المراكشي: الاعتماد على النخبة السياسية الحالية لن يؤدي سوى إلى فشل آخر ينضاف إلى لائحة الإخفاقات

المراكشي: الاعتماد على النخبة السياسية الحالية لن يؤدي سوى إلى فشل آخر ينضاف إلى لائحة الإخفاقات ابراهيم المراكشي
في هذا الحوار مع ابراهيم المراكشي، الأستاذ الجامعي بكلية الحقوق بطنجة، يؤكد أنه لا يمكن إنجاح النموذج التنموي الجديد دون التصدى للقوى التي أفسدت الحياة السياسية، معتبرا أن نخب اليوم، في جزء كبير منها، تتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع، مشددا على أن الاعتماد عليها في تنزيل مضامين هذا التقرير لن يؤدي سوى إلى فشل آخر ينضاف إلى لائحة الإخفاقات...
 
 
 ماهي قراءتك الأولية لتقرير النموذج التنموي الجديد؟ 
 يتسم هذا التقرير بطابع الشمولية والجرأة ووضوح الرؤية، حيث وضع اليد على المشاكل الحقيقية للمغرب، وقدم في مقابلها توصيات في غاية الأهمية، دون أن يعني ذلك عدم وجود بعض "الفراغات" التي شابته. فالتقرير تجنب الخوض في تحديد مسؤوليات وأدوار جميع الأطراف المجتمعية من مؤسسة ملكية وحكومة ومجتمع مدني وأفراد. فتعثر التنمية في المغرب لا يعود فقط إلى الاختلالات التي تشوب تنزيل السياسات العمومية، وإنما أيضا إلى بعض العادات المجتمعية السلبية والسلوكيات الفردية، أي أن المسألة ذهنية وثقافية أيضا، ثم إن التقرير لم يقف بشكل معمق على دور الدين، أي الإسلام، كمكون رئيسي ضمن هذه المنظومة. وعلى كل حال، هذا ما كان منتظرا من اللجنة، التي قامت بعمل جبار، وذلك بالنظر لطول المدة التي استغرقت فترة اشتغالها. فبعد جلسات ماراطونية شملت التواصل مع أكثر من 9700 شخص بشكل مباشر، و1600 من خلال جلسات الإنصات والاستماع و8000 عبر آليات مشاورة موسعة، وتوصل اللجنة بأكثر من 6600 مساهمة مكتوبة، فبعد كل هذا لا بد أن يأتي التقرير دسما، غنيا وشاملا لأبرز المشاكل والتحديات التي تواجه الأمة المغربية. لقد تضمن التقرير أهدافا اقتصادية وبيئية واجتماعية وتعليمية وبشرية، وأخرى خاصة بالرقمنة، وغيرها من المجالات الحيوية، أهداف جد طموحة، لكن السؤال يبقى بأية موارد وبأية نخبة يمكن تنزيلها؟ لا نقول أن موارد المغرب لا تكفيه، بل ينبغي ترشيد النفقات وحسن استغلال الموارد والقضاء على مختلف أشكال الريع. وفي هذه النقطة تحديدا تشكل من وجهة نظري نقطة الضعف الوحيدة  التي شابت التقرير، إذ لم يتطرق للأقلية المتحكمة بالمغرب التي تضخمت نتيجة اقتصاد الريع، والسبل الحقيقية للتقليص من نفوذها. وأما مدخل الاستدانة الذي اقترحه رئيس اللجنة شكيب بنموسى لتنزيل التوصيات التي تضمنها التقرير، فيعد مؤشرا دالا على عدم الرغبة في المساس بالامتيازات التي تحظى بها هذه الأقلية. من العيب ومن العار أن يظل المغرب منذ  القرن 19 وميزانيته العامة تشكل القروض عمودها الفقري. أية تنمية في ظل دولة غارقة في المديونية؟ 
لذلك نقول بخصوص تنزيل التوصيات التي جاء بها التقرير تبقى مسألة أخرى، ونجاحها رهينة بإحداث قطيعة مع سلوكيات الماضي على أكثر من مستوى (أجهزة الدولة ومؤسساتها، الأحزاب السياسية، ربط المسؤولية بالمحاسبة، ترشيد النفقات العمومية، إعادة توزيع الثروة بطريقة نسبيا عادلة، إلخ.). وحينما نقول القطيعة، نقول أيضا ضرورة توفر إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، لأن من شأن توفر ذلك أن يعصف بوجوه سياسية عديدة ومسؤولين اعتادوا تأثيث الواجهة العمومية؛ بل هذا هو المطلوب. 
 
ماهي أهمية هذا التقرير، والحال أننا أمام تقارير سابقة وضعت في الرفوف دون تفعيل، نموذج تقارير الخمسينية والمندوبية السامية للتخطيط والتقارير القطاعية للحكومة؟
أهمية هذا التقرير نابعة من أهمية التوصيات الصادرة عنه والأهداف الطموحة التي سطرها، والتي إن نجح المغرب في تنزيلها داخل الأفق الزمني المحدد قد تمكنه من دخول نادي أقوى عشرين اقتصادا في العالم في أفق سنة 2035، هل هذا ممكن؟ في ظل النخبة الحالية التي تتحمل مسؤولية الوضع الحالي، الأمر صعب، إن لم يكن مستحيلا، خاصة على ضوء مآلات التقارير السابقة المشابهة كتقرير الخمسينية الذي كان مهما في وقته، غير أن مضامينه على العموم لم يتم تنزيلها، ومع مرور الوقت فقد بريقه، وصار جزء من التاريخ. الخوف كل الخوف أن يلقى هذا التقرير نفس المصير. فلو تم تنزيل توصيات تقرير الخمسينية لما كنا اليوم في حاجة للجنة النموذج التنموي. إن المشكل ليس في التقارير. في المغرب يوجد الكثير من الدراسات، لكن القليل من الإرادة السياسية لتفعيل وتنزيل مضامينها، وتقارير المجلس الأعلى للحسابات كأبرز مثال في هذا الباب. التاريخ يشهد بكثرة اللجان، فأمام كل مشكل نضع لجنة ليس بهدف حله، وإنما من أجل الالتفاف حوله، وامتصاص غضب الرأي العام إلى حين. إن التغيير حسب اللجنة بات مسألة ضرورية واستعجالية؛ لذلك نعود مرة أخرى لنؤكد على مسألة النخب وضرورة تجديد دمائها، وهذه المسؤولية تقع على عاتق الأحزاب السياسية بالمغرب.
 
