عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (19)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (19) مشهد من موكب الطبول بلندن وفي الإطار عبد الصمد الشنتوف

أهانوه أمام زوجته وطفليه، اعتدوا عليه بضرب مبرح، سحلوه على الإسفلت، أجهزوا عليه، ثم أضرموا النار في البيت.

كان يوما حزينا وفظيعا في حياة مدام كاميليا. امرأة جاميكية تنحدر من جزر الكرايبي، انتقلت للعيش في لندن مع زوجها بحثا عن حياة أفضل لكن حصل ما حصل. فقدت زوجها أمام أعينها وهي جامدة عاجزة لا تستطيع أن تحرك ساكنا أمام الوحوش البيض، عنصرية بغيضة مؤلمة مارستها جماعة اليمين المتطرف في حق السود، لا لشيء إلا بسبب لون بشرتهم الداكنة.

نار الحقد مشتعلة في نفوسهم، نار الكراهية متوهجة في قلوبهم، جماعة "تيدي بويز" اليمينية المتطرفة لا تؤمن بالتعايش السلمي سوى مع البيض، وتنظر إلى باقي الإثنيات والأقليات وكأنهم فيروسات وجب استئصالهم.

كانت السماء داكنة حزينة، خيمت غيوم الحقد والكراهية فوق سماء حي "نوتينغ هيل".

يوم 24 غشت من سنة 1958 حطت حافلات محملة بأربع مائة من رجال غلاظ أقوياء من البيض بشارعي بيمبردج والقديسين، وشرعوا في اعتداءات شنيعة على بيوت المهاجرين السود. كانت كاميليا تقطن بشارع القديسين (أول سانت رود) الذي كان مسرحا لتوترات عرقية، سقط زوجها قتيلا ضحية لهذه الاعتداءات الغاشمة. من رحم هذه التراجيديا انطلق ثاني أكبر مهرجان للفنون والموسيقى في العالم بمنطقة "نوتينغ هيل" غرب لندن.

 

في السنة التالية من غشت 1959 تقدمت كلوديا جونز وهي مهاجرة من ترينداد بمقترح إقامة مهرجان تلاقحي يضم كل الإثنيات والأقليات لترميم الاختلافات الثقافية في قاعة مغلقة، لاقت الفكرة ترحيبا كبيرا. بعد بضع سنوات انتقل المهرجان سنة 1964 إلى الشارع ليتحول بعدها إلى احتفال صاخب تشارك فيه كل الأعراق والجنسيات حتى صار كرنفالا عالميا. وأنا أحظى اليوم بحضور نسخته الثانية والعشرين رفقة صديقتي سوزان.

 

عندما وصلت فاطمة إلى لندن بداية السبعينيات، استقرت بشارع القديسين، هنا بهذه المنطقة يتمركز معظم المهاجرين المغاربة. قطنت فاطمة قرب بيت كاميليا، مع مرور الوقت صارتا جارتين وصديقتين حميمتين. فاطمة لا تدري لماذا يأتي وفد من منظمي المهرجان كل سنة ويضع إكليلا من الزهور عند عتبة بيت جارتها، ستعرف القصة فيما بعد بكل تفاصيلها المأسوية. ستعرف علاقتهما تطورا ملحوظا على مستوى الأبناء أيضا. لم يكن يدر في خلد فاطمة أن هذا المهرجان العالمي انطلق من هذا الشارع، كرنفال الفن والجمال الذي انطلق من رحم الكفاح ضد العنصرية. كانت فاطمة حديثة العهد بالهجرة مقارنة مع كاميليا، جاءت من عمق حي شعبي على هامش مدينة العرائش، كانت تصارع الفقر وضنك العيش في بيت صفيحي بحي المحصحص. انتقلت إلى لندن رفقة زوجها وطفليها مصطفى ورشيدة سنة 1971، فبدأوا يخوضون شوطا جديدا من غمار الحياة اللندنية. اندمجوا سريعا مع سود جزر الكرايبي بشارع القديسين. إذا مررت به حسبت نفسك تتجول بإحدى أحياء جاميكا، صور بوب مارلي تغطي الجدران، صور هيلاسي لاسي تزين النوافذ، شباب يسدل وراء ظهوره ضفائر من الشعر الطويل الخشن، شبان يظلون طوال اليوم متسكعين يلفون سجائر الكانبيس، لا يهتمون بالدراسة إلا قليلا، معظمهم منخرطون في الجريمة وترويج المخدرات. لورانس وصديقه مصطفى سيقعان بدورهما في حفرة الإدمان المظلمة. مصطفى أو "موس" كما يلقبه أصدقاؤه انقطع عن الدراسة في سن مبكرة بينما أخته رشيدة حصلت على الباكالوريا واشتغلت في إحدى شركات التأمين. يقال أن الذكور من أبناء الجالية المغربية هنا أقل تحصيلا في الدراسة من الإناث، لست أدري لماذا، لكن هكذا تقول الإحصائيات.

