البشير زناكَي: بعدما تبددت المساحيق.. دعوا للعقل موقعا يقبل بقدر الجوار!

البشير زناكَي: بعدما تبددت المساحيق.. دعوا للعقل موقعا يقبل بقدر الجوار! البشير زناكَي

في خانة المفاهيم والمعاجم المتداولة في المحافل الدولية تأتي فكرة «تصفية الاستعمار» لتضع نفسها امام المجهر. لماذا؟ لأن المغرب الذي أعيش فيه هو من آخر البلدان التي تم استعمارها تحت ظل اتفاقيات الحماية في 1912، والذي لم يتحرر بشكل تام لحد الساعة بسبب استمرار احتلال بعض من أراضيه من طرف اسبانيا والجزائر.

آن الأوان لنصفي استعمارنا

والمفارقة الأولى هي أنه بسبب بعض «التحرريين» الذين اتخذوا التسلط عقيدة، وبعض البلدان الاستعمارية التي يعرفها الجميع، أصبح المغرب في عرف هؤلاء زميلا جديدا لهم يشترك معهم حسب زعمهم في احتلال جائر لتراب يمتلكه آخرون، والأفظع أيضا أن تنصر أوروبا بمجمل بلدانها دولة إسبانيا، وتحمي حدودها فوق التراب الإفريقي المغربي، بدعوى حماية الحدود الأوربية ضدا على الجغرافيا التي ترى في البحر المتوسط فاصلا طبيعيا بيننا! فهل تعلم شعوب أوروبا شيئا عن الجزر الجعفرية، وعن جزيرة ليلى وعن صخرة نكور؟ ما الذي تعرفه القارة العجوز عن امتداداتها القارية الوهمية الموجودة فوق التراب المغربي؟ تلك التي لم يكن لها أن توجد لولا استمرار الفاشية والعنصرية في التفكير الإسباني الجماعي تجاه المغاربة؟ والقصة لها ترابيا واجتماعيا تفرعات شمالا وجنوبا، هل يعرف العالم كله أن لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة تناقش منذ عشرات السنين موضوع تراب مغربي استعمرته إسبانيا، وغادرته مكرهة من طرف المغاربة في سنة 1975؟ وأن هذه اللجنة التي وضع المغرب لديها ملف تصفية الاستعمار من صحرائه في 1966، دأبت منذ 1975 على مناقشة الملف بطلب من بعض البلدان المستعمرة (بكسر الميم) وبعض «زعماء التحرر» الذين استداموا في كراسيهم الحاكمة على رغم أنف شعوبهم، وصحبتهم أيضا الكثير من أصحاب النوايا الغامضة، هؤلاء جميعا يقتسمون الدعم لحركة تحرير لم تناهض سوى المغرب، ولم تطلق رصاصة واحدة ضد الاستعمار الإسباني الذي احتل هذا التراب المغربي لمدة تفوق نصف قرن! فهل يعرف العالم أن أصل وفصل هذه الحركة صنع سنتين فقط قبل انسحاب إسبانيا من الأرض المغربية (1973) بمكاتب بومدين والقذافي في مرحلة الوهم الثوري، في زمن كانت تهب فيها هذه الأوهام على كثير من بلدان الجنوب وبغاية لا ضباب عليها تكمن في العداء لنظام الحكم بالمغرب؟ هل يعلم العالم بأن هذا الورم استمر يترعرع بفضل تبذير الأموال الجزائرية والليبية من طرف أنظمة العسكر ومساهمات الأوساط الاستعمارية والثورية كليهما بأوروبا وإسبانيا على الخصوص؟ أي تصفية استعمار هذه إذن؟ هناك حقائق أصبحت بينة اليوم وقد يكون من المرارة التي لا محيد عنها ان نعترف بكون الكيانات التي أنتجها الاستعمار بعد التصفية المزعومة كانت أحيانا امتدادات للمشاريع الاستعمارية ضد شعوبها أولا، وضد شعوب أخرى أيضا! وهذا للأسف هو السياق العكر الذي تسبح فيه إسبانيا والجزائر اليوم، والذي يدفع المغاربة لشيئين اثنين لم يعد من الممكن تجاهلهما، الأول اعادة الاعتبار لهدف استرجاع كل الأراضي المحتلة، وبناء سياسات الجوار على هذه القاعدة الواضحة. والثاني ترتيب علاقات المغرب على أساس التكافؤ والاحترام المتبادل، لأن كل هؤلاء وغيرهم استغلوا إمكانات المغرب وموارده دون أي مقابل مهم لحد الساعة، واعتنقوا فكرة البلد الساذج والمسالم الذي يمكن النصب والاحتيال عليه!

