أحمد الحطاب: في الحاجة إلى مدرسة عمومية منفتحة ومتحررة

أحمد الحطاب: في الحاجة إلى مدرسة عمومية منفتحة ومتحررة أحمد الحطاب

إذا كانت المنظومة التربوية متجذرةً في المجتمع، فإنه يجب عليها مع ذلك أن تثبت أو أن تبرر وجودها في هذا المجتمع الذي يستفيد من خدماتها.

وبالمقابل، فإن على المجتمع أن يوضح علاقته معها. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن وجود أية منظومة تربوية في مجتمع ما يرتكز على أسس نظرية بدونها لا سبيل لذكر هذا الوجود.

يعد هذا الجانب النوعي أساسيا في كل تحليل أو إعادة نظر في المنظومة المذكورة. ورغم أن هذا الأمر لا يدرك في أول وهلة، يبقى هو العامل الأول الذي يُحدِث تأثيرا على توجُّه الممارسة التربوية. فمن المفروض أن تتمحور التحاليل حول هذا الجانب النوعي من أجل إيجاد عناصر تفسير للهوة التي تفصل بين بعض المنظومات التربوية والواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه.

فعلا، إن أية منظومة تربوية هي إنتاج من المجتمع ولكن بالمقابل، فإنها تساهم في بناء هذا المجتمع. وبعبارة أوضح، يجدر القول بأن منظومة تربوية ما هي صورة للمجتمع الذي يحتويها وأن المجتمع هو صورة لمنظومته التربوية. لهذا، يجب أن يكون هناك تفاعل دائم ومستمر بين هاتين الوحدتين بكيفية تجعل من كل وحدة إنتاجاً ومُنتِجةً للأخرى.

تحت تأثير بعض العوامل، وعلى الخصوص منها تلك التي تترتب عن العولمة وعن التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، يعرف العديد من المجتمعات النامية تغييرات وتقلبات في نمط فكرها وعيشها. وما يؤسف له هو أن المنظومات التربوية لهذه المجتمعات تتكيف ببطء أو لا تتكيف كليا مع هذه التغييرات التي تطال الواقع الاجتماعي وبالتالي، تستمر في العمل على أساس مبادئ وقيم أكل الدهر عليها وشرب.

فعوض أن تساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لهذه المجتمعات، فإن هذه المنظومات تصبح العائق الرئيسي لهذه التنمية. فإنها تدور إذن في حلقة مفرغة بمعنى أنها تنغلق على نفسها وبالتالي، تصبح فريسة للجمودية والخمول. وبما أن هذه المنظومات لم تستوعب التغييرات التي تحصل في المجتمع وفي العالم، فإنها تتحول إلى آلات ضخمة لتفريخ حاملي الشهادات ملجأ من أجل ذلك لطُرقٍ وأساليب وتعليم تتماثل معها وأنهكها التقادم والإهمال.

ومن جهة أخرى، عندما نتحدث عن الواقع الاجتماعي، فإن الأمر لا يتعلق بوحدة مستقلة عن الفكر، تفرض نفسَها على العقل البشري. الواقع الاجتماعي هو مجرد إفراز بناه الإنسان فكريا ثم عمليا. إنه ناتج عن تفاعل نفسي-اجتماعي-لغوي بين أفراد مجموعة ما (مجتمع محدد). كل ما يتم فعله في إطار هذا التفاعل يتم بناءه من طرف العقل بكيفية جماعية.

وبعبارة أخرى، الواقع الاجتماعي هو بمثابة نظام تفاعلي يشمل أشياء تتطابق معها معارف حصل في شأنها توافق من طرف أفراد المجتمع. وهذه المعارف، التي تم بناء جميع أجزائها من طرف العقل البشري، تمكن من التواصل داخل هذا المجتمع وبالتالي، تسمح وتسهل اشتغاله وعمله.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الاشتغال هو في الحقيقة محكوم بنوعين من المعارف. من جهة، هناك المعارف الشائعة ومن جهة أخرى، هناك المعارف المعدة بدقة أي الناتجة عن البحث المنظم والمنسق. إن هذا النوع الأخير من المعارف، عندما يتحول إلى تطبيقات ملموسة، هو الذي يحدث تأثيرا على اشتغال المجتمع على المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والعلمية والثقافية، الخ.

