عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (18)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (18) القائد الدامون لدى الاحتلال وعبد الصمد الشنتوف
صرت أتردد على مقهى كازابلانكا كل مساء ..لا أشتغل ، أمضي طوال اليوم أجوب بين المطاعم والحانات وسط لندن أطرق أبواب العمل .. مستعد أن أعمل أي شيء ..أغسل الصحون ، أنظف الحيطان ، أكنس البلاط ، وأجفف الأرض بماء جافيل والكلور .. لا مانع لدي ، المهم هو أن أشتغل وأكسب بعض المال .
 منذ شهرين فقط ، كدت أجتاز مباراة الأساتذة بالرباط لولا امتعاض الأستاذ هنري من فرنسيتي .. قذف بي قدري إلى هنا ..لا راد لقدر الله .
 تغمرني السعادة تارة ، ويستحوذ علي اليأس والإحباط تارة أخرى ، أطارد حظي التعيس هنا بحي بورطوبيلو ، كلما مشيت أتعثر في طريقي سعيا على رزقي . صارت الأبواب موصدة في وجهي ، تعبت من مجاملات الناس ووعودهم الجوفاء .
 كنت ألجأ إلى المقهى لأفرغ رأسي من همومي المثقلة ، أجالس صديقي عبدالله الجبلي حين كانت تضيق بي الدنيا لأستأنس بمروياته ، تطربني حكاياته الجميلة ، تنفس عني غمومي وكروبي . كان بارعا في السرد ..حكاياته لا تنتهي .. تشبه الأساطير أحيانا ، وأحيانا أخرى يستخرجها من بطون التاريخ وتلامس الواقع بقوة .
 
تغير سلوكه تجاهي بمجرد ما علم أن أصلي يعود لقبيلة سماتة الجبلية وخصوصا لبلدة "الخربة الشناتفة" ، فسرى تيار دافئ بيننا . كانت تربطه مصاهرة ببلدتنا ، إحدى عماته كانت متزوجة برجل يدعى "بورباطا" ، وهو إسم تتداوله ألسنة ساكنة بلدة الخربة كثيرا .
تقع بلدته في رأس جبل بني جرفط كما تقع بلدتي برأس جبل سماتة ، لم يكن يفصل بلدتينا سوى واد يدعى "ريغة" . منذ ذلك الحين وهو يناديني بابن العم . كان مطلعا على تاريخ المنطقة ، يعرف صناديد مدشر "الخربة" واحدا واحدا ، الأحياء منهم والأموات ، كان يردد على مسامعي بعض رجال بلدتي : (هاريز ، الفضيل ، الكومي ، الكارجا ، أحمد الفوقي....) . كان صديقا حميما لعمي "علي" قبل انتقاله إلى لندن ، كانا يرعيان الغنم سويا ، يلتقيان عند ضفاف الوادي لإرواء عطش غنمهما . عند الظهيرة تجدهما يجلسان فوق هضبة "تزار" ليتبادلا أطراف حديث الرعاة ، يستظلان بشجرة "الدلم" فينهمكان في العزف على ناي الخزيران . تارة يعزفان معا ، وتارة أخرى يعزف كل واحد بمفرده ، فتطرب ألحانهم الشجية قطيع الغنم في مشهد خارق يجمع بين بساطة العيش وجمالية الحياة .
لم يخطر على بال عبدالله انه يوما ما سينتقل للعيش بعاصمة الضباب ، فتنقلب حياته رأسا على عقب .. يشتغل بأرقى مستشفيات لندن ، يلهث وراء باصات حمراء ويتسلق قطارات المترو المزدحمة .