كفى من لحظات حقوقية حسب الطلب

العالم الذي نحيى فيه حرباء تتلون بلون المصالح، وتغيب فيها القيم بمفهومها النبيل. هل مازلتم تحتاجون لدليل؟ كم كان مقرفا أن نشاهد هذه الأيام تجند المحللين والمراقبين والإعلاميين بإسبانيا وأوروبا «وقفة رجل واحد» ضد المغرب، يا لروعة درجة الاستقلالية التي يعبرون عنها تماما مثل يوم الهجوم على العراق أو غداة كارثة 11 سبتمبر، إنها «عظمة» الهيمنة الإيديولوجية على العقول ودرجة نفوذها في ثقافة الأفراد متلقين أو متحدثين. شخصيا قضيت مدة طويلة من عمري أحاول أن أقنع نفسي بأن الحوار بين عاقلين يكفي لإقامة التفاهم بينهم، لكن الحقيقة تثبت أن الأحقاد دفينة أم عارية تظل الأقوى في علاقة أوروبا بالعالم على امتداد قرون متتالية، هي مستشرية بين الشعوب المستعمرة (بكسر الميم) تجاه الشعوب المستعمرة (بفتح الميم) سابقا بشكل كبير. ويبلغ التهريج قمته حين الحديث عن حقوق الإنسان، حيث تصبح تلقائيا خاضعة لمنطق «وزنان، مقياسان». لقد استمعتم جميعا لتعاليق وتحاليل صاحبت صورا لأحداث سبتة السليبة، رأينا العصي والدبابات والحراس الإسبان في مواجهة شباب غير عنيف وأطفال صغار وأفراد آخرين عزل جميعا على الممرات أو على الشاطئ. فما رأيناه يقول إن العنف كان سلوكا من طرف واحد وكان في غير محله لأن الدبابات لا مجال لاستعمالها في مثل هذه الأحوال، ولكننا سمعنا تعاليق تقول إن ما شاهدناه مدبر من طرف المغرب وأن هذا يمس حقوق الإنسان في المغرب، وسمعنا أيضا استجوابات بئيسة لأفراد مغاربة تم استنطاقهم كي يشرحوا أسباب محاولة عبورهم؟ هل رأيتم في هذا بصيص موضوعية؟ هل هناك مهنية تختلف عن مهنية ابواق الرباط والبيضاء البئيسة؟

فشل النفاق في بناء علاقات ثابتة ودائمة بين البلدين

لقد تعرت هكذا المساحيق، ومثل ما حصل في إيطاليا مع أزمة كورونا، ومثل احتكار التلقيحات من طرف أوروبا في موضوع الكوفيد، عرت هذه الحادثة عن بلد جار يدعي في العلن الصداقة ويضمر في الخفاء أفعالا عدوانية لا شك في تفسيرها ولا حصر لها. فليس سرا أن العديد من المنظمات الإسبانية تساعد الانفصاليين الصحراويين بالمغرب بينما تنتفض إسبانيا «كرجل واحد» ضد الانفصاليين الإسبان في كتالونيا والباسك!! وحين أقدم المغرب على ترسيم حدوده ومناطقه البحرية أعلنت إسبانيا عن رفضها لذلك، وحين أطلق قمره الصناعي باشر الجار بالاحتجاج لدى فرنسا التي باعت المنتوج للمغاربة. وفي كل الاستراتيجيات العسكرية تحتفظ إسبانيا بسيناريو واحد ووحيد في كل مناوراتها وهو الخطر القادم من المغرب دولة أو جماعات! وفي كل شمال المغرب نعاني من مضايقات يومية بحرا، وفي كل الجنوب تمارس سفن الصيد الإسبانية قرصنة منظمة للثروات السمكية المغربية خارج نطاق الاتفاقات، وحتى في العلاقات الاقتصادية عرت تجارب إغلاق المعابر عن دور إسبانيا في إغراق السوق المغربية بالمواد المهربة عبر سبتة ومليلية ودورها في تخريب الاقتصاد والتجارة بالمغرب. ورغم التعاون الأمني، فإن إسبانيا تغسل أموالا وتحمي المهربين الفارين من العدالة المغربية، وانفضح دور إسبانيا مجددا حين غرق معمل النسيج بطنجة الذي أسفر عن اكتشاف شبكة واسعة للقطاع غير المهيكل توظفها بعض الشركات الإسبانية بالمغرب. فأي صداقة هذه التي تتعارض وحقوق العاملين سواء بالمغرب أو بإسبانيا؟

على أي حال، ما يجري يمكنه أن يندرج في مسلسل العلاقات المغربية الإسبانية التي تسير تاريخيا على منوال أسنان المنشار، وتعرف تباعدات وتقاربات متوالية، ولكن الأفضل حقا بالنسبة للبلدين هو أن يشرع الطرفان في نقاش كل الأشياء صراحة دون نفاق، استغلال هذه الأزمة لبناء ثقة جديدة تحترم مصالح المغاربة والإسبان حقا!

 

                                                                       البشير زناكَي، فاعل إعلامي وحقوقي