الحسن زهور: عن الاستثناء المغربي

الحسن زهور: عن الاستثناء المغربي

كثير من الكتابات المغربية تناولت الاستثناء المغربي، من خلال صمود التجربة المغربية وخروجها بأقل الخسائر من الإعصارات السياسية التي ضربت شمال إفريقيا وبلدان الشرق الأوسط.

بدأ هذا المصطلح السياسي يطغى على الساحة السياسية والثقافية المغربية بعد حراك 20 فبراير ونجاحه في تغيير بعض المسلمات السياسية في بلدنا، وفي نفس الوقت اضطرار السلطة في البلد إلى الانصياع لبعض المطالب بتغيير الدستور المغربي والقيام ببعض الإصلاحات والتي بقيت دون السقف الذي تنتظره القوى الداعية إلى التغيير والإصلاح.

لكن ماذا يعني الاستثناء المغربي في بعض الكتابات التي تناولت هذا المفهوم أو حاولت الترويج له؟

لا يخرج مصطلح أو مفهوم الاستثناء المغربي عند أغلب الكتاب والمثقفين الذين تناولوا هذا المفهوم عن مجال الإصلاح السياسي لأن أغلب كتابات هؤلاء محكومة بالتوجهات الفكرية والسياسية المهيمنة على الساحة المغربية، والتي لا تخرج عن توجهات أربع: توجه قومي تشرب بإيديولوجيات القومية العربية. وكمثال على ذلك المثقفون الموقعون على "البيان الديموقراطي" الصادر أثناء الإعداد لدستور 2011 الذين رفضوا ترسيم اللغة الأمازيغية مما يفضح ازدواجية المعايير عند موقعيهم، أغلبهم مشهورين على الساحة بتوجههم اليساري القومي..

وتوجه ديني تفليدي دعوي أو السلطوي أو السياسي بتعدد تلاوينه الذي يتبنى الأممية الإسلامية لكن من منظور يطغى عليه الحس القومي الذي يتشاركه مع التوجه الأول.

توجه ثالث حداثي يحاول الانطلاق من الفكر التنويري الأوروبي مستندا على الفكر الماركسي وعلى الاستفادة من نضال الحركة الثورية والشبابية والنسوية الأوروبية (مثال الحركة النسائية التقدمية المغربية....)، لكن نقطة ضعف هذا التوجه والذي هو ابتعاده عن الثقافة المغربية التي أنتجتها التربة المغربية عبر آلاف السنوات وفي صلبها الأمازيغية.

لكن ظهور توجه رابع حداثي ديموقراطي تتبناه الحركة الثقافية الأمازيغية وبعض الديموقراطيين والذي بدأ يفرض تصوره في الساحة المغربية منذ التسعينات من الفرن الماضي، بدأ يعطي للاستثناء المغربي مغربيته المنبثقة من ثقافة هذه الأرض.. هذا التوجه يرى في الاستثناء المغربي استثناء له جذوره التاريخية والثقافية والحضارية، وهو مفهوم جديد بدأ بعض المفكرين المغاربة يتبنونه باعتباره وليد ثقافة هذه الأرض وليس هجينا كما أراد له البعض.

- الاستثناء المغربي عبر التاريخ:

هل الاستثناء المغربي هو وليد اليوم أم له جذور في التاريخ المغربي؟

الاستثناء ينشأ من الإحساس بالاختلاف عن الآخر وبالإحساس بالخصوصية، وبالتالي الاستقلالية، في التاريخ المغاربي القديم يمكن أن نجد أن انطلاق هذه الرؤية الفكرية والسياسية المؤسسة للاستثناء المغربي كانت مع القولة الشهيرة للملك الأمازيغي ماسينيسا "إفريقيا للأفارقة" في محاولته منه الاستقلال عن روما، واستمر هذا الإحساس في شمال إفريقيا إلى الفتح الإسلامي، وثورات الأمازيغ المتتالية للاستقلال السياسي عن الشرق، والذي أسفر عن الاستقلال السياسي التام للمغرب الأقصى عن الشرق بميلاد إمارات ودول إسلامية أمازيغية متعاقبة على حكم المغرب كإمارة نكور بالريف، ودولة بورغواطة والأدارسة ....

إذن فمنذ دول الخوارج والنكور والادارسة والبورغواطيين، والتي استقلت فيها المغرب تماما عن المشرق، حافظ المغرب على استقلاله السياسي وحافظ على خصوصياته الثقافية والحضارية في وقت فقدت فيه معظم البلدان الإسلامية استقلالها وأدمجت تحت سيطرة الإمبراطوريات الأموية ثم العباسية ثم العثمانية الى العصر الحديث.