ينظر صديقي عبدالله بعيدا ، يشبك يديه ، تعلو محياه ابتسامة وينطلق في حكايته :
شيد الإسبان قاعدتهم العسكرية فوق هضبة "تزار" ، واتخذوها منطلقا للهجوم على آخر معقل للمقاومة بقبيلة سماتة الصامدة . في شهر أبريل سنة 1927 كان الجميع قد استسلم بشمال المغرب ، لم يتبق سوى بلدتين صامدتين خارج الاحتلال هما "الخربة" و"بوحمصي" . يتابع عبدالله سرده بتفاصيل مبهرة ، حكاية تشد لها الأنفاس ، أنصت إليه بشغف وذهول . أنا الآن أتلقى دروسا في التاريخ بمقهى كازابلانكا ، أتعلم على يد مهاجر أستاذ في الحكي الشفهي . يحدثني بلكنة جبلية عن تاريخ سماتة الباسلة ، تاريخ بلدتي الشامخة ، تاريخ لم أقرأه في الكتب ولم أدرسه في المعاهد ، تاريخ غابر منسي .
يسترسل قائلا :
" كان الكولونيل أسينسيو يتبختر في مشيته بين جنوده وضباطه ، يمشي مزهوا بنفسه إلى حد العجب والغرور . يقف واضعا يديه على خصره من فوق هضبة تزار ، يسرح بعينيه تجاه جبال سماتة وبلدة "الخربة" تحديدا ، كان يتمنى أن يستفيق صباحا فيجد هذه البلدة قد اختفت من على وجه الأرض . بلدة عنيدة شرسة ، رجالها رماة بارعون ، مقاتلون أشداء ، يقودها رجلان أميان ، قاسيان ، بلغا من الكبر عتيا .
يلتفت أسينسيو نحو متعاونيه "الميموني والدامون" يسألهما :
- ترى كيف نصل إلى هذين الوغدين في بلدة الخربة الشيخ عبدالله وأقيوق ؟ .
يرد عليه العميل الميموني :
- سأطلب من صهري "بورباطا" أن يتوسط بيننا وبينهم ..
استحسن الكولونيل المتعجرف الفكرة ومنح الضوء الأخضر لعميله للقيام بالمهمة .
يصعد الشيخ عبدالله أعلى الجبل ، يتوجه بخطى واثقة نحو قمم الصخور الزرقاء (الطلالق الزرق) مع نائبه أقيوق ، يقفان شامخان كالهرم مطلان على هضبة تزار وكأنهما يخاطبان الكولونيل الإسباني . يلوحان ببندقيتهما في السماء ، يصيح الشيخ عبدالله بأعلى صوته :
 اسمع أيها النصراني الوقح ، إن كنت قد أخضعت قبائل بني جرفط ، بني عروس ، بني يوسف وأهل سريف ، فلن تخضع بلدتنا . مازلنا على العهد مع العلامة "سيدي أحمد بن يرماق" متمسكين بفتواه : الخضوع لحكم النصراني يعد خروجا عن مبادئ الإسلام . إن كنتم قد اشتريم القواد (الخمال ، الدامون والرميقي) ، فنحن هنا لا نساوم ، لا نهادن ، ولن نستسلم ، لن تقتحم بلدتنا إلا على جثثنا الهامدة !
.
انطلقت المفاوضات ، شرع الوسيط "بورباطا" يتنقل بين المعسكرين ، كان يتحدث الإسبانية قليلا ، ظل اليوم كله يحمل الرسائل ذهابا وإيابا بين الشيخ عبدالله وأسينسيو . كان شابا متعلما مطلعا على موازين القوى ، يعلم  في قرارة نفسه أنه لا سبيل للانتصار على جيوش الاستعمار التي كانت تتفوق عدة وعددا .
 أما الزعيمان السماتيان فكانا شرسين عنيدين يجهلان حقيقة عدم التكافؤ مع العدو .. . اقترح عليهما بورباطا عرضا مغريا بتبوؤ مناصب مرموقة بالقبيلة إن هما استسلما ، لكن بعد أخذ ورد في الكلام قررا الصنديدان مواصلة القتال غير عابئين بقوة الاحتلال ، متشبثين بفتوى الفقيه بن يرماق .
ذهب بورباطا عند الكولونيل يخبره بموقف الزعيمين فاشتعل غضبا وأخذ يزمجر ويهدد ، بدأ صبره ينفذ ، لكنه قرر أن يمنحهما فرصة الإغراء الأخيرة بعد التشاور مع القائد الدامون .
