركز وتم تدريجيا دفع "الأسطوري" نحو الهامش.. ومنذ أربعة قرون (1617).. اشتدت سيادة "العقلي" باكتمال سيادة التقنية، عندما قال أبو الحداثة "ديكارت": "نريد علما للعلوم يجعلنا سادة على الطبيعة ومسيطرين عليها".. بدأ عصر سيادة "التقنية" بامتياز.. تماشيا مع تكميم "الطبيعة".. أي إضفاء الطابع الكمي القياسي عليها.. وأصبحت الطبيعة مجرد أشكال هندسية وأرقام وقياسات للمسافة والحركة..
في مجتمع التقنية أصبح الإنسان نفسه مجرد رقم ومجرد عنصر في تصميم أو مخطط.. أصبح مجرد معدلات نجاح أو رسوب ونقط تعبر عن مدى انتاجيته ومردوديته.. ولم تعد لأحلامه وهواجسه وتخوفاته وقلقه أية أهمية.. ليس هناك أهمية إلا للبرامج والمخططات.. ومن يخرج عنها يرمى في "المصحات العقلية" أو في "السجون" أو ينسحق في قاع المدينة.. نزعت التقنية عن الطبيعة روحها.. وعن الإنسان روحه.. ومع تطور النزعة الاستهلاكية في المجتمع الرأسمالي.. والرأسمال بطبيعته كمي.. أصبحت الطبيعة والإنسان معا على مشرحة التقنية.. جسدا بلا روح...
ازدادت وتيرة الطعنات التي تغتال الطبيعة.. تخريب الغابات.. القنص المفرط للحيوانات لأجل جلودها لتوظيفها في الصرعات التنافسية داخل عالم "موضة اللباس" والتغنج الجسدي.. تلويث الهواء والمياه.. انتصار الرغبة على الحاجة.. علامة على انفصال شاسع للإنسان عن الطبيعة.. وفي هذا الانفصال العنيف الدامي يكمن انحدار الإنسان نفسه نحو هلاكه وخرابه..