منذ الاستقلال إلى حدود إنشاء المحاكم الإدارية، لم يكن من الممكن إعمال الطعن القضائي ضد القرارات الملكية المتسمة بالطابع الإداري، كذلك الشأن بالنسبة إلى المقررات الملكية التي قد تبدو غير متناغمة وغير مستجيبة للوثيقة الدستورية، لأن أول تجربة دستورية عرفها المغرب سنة 1962 كرست قداسة الملك من خلال دسترة وضعيته كأمير للمؤمنين بمقتضى الفصل 19 الذي يعد دستورا آخر في حد ذاته. هذا الأخير أسس لمفهوم القداسة الروحية لشخص الملك استنادا إلى نظرية الإمامة، كما أن دستوري 1972 و1996 أكدا بشكل صريح القداسة الملكية وفقا للفصل 23 الذي ينص على أن "شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته".
وتبعا لذلك، فإن هاته التنصيصات كانت لها آثارها القانونية والقضائية، حيث إن القرارات الصادرة عن الملك (الظهائر الملكية) تعتبر قرارات مبرمة ومحصنة لا يمكن مخاصمتها عن طريق الطعن بدعوى الإلغاء أو دعوى التعويض، لأنها تستمد قداستها من نفس الجهة التي صدر عنها القرار طبقا للمعيار العضوي الذي يأخذ بمصدر القرار وليس مضمونه ومحتواه؛ فالظهير الملكي يتمتع بحصانة مطلقة ولا يمكن الطعن فيه أمام أي محكمة مهما كانت درجتها، لأنه قرار مقدس له صلاحيات واسعة.
ومن باب التأصيل التاريخي للعمل القضائي حول هذا الموضوع، نلاحظ أن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى كانت دائما ترفض النظر في القرارات الملكية. ونسوق في هذا المجال حكم مزرعة عبد العزيز، حيث اعتبر المجلس الأعلى أن «جلالة الملك يمارس اختصاصاته الدستورية بوصفه أمير المؤمنين طبقا للفصل 19 من الدستور» -لا يمكن اعتباره سلطة إدارية-.
ولتعليل ذلك، اعتبر أن «القضاء من وظائف الإمامة ومندرج في عمومها، وأن للقاضي نيابة عن الإمام، وأن الأحكام تصدر وتنفذ باسم جلالة الملك، طبقا للفصل 83 من الدستور وفي نطاق الاختصاصات المحددة قانونا، والتي لا يجوز التوسع في تأويلها لقيامها على تفويض...». وانتهى المجلس، بناء على ذلك، إلى الحكم بعدم اختصاصه بنظر هذا الطعن. وتناسلت الأحكام بعد ذلك لتكرس نفس التوجه، أما التبريرات الفقهية المواكبة لذلك فتتأرجح بين التأييد والمعارضة؛ فالاتجاه المؤيد يعتبر أن القرارات الملكية تندرج ضمن أعمال السيادة ومن صميم السلطة التقديرية للملك الذي يعد الممثل الأسمى للأمة، لذلك فهي تخرج عن نطاق مراقبة المشروعية، وأن السلطات الدنيا لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تراقب السلطات العليا.. لكن الأستاذ ميشال روسي لم يكن متفقا مع هذا الاتجاه، واعتبر أن تحديد القرارات الملكية يجب أن يستند إلى مضمون القرار، واعتباره قرارا إداريا كلما كان موضوعه نشاطا أو عملا إداريا. لكن، في اعتقادنا، بعد إحداث المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية وبعد اعتماد دستور 2011، يمكن التأسيس للموقف القاضي بقابلية القرارات الملكية للطعن أمام القضاء الإداري من خلال مجموعة من الضمانات الدستورية :
- لقد مهد الملك الراحل الحسن الثاني لهذا الموقف حينما أكد في إحدى خطبه بمناسبة افتتاح إحدى الدورات القضائية: «صدرت ضدنا أربعة أحكام إدارية ونفذت ومازال الكل بخير»؛
- إن الدولة القانونية ومبدأ المشروعية يقتضيان أن جميع القرارات ينبغي أن تطالها الرقابة القضائية، بما فيها القرارات الصادرة عن الملك التي لها طابع إداري؛
- إن البيان الدستوري حدد بشكل دقيق وفصل بين صفة أمير المؤمنين وصفة رئيس الدولة، فإمارة المؤمنين المؤسسة على البيعة مرتبطة بتدبير الحقل الديني، وحتى حينما يدافع المغرب عن قضية الوحدة الترابية انطلاقا من هذا المفهوم، فإنه لا يجد آذانا صاغية لدى المنتظم الدولي، لأن البيعة مرتبطة بالجانب الديني والفقه الإسلامي وليست مؤسسة قائمة في القانون الدولي، أما جبهة البوليساريو فتوظف حق تقرير المصير كمفهوم قار في العلاقات الدولية والقانون الدولي، ولم يخرج المغرب من هاته الورطة ويحقق مكاسب سياسية إلا بعد اقتراحه مشروع الحكم الذاتي الموسع كشكل من أشكال حق تقرير المصير.