أصر بورباطا على إغرائه .. فانتفض الشيخ ورفع بندقيته وهم بإطلاق النار عليه لولا تدخل إبنه الشاب هاريز وثنيه عن قراره قائلا :
- لا لا يا أبتي ، هون عليك ، إنه إبن عمنا !
أدرك بورباطا لحظتها أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود ولا سبيل للنفاذ إلى عقل الزعيمين السماتيين .
أصيب بورباطا بحسرة شديدة بعدما فشل في مهمته ، وأحجم عن الرجوع إلى الكولونيل الإسباني خوفا من رد فعله الغاضب . فقرر أن يكتب رسالة خطية ويرسلها إلى أسينسيو عبر أخيه "مفضل" يخبره بقرار المجاهدين النهائي .
استلم الكولونيل الرسالة ، فأمر الرسول أن يحفر حفرة كبيرة بيديه ، ثم أمر باعدامه فورا ودفنه فيها انتقاما من خذلان وفشل أخيه بورباطا في مهمته . بقي كنه الرسالة لغزا محيرا إلى يومنا هذا .. لغز دفن مع صاحبه في القبر ..
.
قرر الكولونيل الهجوم ليلة 10 أبريل سنة 1927 ، عبر الوادي بقواته لاقتحام البلدة عنوة ، لم يكن عدد المجاهدين يتجاوز مائة مقاتل ، في حين تعد جيوش الإسبان ومرتزقة الحركة بالآلاف . كانت المعركة غير متكافئة ، ورغم ذلك يصر الشيخ عبدالله على القتال .. قسم مجاهديه إلى ثلاثة كتائب . تضم الأولى فئة الشباب تحت قيادة الكومي وتتمركز في المقدمة عند سفوح الجبل . وتتمركز الثانية وسط البلدة تحت قيادته هو ، أما الثالثة فستظل مرابطة على مشارف البلدة قرب غابة العليلق تحت إشراف الصنديد أقيوق . انطلقت المعركة .. لا صوت يعلو على صوت البنادق ..
 تحركت جحافل العدو ، وأخذ الرصاص يتطاير ويلعلع في سماء البلدة . تصدت كتيبة الشباب للعدو بشجاعة واستماتة ، فأمطروه بالرصاص وهم يختبئون وسط عشب الدوم والخلنج كالثعالب .. ارتفع صدى أزيز وقصف الطائرات الحربية الإسبانية وضربات مدافعهم المتطورة..أخذ المجاهدون يتراجعون نحو الوراء ، تواروا خلف مرتفعات هضبة "طهر اليدري" ، سقط هاريز جريحا مصابا في رجله اليمنى بثلاثة كسور ، حمله رفيقه عبدالسلام على كتفيه وفر به نحو مدشر " تولة " قصد العلاج .
دبر الدامون مكيدة خطرة مع احتدام المعركة ، قام وجنوده بالتفاف ماكر على بلدة الخربة من الخلف قادما من الغابة ، وحاصروا مجموعة أقيوق عند المدخل . اخترق الدامون عمق المدشر فصعد إلى مصطبة مسجد الربطة وألقى خطبة عصماء معلنا النصر ، ثم طالب الزعيمين بالاستسلام ووعدهما بالأمان .
 لم يستجب الزعيمان لندائه .. وقررا مواصلة القتال حتى آخر طلقة رغم علمهما باستحالة الانتصار .. فاستشاط الدامون حنقا وغضبا ..  أصدر الكولونيل في هذه اللحظة أوامره بإحراق البلدة عن بكرة أبيها ونهب كل منازلها . لم يستسغ أقيوق هذا القرار فاعتلى شجرة "الدلم" مختبئا بين أغصانها الكثيفة ، فأخذ يمطر جنود الإسبان والحركة بالرصاص مصيبا عددا كبيرا منهم ، فبدأوا يتساقطون على الأرض بالعشرات كالذباب .