 

يبدو أن عالم المخدرات والجريمة استقطبهم بسهولة بالغة، لا يدرس سوى الغبي يقول موس، لأن ترويج المخدرات يدر عليك أموالا طائلة لن تكسبها حتى لو وضعت مؤخرتك على كرسي الوظيفة لمدة عشرين سنة، هكذا يفكر أبناء المهاجرين.

 موس شاب خطير يهابه معظم شباب الكرايبي بالمنطقة، منذ أن نظم جريمة سطو مسلح على محل مجوهرات بحي شيلسي الراقي والناس تتحدث عنه. قام بعملية سطو هوليودية رفقة جاره لورانس. أمضى خمس سنوات وراء القضبان تعلم فيها كل فنون الإجرام، ثم تحول إلى أحد أباطرة المخدرات بحي نوتينغ هيل. يحسب له اللصوص والمجرمون ألف حساب لأنه مجرم خطير. شاب مغامر يملك من الإقدام ما لايملكه رفاقه. لديه سرعة فائقة على التخفي من الشرطة.

أخته رشيدة تعيش علاقة عاطفية مع جارها ديريك، هذا الأخير اختار مسارا مغايرا لأخيه الصغير لورانس وجاره موس. تخرج من إحدى الجامعات اللندنية بعدما درس القانون، وأخذ يشتغل عند إحدى أكبر شركات المحاماة. يحب جارته رشيدة المغربية حبا جما، مستعد أن يفعل أي شيء من أجل استرضائها والظفر بقلبها، إنها شابة ذكية وطموحة، والدتها فاطمة تفتخر بها في المجالس والنوادي. استطاعت رشيدة أن تؤثر في صديقها ديريك بلطافتها وتستميل قلبه، هذا الأخير اعتنق الإسلام إرضاء لنفسه ولرشيدة، غير اسمه إلى عبدالكريم، يلبس الجلباب أحيانا ويصلي الجمعة في مسجد ريجنس بارك. أصبح يعشق الطبخ المغربي ويرى المغرب كبلده الثاني، يستمع لأغاني ناس الغيوان كما يستلذ تناول الطاجين، يشرب الحريرة في رمضان ولا يخفي عشقه لحلويات كويلش وكعب غزال. صار مسلما ومغربيا أكثر من "موس"، تربطه علاقة إنسانية طيبة بحماته فاطمة، هذه الأخيرة كان لديها بصمة قوية في صناعة شخصية ابنتها، عكس "موس" الذي انخرط في عالم الجريمة والمخدرات.

 

أصوات الطبول والمزامير تتناهى إلى مسامعنا، أسير الآن في شارع بورطوبيلو بجانب صديقتي سوزان، أعطيتها نبذة عن الحي الذي يتمركز فيه المغاربة، لم تكن تسمع بهم من قبل، فهي ولدت ونشأت بحي فينسبوري بارك المكتظ بالمهاجرين اليونانيين والقبارصة.

شاحنات عملاقة تمر من أمامنا وعلى متنها فرق موسيقية حية ومكبرات صوت ضخمة، خلفها يسير مشاركون ومشاركات من أعمار مختلفة، الجميع يرتدي ملابس الكرنفالات الملونة، مهرجان يعكس التنوع الثقافي والعرقي بلندن بما فيهم البيض.

 يعرض المشاركون ومعظمهم من جزر الكرايبي أزياء وفولكلور من تراث بلادهم الأصلية وعروض موسيقى الريغي، الجاز والهيب هوب وغيرها.

معظم الناس يمسكون بقارورات البيرة في أيديهم، يرقصون، يصرخون، ويتمايلون في كل جنبات الطريق، نفس شوارع الاحتجاجات على العنصرية سابقا تحولت إلى شوارع تسودها احتفالات صاخبة ورقصات الريغي والسامبا على إيقاع أهازيج الطبول وآلات "توبا" النحاسية.

 

جمع غفير قرب شارع وستبورن بارك يتحلق حول رجل أسود عملاق، إنه الملاكم البطل فرانك برونو، وهو بدوره ينحدر من جزر الكرايبي. يلوح بيديه الضخمتين للجميع، يبتسم لمعجبيه حتى تظهر أسنانه المرتبة البيضاء. اقتربت من الجمع أكثر فلمحت عيناي صديقي في رحلة الاحلام يوسف المرغني، كان يصحبه جزائري يدعى كريم، عانقته بحرارة لأنني لم أره منذ أن افترقنا بمحطة فولكستون. قدمته لصديقتي سوزان كأحد أفراد مجموعة رحلة الاحلام الخمسة، سألته عن ابن عمه خالد فأخبرني أنه رجع الى فرنسا. سألني عن بوطي قلت له ألتقي به أحيانا في مقهى كزابلانكا صحبة رفيق دربه حسن الحداد، أما ودكي فقد انقطعت أخباره وكأن الأرض ابتلعته في عاصمة الضباب. استدار كريم نحوي وقال لي بسخرية: تتحدث عن أفراد مجموعة رحلة الأحلام الخمسة وكأنها مجموعة الزعماء الخمسة بالجزائر الذين اختطفتهم فرنسا؟، ضحكنا جميعا من هذا التشبيه، وقلت له: المشترك الوحيد بيننا هو أن الزعيم بنبلة يشبه زعيمنا خالد في طول القامة، فانفجر يوسف ضاحكا وأضفت: زعمائكم الخمسة كانوا يصنعون استقلال الجزائر، أما نحن فهربنا من وطننا لنصنع مستقبلنا بلندن. أومأ يوسف برأسه معجبا بما أقول وتابعنا سيرنا وسط أمواج من البشر. التفت نحوه وسألته عن أخباره وأحلامه فقال: إنه يعمل بنادي "الفيل الأبيض" ببارك لين، يشتغل لساعات طويلة إلى ما بعد منتصف الليل.

قصة طريفة رواها لي عند محطة لادبروك غروف: "ذات ليلة خرجت من النادي متأخرا في الليل، فوقفت عند موقف الحافلات بجانب فندق هيلتون أنتظر قدوم الباص. اقتربت مني مومس وعرضت علي خدماتها، فسألتها بكم؟ قالت لي: ثلاثون جنيها، فرددت عليها خمسون جنيها، فاسترسلت المومس في شرح عرضها بأنها لا تريد سوى ثلاثين جنيها، لكنني أصر على عرض خمسين جنيها، بدا شيء من التوتر على الفتاة معتقدة أني لا أفهم الإنجليزية جيدا، أخذنا نتصايح بشكل لافت، هي تطالب بثلاثين جنيها وأنا أطالب بخمسين. دخلت صديقة المومس على الخط لفك هذا الالتباس الغامض، صدمتا لما علمتا أن يوسف يطالبها بخمسين جنيها إن رغبت هي في "خدماته"، استشاطت المومس غضبا وصاحت في وجهه: ولماذا سأمنحك خمسين جنيها؟ ألسواد عيونك أم لرشاقة قوامك؟ فرد عليها يوسف: لأنك أنت التي أتيت عندي ولست أنا".

فانصرفت المومس وهي تلعن حظها العاثر مع المغاربة باحثة عن زبون آخر أكثر جدية.

 

وقفنا جميعا عند كشك الوجبات الخفيفة نلتهم سندويشات وسط زحام شديد، أمواج بشرية كثيفة تتدافع في كل الاتجاهات، ضجيج الطبول والصفير لم يتوقف ولو لحظة، كان يوما تاريخيا مشهودا، لأول مرة أشهد كرنفالا بهذا الزخم والألوان. سمعنا طلقات نارية في الجانب المقابل من الشارع، أخذ الناس يهرولون ويركضون نحو مكان إطلاق النار وكأنه يوم القيامة. استبد بنا الخوف أكثر، وارتسمت حالة القلق على وجه سوزان.

كفكفت على كتفها محاولا طمأنتها، اصفر وجهها من فرط الخوف، قالت لي لم يسبق أن سمعت رصاصا حيا يلعلع في السماء من قبل، أجبتها وأنا أيضا هذه ثاني مرة اسمع فيها صوت الرصاص الحي بعد ثورة "الأوباش" بتطوان منذ سنتين.

توجهنا نحو مسرح الجريمة لنستكشف ماذا حدث:

وجدنا شابا أسود طريح الأرض مضرجا في دمائه تم إطلاق النار عليه، مشهد دموي لم أتعود على مشاهدته سوى في السينما.

حضرت الشرطة بسرعة البرق بتزامن مع حضور سيارة الإسعاف، كان الدم ينزف من رأس الشاب بغزارة، مازال على قيد الحياة يصارع الموت، يحاول رجال الإسعاف إنقاذه، بعد لحظات توقفت نبضات قلبه، تم نقله على وجه السرعة إلى مستشفى سانت شارلز. سمعنا بعد ذلك أنه لفظ أنفاسه الأخيرة داخل سيارة الإسعاف بينما تم إلقاء القبض على الجاني داخل محطة المترو "نوتيتغ هيل غيت".

في ذلك المساء تم إذاعة خبر على بي بي سي يفيد بأن الضحية جمايكي الجنسية يرأس عصابة إجرامية بشرق لندن. وقع شجار بينه وزعيم عصابة أخرى منافسة على خلفية ترويج المخدرات في شوارع الكرنفال.

 لكن المفاجأة الكبرى هو أن القاتل لم يكن سوى "موس" المهاجر المغربي.

وقع الخبر كالصاعقة على فاطمة. فاجعة كبيرة حلت بالعائلة، دخلت المسكينة في نوبات من البكاء طوال مدة المحاكمة الطويلة، كانت محكمة "أولد بيلي" مكتظة عن آخرها بصحافة " تابلويد " ورجال الإعلام، دافع المحامي ديريك عن صهره موس في مرافعة قوية ومثيرة أمام المحكمة، بذل كل ما في وسعه إرضاء لزوجته وحماته لنيل حكم مخفف، لكن القاضي "دافيد سميث" كان له رأي آخر. لم يقتنع بمرافعة المحامي لأن الجاني صاحب سوابق خطيرة. فكان الحكم قاسيا ، نطق القاضي بالسجن مدى الحياة على القاتل "موس"، حالة صمت رهيب خيمت على فضاء المحكمة، سقطت فاطمة أرضا مغشيا عليها، أجهشت رشيدة بالبكاء، في حين ظلت عينا ديريك مصوبتين نحو سبابة حماته وهي محمولة على ناقلة الإسعاف...