ما هي الاختلالات السياسية والحزبية التي تشكل عرقلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق هذا التقرير؟ 
إن إقصاء الفاعل السياسي، أي الأحزاب السياسية، عن تشكيلة لجنة النموذج التنموي الجديد فيه ما فيه من إشارات واضحة عن تحمل هذه الأحزاب لما آل إليه الوضع في المغرب من تردي على مختلف الصعد. لقد ذهب التقرير في اتجاه تحميل الأحزاب السياسية جزء من مسؤولية تعثر مسار التنمية بالمغرب. فتردي المشهد السياسي، وشيوع النفعية والانتهازية وهيمنة المنطق الانتخابي الموسمي على جل الفاعلين السياسيين، وفشل في تأطير وتنظيم المواطنين وفق الأدوار التي حددها دستور 2011، ويأس المواطن من العملية الانتخابية وفسادها، ونظرة المواطن إلى عدم جدواها، كل هذا سببه الأحزاب السياسية. هذه الأخيرة تقتل الكفاءات، فالمشهد السياسي في المغرب يتسم بالجمود، إذ نجد نفس الوجوه ونفس الأشكال والخطابات، يضاف إلى ذلك احتكار جزء من الطبقة السياسية ومعها بعض الأحزاب السياسية للمشهد الحزبي، وهو ما أدى إلى مزيد من النفور بين المواطن والعمل الحزبي والسياسي، وبالتالي احداث هوة أو شرخ عميق بينه وبين الحكومة على المستوى الأبعد. أعتقد أن بعض أمناء الأحزاب شعروا بالخجل أثناء إلقاء رئيس اللجنة للتقرير أمام العاهل المغربي، وإن لم يشعروا بذلك فالأزمة أعمق !
لا يمكن إنجاح النموذج التنموي دون التصدي للقوى التي أفسدت الحياة السياسية، إن نخب اليوم، في جزء كبير منها، تتحمل مسؤولية عما آل إليه الوضع، والاعتماد عليها في تنزيل مضامين هذا التقرير لن يؤدي سوي إلى فشل آخر ينضاف إلى لائحة الإخفاقات. ينبغي التصدي ليس فقط للقوى التي أفسدت الحياة السياسية، وإنما أيضا الحياة الاقتصادي. 
 
أمام تشكيل هذا التقرير لخارطة طريق التنمية، أي دور للأحزاب في العملية الانتخابية؟ 
إذا أرادت الأحزاب السياسية أن تعبر عن حسن نيتها ورغبتها الصادقة في المساهمة الفعالة في تنزيل تقرير النموذج التنموي الجديد، فما عليها سوى أن تعيد النظر في مسألة الترشيحات، وذلك بمنح التزكية الكفاءات النزيهة، التي تحظى بمصداقية لدى الرأي العام المحلي، نظيفة اليد ولا تحوم حولها أية شائبة. لكن على أرض الواقع حصل العكس، إذ الملاحظ أن جل الأحزاب زكت نفس الوجوه السابقة، وتنافست فيما بينها لاستقطاب "موالين الشكارة"، ومنح التزكيات لهم. من هذا المنظور يبدو لي أن الأحزاب غير واعية بأهمية المرحلة وخطورتها، بل هي واعية، لكن أصحابها غير مستعدين للتنازل عن الامتيازات التي تمنحها السلطة. المواطن المغربي يتطلع لرؤية أحزاب قريبة من همومه، تعبر عن مشاكله وتطلعاته، وتستجيب لطموحاته. إن المواطن ينتظر من الأحزاب أن تتنافس في تقديم برامج انتخابية حقيقية، وأن يكون التنافس النزيه والمشروع عنوان الحملة الانتخابية المقبلة. بيد أن جميع المؤشرات تسير عكس هذا الاتجاه. إن الأحزاب السياسية في مجملها تسبر عكس عقارب الساعة. 
 
البعض يعتبر أمام تشخيص التقرير للأوضاع العامة، وتقديم توصيات، لم تعد هناك أهمية للانتخابات والبرامج، ما دام أن الحكومة المقبلة ستكون ملزمة بتنفيذ ما جاء في هذا التقرير؟
أعتقد من الخطأ القيام بذلك، لأن مثل هذا القرار سيكون له انعكاسات دستورية وسياسية يتطلب تصريفها بأقل الخسائر الممكنة، وهذا غير وارد. في اعتقادي الشخصي النتيجة معروفة مسبقا سواء تم إسقاط العملية الانتخابية أم لا، مادامت الأحزاب متمسكة بنفس النخب، فلا أمل في إحداث تغييرات جوهرية. الحكومة المقبلة ستكون أمام تحدي كبير من أجل تنزيل توصيات التقرير، وهو التحدي المرتبط بتوفير الموارد المالية الضرورية.