صدم الدامون وأصيب بالحيرة ، فقد أعصابه حينما رأى جنوده يتعرضون للمجزرة دون أن يعرف مصدر النار .. أفسد عليه أقيوق نشوة النصر .. نفدت ذخيرة هذا البطل فانبعث دخان بندقيته من بين الأغصان ، فانكشف أمره .. صوب جنود الاحتلال بنادقهم ليقتلوه ، لكن الدامون منعهم . كم كان يمقته .. كان يريد أن يقبض عليه حيا ليعذبه .. لكن هيهات هيهات !
اقترب الدامون من الشجرة محاولا إقناعه بالنزول :
- إنزل من الشجرة يا أقيوق فزعيمك قد قتل .
رد عليه بشموخ :
- إن كان قتل فرحمة الله عليه ، لن تحلو لي الحياة بعد موته أبدا .
- أرجوك إنزل ، أعطيك عهد الله وشرف مولاي عبدالسلام .
- انا لا أثق بعهد النصارى ولا بالخونة ، اغرب عن وجهي .
احمر وجه الدامون من شدة الإهانة أمام جنوده ، يغلي غضبا ، التفت نحوهم وأمرهم باطلاق النار . خر أقيوق على الأرض شهيدا من فوق الشجرة ، صعدت روحه إلى العلالي وبقي قبره شاهدا على أروع البطولات تحت شجرة الدلم إلى الآن .
 أصدر الدامون لحظتها أوامره بالبحث عن رأس الحربة الشيخ عبدالله وجلبه حيا أو ميتا .. امتطى الشيخ بغله محملا بأمتعة نفيسة وهو يحاول الخروج من البلدة بعدما استيقن الهزيمة . تبادل إطلاق النار مع الجنود وبعدها اختفى في غابة العليلق بين الأشجار متوجها نحو جبل العلم مستجيرا بضريح مولاي عبدالسلام بن مشيش .
جن جنون القائد الدامون عندما علم بفرار عدوه اللدود . أعطى أوامره باللحاق به والقبض عليه ، كان يراه صيدا ثمينا يرغب في تقديمه قربانا لسيده أسينسيو .. لكنه لم يجن سوى الخيبة مرة أخرى كما خاب مع أقيوق .
 لحق به الجنود وحاصروه وحيدا مع بغله عند سفوح جبل العلم . نظر الشيخ من حوله فوجد نفسه مطوقا من كل الجهات ، لا مفر له ، إما الاستسلام أو الشهادة ! أحد عساكر الحركة ينحدر من سيدي اليماني أخذ يتهكم عليه وهو في حالة ضعفه ، كان قد سمع بالشيخ كثيرا منذ أيام السيبة ، فخاطبه بازدراء قائلا :
- إلى أين أنت ذاهب الآن أيها السماتي القذر ؟ أين سيقودك غرورك وعنادك ؟ ، اليوم يومك يا ولد الصية (لقب الشيخ عبدالله) !
 تظاهر الشيخ بالاستسلام رافعا يده اليسرى ، استدار نحو الحركي ونظر إليه نظرة احتقار ، أحنى ظهره قليلا نحو الأرض ليلقي سلاحه .. تبسم الحركي شامتا أكثر .. إلا أن الشيخ باغثه برصاصة قاتلة في رأسه مبديا تحديا صارخا في إطلاق النار على باقي الحركيين .
 أمطروه بوابل من الرصاص ، مزقوا جسده دون أن يمزقوا كبرياءه .
 سقط الشيخ عبدالله شهيدا مدرجا في دمائه أمام بغله ، وقد سطر تاريخ المقاومة والشرف بدمه في قبيلة سماتة . ارتقت روحه الطاهرة إلى السماء ، في حين ارتقت مكانة القائد الدامون لدى الاحتلال .. وشتان ما بين هذا وذاك ..
يؤكد المهاجر عبدالله أن قبر الشيخ عبدالله ظل مجهولا ولغزا محيرا إلى يومنا هذا ...