الاستثناء التاريخي المغربي هنا يكمن في كون أكبر إمبراطورية إسلامية هي الإمبراطورية العثمانية التي هيمنت على أغلب المناطق والأقطار الإسلامية لمدة خمسة قرون، وامتد حكمها على جزء هام من أوروبا وقفت عاجزة عن دخول المغرب والاستيلاء عليه، ليبقى المغرب البلد الإسلامي المستقل سياسيا، وهذا هو النموذج التاريخي والسياسي للاستثناء المغربي الذي استمد هذه الاستثنائية التي يتحدث عنها البعض اليوم من تاريخه العريق.

فإذا أفلح المغرب من صد التهديد الخارجي بفضل هذا الاستثناء المميز له، يبقى التهديد الداخلي هو أكبر تهديد يمكن أن ينخر هذا الاستثناء من الداخل.

بدأ هذا التهديد أول الأمر بمحاولة بعض القوى الداخلية بتفريغ الاستثناء المغربي من خصوصيته الفكرية والثقافية والحضارية، بنشر فكر إيديولوجي قومي تحت يافطة الوحدة العربية التي تبناها الفكر القومي الناصري والبعثي في مصر والشرق، حاول أصحاب هذا الفكر ومن تأثر به من المفكرين والسياسيين المغاربة جعل المغرب قطرا (و ليس بلدا) من الأقطار العربية، لذلك تم الترويج لعروبة المغرب وما يرتبط بها من محو للتاريخ المغربي فبل الإسلام وربط التاريخ المغربي بتاريخ شبه الجزيرة العربية، أي خلق مغربي بعقلية مشرقية وهو ما نتج عنه ما شهده المغربي إلي الأمس القريب في دفاعه المستميت عن مشاكل وقضايا الشرق الأوسط أكثر من مواطني هذا الشرق، وفي المقابل إغفال قضاياه الوطنية والابتعاد عنها.

سياسيا قاومت الدولة المغربية هذا التيار بقانون الحريات العامة الذي أصدرته سنة 1958، وهو القانون الذي أجهض محاولة بعض الأحزاب المغربية المتأثرة بالفكر القومي لنسخ التجربة المشرقية المعتمدة على حكم الحزب الوحيد، لكنها ايديولوجيا وثقافيا ترك لهذه الأحزاب مجالا لنشر ايديولوجيتها القومية التي تساعد على التحكم.

وأمام فوة هذا التيار المهيمن فكريا وإيديولوجيا على الساحة المغربية حاولت الدولة المغربية إضعاف هذا التيار القومي بفتح المجال للتيار الديني سواء الوهابي أو الإخواني منذ السبعينات من الفرن الماضي المعادي للأول، فبدأ ينتشر ويتقوى ايديولوجيا وسياسيا بظهور الحركات الاسلامية السياسية، والتي ستبدأ في منافسة المؤسسة الملكية في شرعيتها الدينية والتي استمدتها من الشرعية التاريخية للنموذج المغربي في الحكم منذ إمارة الخوارج والنكور و الأدارسة والمرابطبن... إلى الآن.

هذا التدافع من هذا التيار للهيمنة ومنازعة المؤسسة الشرعية الدينية هو ما نلاحظه اليوم في محاولة هذا التيار الديني كسب المواقع (حسب نظرية غرامشي) في المجتمع المدني والمواقع السياسية (وهذا ما يطفو أحيانا على السطح من خلال بعض الخرجات الأخيرة لأهم زعيم من زعماء التيار الدعوي الإسلامي بالمغرب السيد الريسوني في مطالبته تطهير مؤسسات الدولة من العلمانيين).

التيارات الإسلامية اليوم بالمغرب، وفي سعيها الهيمنة على المجتمع، سعت أولا منذ ظهورها إلى هدم أسس الخصوصية المغربية والتي نسميها استثناء، وتكمن هذه الخصوصية في شبكة ثقافية وحضارية وفكرية تتمثل في العادات والقيم وفي كيفية تأدية الشعائر الروحية والدينية وممارسة الفنون، وفي النظرة إلى الحياة... وهي شبكة من الأنماط الثقافية (الثقافة هنا بمفهومها الواسع) المترابطة الخيوط والعلاقات التي يتميز بها الشعب المغربي.