غير أنه في عصرنا الحاضر، فإن هذا النوع من المعارف لم يعد محصورا على بعض الأشخاص المنعزلين. بل بالعكس، إنه موضوعَ إنتاجٍ منتظمٍ واجتماعي بكل ما للكلمة من معنى من طرف مؤسسات اجتماعية عالية التنظيم (جامعات، مراكز بحث). وهذه المعارف، بمجرد انتقالها بطريقة أو أخرى إلى المنشآت والمستوطنات البشرية (جماعات، أوساط سياسية، مقاولات، إدارات، قطاعات الإنتاج، قطاعات الخدمات، الخ.)، هي التي تُحدِث تغييرا وتقلُّبا في المنظر الاجتماعي.

غير أن التأثير الذي تمارسه المعارف على هذا المنظر ليس أحادي الاتجاه لأن المؤسسات التي تُنتجه تستمد وجودها من المجتمع. وبعبارة أخرى، إن إنتاج المعارف الدقيقة ظاهرة اجتماعية تستجيب لحاجيات المجتمع من أجل تحسين اشتغاله، أي ليتمكَّنَ من الانتقال من طور تنموي إلى آخر يتميز بزائد أو قيمة مضافة أو تطوير أو تحسُّن، الخ.

وهكذا، فعندما نتحدث عن تغييرات الواقع الاجتماعي، فالأمر يتعلق بظاهرة بُنِيت كل أجزائها من طرف المجتمع. فالتغييرات المذكورة ناتجة إذن عن دينامية اجتماعية تنتهي بإدخال تجديدات وتقلُّبات وإعادة في النظر في مختلف قطاعات الحياة اليومية وفي أنماط عيش وفكر الناس. وخلاصة القول، فإن حركية المجتمع تتلقى معطيات جديدة، الشيء الذي يكون سببا في ظهور حاجيات في التكوين للتصدي لهذه الوضعية.

المشكل كل المشكل هو أن المجتمع يعمل ويسير ويتحرك حسب نموذج نشيط بينما بعض المنظومات التربوية تشتغل حسب نموذج تطبعه الجمودية (سكوني، مقاوم أو رافض للتغيير). إذا كان المجتمع يجدد معارفه التي بواسطتها يخلق تغييرات في الحياة اليومية، فتلك المنظومات التربوية تجد صعوبات كبيرة في التكيف مع هذا الوضع. وهذا معناه أن المنظومة التربوية تتقوقع حول مضامين تعليمية تعود لعدة سنوات مضت وذلك في تباعد تام مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية.

من هذا المنطلق، تجدر الإشارة إلى أن التربية والتكوين اللذان يشكلان الاهتمام المركزي للمنظومات التربوية بما في ذلك المنظومة التربوية المغربية، لا يستثنيان من هذا الوضع بمعنى أنهما يجب من المفترض أن يعتبرا كسياق اجتماعي، أي كنظام تمت إقامته من طرف، من أجل وداخل  المجتمع. وبعبارة أخرى، فإن هاتين الوظيفتين من المفترض أن يكون لهما، فضلا عن دورهما في التثقيف، دورا اجتماعيا يكون بمثابة جسر بين المدرسة والمجتمع.

غير أن العديد من المؤشرات يبين أن هذا الجسر يسير نحو التلاشي إن لم نقل نحو الاندثار ليحل محله دور آلي (ميكانيكي) يتمثل حصريا في تبليغ وتراكم المعرفة المنعزلة عن الواقع الاجتماعي علما أن هذا الدور الآلي هو الآخر يدفع المدرسة إلى التقوقع والانعزال، أي إلى التماس المفرط الذي يذهب إلى حد القطع الحاسم مع كل ما يجري أو يمارس في الحياة اليومية.