وتأسيسا على ما سبق، فإن الملك كرئيس للدولة يمارس صلاحياته الدستورية بمقتضى ظهائر تحمل التوقيع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، وهو ما يجعلها عرضة لإعمال المساءلة القضائية، حسب التعريف الفقهي لمفهوم التوقيع بالعطف؛
- البعد الفلسفي للسلطة التقديرية ومرجعيتها الإسنادية تعني أن الإدارة ملزمة بتطبيق القانون، فإذا كانت للقرار الإداري سلطة التقدير فإن للقاضي الإداري سلطة الملاءمة وإمكانية تقدير ومراقبة السلطة التقديرية للإدارة؛
- من بين المقتضيات الإيجابية والمحطات المركزية التي جاء بها الدستور الجديد مقتضى ربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك بإلغاء الفصل 23 الذي كان ينص على أن الملك مقدس وتعويضه بالفصل 48: «شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام». وبالتأويل التوسعي لهذا الفصل وعلى سبيل القياس، فإن المحاسبة يمكن اعتبارها مخاصمة أي قرار إداري مهما كان مصدره ومحتواه إذا كان مشوبا بالشطط في استعمال السلطة؛
- دسترة السلطة القضائية، حيث انتقلت من جهاز إلى سلطة فعلية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، وأن الملك مجرد ضامن لاستقلال القضاء لأن الأحكام تصدر وتنفذ باسمه وباسم القانون ولأنه يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومع ذلك فإن المقررات المتعلقة بالوضعية الفردية الصادرة عن هذا الأخير قابلة للطعن أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة، وكل قرار اتخذ في هذا المجال الإداري -سواء كان تنظيميا أو فرديا- يمكن الطعن فيه أمام المحاكم الإدارية المختصة؛
- الدفع بعدم دستورية القوانين اختصاص أصيل للمحكمة الدستورية في مدى دستورية أي قانون أثير أثناء النظر في قضية ما، وذلك إذا دفع أحد أطراف الدعوى بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق والحريات المحمية دستوريا؛
- القضاء هو السلطة الوحيدة القادرة على إلجام الأهواء الجامحة للإدارة. ومن هذا المنطلق، فإن أحد قضاة النيابة العامة، الذي كان يعمل مستشارا بمحكمة النقض، تم تعيينه مؤخرا وكيلا للملك لدى المحكمة الابتدائية بأبي الجعد فرفض الالتحاق بمنصبه الجديد بدعوى أن الانتقال مشوب بالتعسف في استعمال السلطة وأن النقل إجراء انتقامي سببه الانخراط في جمعية منتدى القضاة، مما حدا به إلى رفع دعوى الإلغاء ضد المجلس الأعلى للسلطة القضائية للأسباب سالفة الذكر، مستفيدا بذلك من الضمانات التي أقرها الدستور الجديد؛
- إن رقابة القضاء لجميع السلط يقاس بها مدى رقي الأمم وتحضرها.
تأسيسا على ما سبق، فإنه يمكن الإقرار بأن للقضاء الإداري، اليوم أكثر من أي وقت مضى، إمكانية الرقابة على القرارات الملكية، لأن العبرة بجوهرها وليس بالجهة التي تصدر عنها، كما أن بعض المفاهيم التي تنفلت من رقابة القاضي الإداري كاستثناءات واردة على مبدأ المشروعية -وهي السيادة، الاستثناء، السلطة التقديرية- يجب أن يطالها التدقيق والتوضيح لأنها إشكالات مفاهيمية دون أن نغفل المصلحة العامة والسلطة العامة والآداب العامة؛ كمصطلحات قانونية فضفاضة تحتاج إلى التحديد أكثر تفاديا للالتباس والغموض، وقد اعتبرها بعض الفقهاء كالحصان المارد، يمكن أن يرميك أينما شاء وكيفما شاء.
المشرع الدستوري منزه عن العبث ولا ينطق عن الهوى، ولم يرتب هاته الضمانات بشكل اعتباطي، وإنما أقرها لوضع حد للقرارات غير المشروعة ولترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات.