هذا ما يدفعنا بالذات إلى البحث عن الظروف التي اعتملت في الواقع التفاعلي الأوروبي، وساهمت في بروز أزمة هوية، تسائل على فترة من الزمن العقل الجمعي للجالية الإسلامية عن ماهية المسلم في بلاد الغرب. ومحاولة منا لاستجلاء التمايزات المفهومية الناشئة بين العلمانية ومحددات الفكر الديني الكنسي، وما رافق ذلك من متغيرات وقتية حكمت طبيعة العلاقة بين الممارسة الدينية وأركان الدولة الحديثة في الاجتماع السياسي الأوروبي، سنكتشف أن أي عمل إصلاحي لتجديد تدافع الجالية المسلمة في المجتمع الأوروبي بغية تشكيل ملامح التناول التنويري للهوية الإسلامية، لا بد أن يسعى إلى فهم تاريخ الهجرة الإسلامية المعاصرة نحو أوروبا ودوره في حتمية وجود واقع إسلامي متميز، أنتج أدوارا للأجيال المسلمة، ساهمت في بناء العمران الأوروبي لا يمكن إنكارها البتة. من أجل ذلك، سنحاول مقاربة كينونة الظاهرة الإسلامية في الفضاء الأوروبي ــ خاصة الفرنسي منه ــ ومعاينة أنماط حضورها الوجودي في الواقع المادي، باعتبارها تجربة فريدة للدين الجديد في الغرب بعد صدمة الحداثة والمرحلة الاستعمارية للعالم الإسلامي؛ لذلك لا بد من إدراك جوهر هذا التدافع من حيث حوامله البشرية وتأصيلاته الدلالية، والتي استنبت في عمق الحداثة الأوروبية. من هنا تتجلى أهمية هذه الأوراق ـــ المنشورة منجمة ـــ في كونها تبحث عن إمكانية تجاوز التمييز الاجتماعي على أساس ديني، ومحاولة صياغة مداخل للتواصل الحضاري، تؤسس من جهة، لمشروع الانتماء على أساس المواطنة، وتساهم من جهة أخرى في ضمان استقلالية فضاء التعبد المسجدي عن نوازع السياسة، وذلك من أجل استيعاب هذه الفضاءات التدينية في فضاء الحداثة الأوروبية، بشكل يضمن نوعا من التقاسم الثقافي القائم على أساس انسياب المعتقدات الفردية في تناغم وانسجام مع روح الشرائع الوضعية. حسب آخر الإحصائيات التي تقدمها وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) عن جغرافية الأديان في العالم، يشغل الإسلام في أوروبا نسبة 2% من مجموع السكان، وتشير أغلب تقديرات المتتبعين في هذا الشأن إلى أن هذه النسبة في ازدياد مستمر. ورغم غياب الانتقادات المباشرة للظاهرة الإسلامية، خاصة عند الأوروبيين على المستوى الرسمي بحجة التعدد الثقافي وقبول الآخر، فذلك لا يعني أبدا غياب السؤال المقلق عن علاقة الغرب بالإسلام. يتجلى هذا الاهتمام الغربي بالظاهرة الإسلامية في أوروبا على مستويين؛ الأول يهم تلك التحقيقات الاستقصائية التي تقوم بها المراكز البحثية الأوروبية أو الدراسات التي ينجزها مستشارون في الشأن الديني، لهم صلة بالمؤسسات الإعلامية ومراكز القرار السياسي والأمني في الغرب. والثاني يظهر في منسوب المؤلفات والكتب والمجلات الصادرة في الغرب في الآونة الأخيرة، والتي تتناول الإسلام والمسلمين، وتناقش مشاكل الاندماج في المجتمعات الأوروبية. هذا الاهتمام يترجم حجم القلق الغربي من تنامي رقعة الظاهرة الإسلامية في الفضاء الأوروبي. بين أيدينا جزء من التقرير الذي قام به كل من المعهد الوطني للدراسات الديمغرافية (INED) والمعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE) بتعاون مع وزارة الداخلية الفرنسية، يشرح بشكل أكثر موضوعية الحالة الدينية سنة 2008. حسب هذا التقرير، يتواجد في فرنسا ما يقرب 2.1 مليون مسلم (15%)، رغم أن هناك تقارير صحفية أخرى تتحدث عن أرقام لم يتسن التأكد من صدقيتها، تشير إلى وجود 4 ملايين من المسلمين على التراب الفرنسي، إلى جانب 11.5 ينتمون إلى الديانة الكاثوليكية (80%) و500 ألف من البروتستانت (3%)، و150 ألف بوذي (1%)، بالإضافة إلى 125 ألف من الطائفة اليهودية (1%). وفي تقرير آخر قام به المعهد الفرنسي للرأي العام ( IFOP) بتعاون مع جريدة لاكروا سنة 2011 يظهر حجم التطور السريع لتنامي ظاهرة الوجود التديني الإسلامي بفرنسا حسب ما توضح 70 موجة مسح أنجزت على عينة تضم ما يقرب 950 شخصا. حيث يشكل صنف "مؤمن متدين نسبة 41%، ومؤمن غير متدين 34%، ولاديني أو من أصل مسلم نسبة 25%، أما الذين يواظبون على صلاة الجمعة فيشكلون نسبة 25%. في عدد 21 شتنبر 2015 أوردت جريدة لوموند الفرنسية مقالا صحفيا، كتبه ألكسندر بوشار وصامويل لورون، أشارا من خلاله إلى أن عدد الفرنسيين الذي يعتنقون الإسلام كل سنة يناهز "4000 فرنسي"(؟ !!).. وأوردا في هذا الصدد تصريحا لبيرنار كودار، أحد مسستشاري وزارة الداخلية سابقا والمتخصص في علم الاجتماعي الديني، مفاده أن أكثر من 100 ألف شاب فرنسي من عائلات مسيحية هم في طور التحول إلى الإسلام. إن معاينة الظاهرة الإسلامية ــ من خلال هذه التقارير وبحوث ميدانية أخرى ــ في سياقها الاجتماعي عبر مسارات السلوك التديني لمسلمي فرنسا، أو التاريخي من خلال تحليل وفهم تطور الظاهرة الإسلامية منذ موجة الهجرة في سبعينيات القرن الماضي، أو حتى في بعدها الرمزي عبر الكشف عن المعاني التي تبرز الطريقة المذهبية لفهم الإسلام بالنظر للأهداف الاجتماعية والثقافية المتبعة من مجموع شباب الجالية المسلمة في أوروبا..هذه المناولات تظهر أن الإسلام في أوروبا وفي فرنسا خصوصا يتمظهر من خلال ثلاث زوايا : أ- إسلام شعبي وهادئ، أو ما تسميه الباحثة فاطمة عاشور بإسلام الأسر والعائلات. ب- إسلام فردي خاص، منفصل عن السياسة، لا يعبر عن رموزه في الفضاء العمومي. ت- إسلام ثالث يعلن جهارا نيته لأسلمة أوروبا. هذا الإسلام الأخير هو ما عبر عنه أحد الكتاب الغربيين بإسلام " الله أكبر التي تطالب بقانون الله الذي يسمو على كل القوانين. الله أكبر التي تعني أن الإسلاميين موجودون في أرض أوروبا". لقد مكن التجمع العائلي العمال المهاجرين من الاستقرار وتكوين أسرة في بلاد الغرب؛ فقد مرت أوروبا بموجتين كبيرتين من الهجرة. الأولى كانت بعد الحرب العالمية الثانية بعدد يفوق مليوني مهاجر إلى حدود سنة 1946، ثم ارتفع هذا العدد إلى أربعة ملايين مهاجر سنة 1975، حيث تزداد الأعداد بشكل بطيء وضعيف. ومع الانتقال الديموغرافي الذي صاحب تحديث المجتمع الأوروبي منذ القرن التاسع عشر؛ "هذا التحديث الذي هم أيضا البنيات السوسيواقتصادية ونمو الراسمال الصناعي بالإضافة إلى تطور الإديولوجيات والعقليات"؛ لم ينتبه المجتمع الغربي بشكل واع ــ في خضم كل هذا التحول ــ خاصة في فرنسا إلى وجود الإسلام بين ظهرانيه إلا بعد سنة 1989، شكلت هذه اللحظة التاريخية عند السياسيين الفرنسيين ما يمكن أن نطلق عليه "صدمة الإسلام". سنة 1989 هي لحظة التقاء الوعي الفرنسي بالظاهرة الإسلامية، لحظة أثارت شروط الوعي عند فرنسا بشيء ما. إنه وعي بالإسلام كظاهرة، ووعي بالمسلمين (الآخر) كأجساد، أضفت عليهم التجربة الإسلامية في المجتمع الفرنسي معاني جديدة تتجاوز مفهوم المهاجر البسيط. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وإنهاء الاستعمار، والهجرة الاقتصادية نحو أوروبا لتلبية الحاجة إلى اليد العاملة، ظهرت ممارسات دينية جديدة، لم تفرض تميزها إلا في سنة 1989 لما اندلعت قضية حجاب تلميذات إعدادية كريل بفرنسا. حينئذ استفاق الغرب على تحذير شاهدروت دجافان بأن الإسلاميين " يقترحون أمة الإسلام، ويبشرون بدين يجاوز الوطنية الحالية والفوارق الثقافية واللغوية والتاريخية للأصول". اشتدت حدة إدراك حقيقة الظاهرة الإسلامية مع الاضطرابات المتتالية التي طبعت السياق الدولي منذ سقوط الشيوعية، وزادت من فوار الاستقطاب الايديولوجي للإسلام في مواجهة الغرب أو الجهاد في مقابل السلام.