لذاك ابتدأ هدم هذه الأسس الثقافية بإدخال نمط تديني جديد على الشعب المغربي منذ السبعينات من الفرن الماضي لهدم مرتكزات الهوية المغربية التي تميز الشعب المغربي مما يسهل على الحركات الإسلامية مهمة تغيير الهوية بهوية أخرى مستوردة ليصبح بعدها الشعب المغربي شعبا هجينا، ومن تم يسهل التحكم فيه. لذلك سنلاحظ أن أكثر الانتحاريين في صفوف داعش هم مغاربة حسب الإحصائيات، لأن من لا هوية يسهل التحكم فيه.

- فهل نجحت التيارات الإسلامية في مسعاها هذا؟

في بعض النواحي نعم حيث استطاعت تغيير العقلية المغربية من عقلية منفتحة الى أخرى متزمة، وهو ما نراه في حياتنا اليومية، لكن ظهور الحركة الأمازيغية بخطابها التنويري وبمحاولتها إرجاع المغاربة الى هويتهم وإلى خصوصيتهم الثقافية حد من مشروع التيار الإسلامي في هدم المرتكزات المغربية وهو ما يشير الى هذا العداء الذي تكنه التيارات الاسلامية للحركة الثقافية الأمازيغية.

بالنسبة للخطاب الديني الرسمي حاول استغلال المرتكزات الايديولوجية للتيارات الإسلامية لتوظيفها لمصلحته لكن مع ازدياد القوة الايديولوجية لهذه التيارات خصوصا السياسية منها، والتي تتعارض مع التوجه الديني الرسمي وتزاحم شرعيته ستلتجأ الدولة إلى تشجيع الزوايا المغربية والتي لعبت سابقا دور المقاومة الدينية والسياسية ضد الزحف الأجنبي، أي أن الدولة المغربية وعت أخيرا خطورة المشروع الديني والسياسي لهذه التيارات التي ستنزع الشرعية الدينية المتوارثة تاريخيا (إذ أن أغلب الدول التي حكمت المغرب تعتمد على الشرعية الدينية) وتعييرها بشرعية دينية مستوردة من الشرق تنزع عن المغرب هويته الثقافية واللغوية، وهو ما سنراه في العداء الذي كانت تكنه هذه التيارات للأمازيغية .

- كيف يمكن تقوية الاستثناء المغربي؟

يكمن الاستثناء، كما قلنا سابقا، في بعض الخصائص التي تتميز بها العقلية المغربية أو ما يسمى في علم النفس بالعقل الجمعي المتكون عبر التاريخ والذي سبق أن قلنا أن الحركتين القومية والإسلامية بالمغرب حاولتا هدم أسسه ليسهل توجيه البوصلة الى اتجاه فكري وسياسي آخر مستورد لا ينتمي الى هذا الوطن.

لذلك فتقوية وتحصين هذا الاستثناء المغربي الذي هو في نفس الوقت تحصين للدولة الوطنية المغربية وللشرعية السياسية والدينية لا يكون إلا بالعودة إلى أسس هذا الاستثناء المرتبط بثقافة وحضارة هذه الأرض منها:

- تقوية الهوية المغربية المتعددة الأبعاد وفي صلبها الأمازيغية، يحس فيها المغربي بأنه ينتمي الى ثقافة وحضارة هذه الأرض التي يعيش فيها بدلا من الارتماء في أحضان هويات وثقافات أخرى.

- ربط المغاربة بتاريخهم القديم الممتدة الى عشرة ألاف سنة، و الاعتزاز بالرموز التاريخية الأمازيغية فبل الإسلام بتوجيه بوصلة التاريخ المغربي نحو تاريخه هو في هذه الأرض بدلا من ربطه بتاريخ شبه الجزيرة العربية، ويتطلب هذا تغيير المناهج الدراسية التي ما زالت ترسخ في الطفل المغربي الهوية الشرقية.

- تشجيع الذهنية المغربية المبنية على الانفتاح وعلى العقلانية التي تميزت بها هذه المنطقةتاريخيا متمثلة في أكبر العقلانيين والمجددين منذ القديس اغسطين فبل الإسلام إلى ابن خلدون واين طفيل وابن بطوطة غيرهم.

- الرجوع الى التدين المغربي المعتدل بتشجيع العادات والتقاليد المغربية والطقوس الاحتفالية.

- إدخال الأعراف والقوانين الأمازيغية في القوانين التشريعية، والاستفادة من النموذج الأمازيغي المغربي الذي يفصل الديني عن الدنيوي السياسي والاجتماعي. (الفقيه مختص بالمسجد، وهيئة الأمناء مختصون بالشؤون الاجتماعية والسياسية، أي النموذج المغربي الأمازيغي القديم في الفصل بين الدين والدولة.