لإلقاء الضوء، من جهة، على انعزال المدرسة حيث المعرفة تكتسي طابعا تجريديا، ومن جهة أخرى، على انعكاسات هذا الانعزال على تكوين المتعلمين، يكفي أن نلاحظ الفرق الشاسع بين ما يتلقونه من معرفة داخل المدرسة وما يصادفونه من وضعيات في حياتهم اليومية.

أمام هذه الوضعيات، غالبا ما يجدون أنفسهم عاجزين عن رد الفعل وإن حصل هذا الرد، فالتَّردُّد هو الذي يقوده في أغلب الحالات. ولا داعي للقول إن الأمثلة التي تبرهن على عقم المعارف المبلغة للمتعلمين عديدة ومتنوعة. هذه بعض النماذج منها :

1-في مجال الجيولوجيا، يتلقى المتعلم سيلا من المعارف عن مميزات وخاصيات الصخور، التي لا يجد لها أي مبرر عندما يصادف نفس الصخور في الطبيعة.

2-في مجال البيولوجيا، يَدرُس المتعلم تركيبَ وشراحة وإيكولوجيا ذلك النبات   الحيوان، لكنه بعد خروجه من المدرسة، غالبا ما نراه يخرب الأول و يعتدي على الثاني.

3-في مجال التاريخ، تزخر ذاكرة المتعلم بالتواريخ المتعلقة بالأحداث والحروب والغزوات..الخ، لكنه لا يعرف شيئا عن تاريخ المعرفة وعن النظريات والاكتشافات العلمية، الخ.

4- في مجال الفيزياء، يتلقى المتعلم الكثير من المعلومات عن الظواهر الطبيعية كالحرارة والضغط والجاذبية والقوة والطاقة، الخ.، لكنه يعجز عن الجمع بين هذه الظواهر ليفسر مثلا تكوين السحاب أو الريح أو المطر، الخ.

5-في مجال الكيمياء، يتم تبليغ الكثير من المعارف للمتعلم عن المادة، عن حالاتها الثلاثة، عن الأملاح والأحماض والقواعد والعناصر وعن كيفية تفاعلاتها وخاصياتها... الخ،  لكنه لا يعرف أي شيء عن الصابون الذي يغسل به جسده وعن المعجون الذي ينظف به أسنانه أو العِطر الذي يطيب به وجهه و يديه.

لا يمكن للتربية والتكوين أن يكونا أدوات للتحرر أمام مدرسة متحجرة، منعزلة عن محيطها الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، أي مدرسة منغلقة على نفسها ومُمَأسسة بإفراط. إن التَّحرر يتطلب مدرسة متفتِّحة على الحياة، أي تتفاعل مع محيطها على كل المستويات. التفتح على الحياة هو أن يُعتبرَ المحيطُ كمختبر دائم تستمد منه المدرسة أسباب وجودها. إنه كذلك إنشاء جسر بين هذه المدرسة والحياة العملية لتمكين المتعلمين من الاندماج التدريجي في هذه الأخيرة.

وبعبارة أخرى، إن الوظيفة الاجتماعية المسندة للتربية والتكوين يجب أن تذهب عادة إلى أبعد من مجرد التثقيف والتعليم، أي أن تُمكِّن المدرسةَ من أن تربِّي وتكوِّن الشخصية وتساعد المتعلم على استقلالية التعلم، الخ. وبإيجاز، أن تعلِّمَ المتعلمَ كيف يتعلَّم (التعلم الذاتي) و ُعدُّه لاندماج فعال في المجتمع.

التربية والتكوين والأنشطة المترتبة عنهما والأشخاص الذين يسهرون على تفعيلهما يجب أن يُعتبَروا كمكونات متفاعلة لعالم اجتماعي مصغر أي الممارسة التربوية التي هي بدورها جزء من نظام اجتماعي أوسع يتألف من القسم والمؤسسة والجماعة والمحيط الاقتصادي، البيئي، الخ.