عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (16)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (16) عبد الصمد الشنتوف

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل، مازلت أتسكع بشوارع لندن ليلا، سأظل على هذا الحال إلى غاية الصباح، سأقتل الوقت وكأنه آفة لا بد من قتلها، ليس لدي بيت آوي اليه، هذا هو حال التعساء أمثالي. أمر بظروف قاسية لكني لست خائفا،  تشع بداخلي فسحة الأمل، لا بد للحياة أن تكون أفضل، أشعر بارتياح شديد بالرغم من قلة حيلة يدي، لأن صديقي خالد سيأويني في بيت عمه كما وعدني، قلبي يحدثني بأن خالد لن يخذلني، فقد صادقته لسنوات عديدة بمدينة العرائش، لم ألحظ في سلوكه ما يدعو للارتياب، لا يراودني أدنى شك بأنه من طينة أصيلة.

 

منذ وطئت قدماي عاصمة الضباب وأنا أعيش على هذا الحال، احتضنتني للا ارحيمو ببيتها خلال أحلك مرحلة في حياتي، لم أكن أتوقع أنها ستعاملني بهذا الدفء والكرم وهي لا تعرفني، فليس هناك قرابة عائلية تجمعنا، فنحن مجرد (رائحة شحمة في ساطور) كما يقول مثلنا المغربي، أصبحت أتوسم الخير في الناس منذ ذلك الحين، أصبحت خبيرا في قراءة ملامح وجوههم، من سيساعدني ومن سيحجب عن ذلك. منذ وصلت لندن وأنا لا أدري أين سيكون مبيتي، ألجأ من بيت إلى آخر وكأني نحلة تطير من زهرة إلى أخرى تسعى لرحيقها. أكاد أجزم أنني خلال شهر واحد تنقلت بين خمسة بيوت في كل جهات لندن، كنت قد فوضت أمري إلى الله لحظة نزولي في محطة "شارينغ كروس"، استسلمت للقدر، ومضيت في طريقي.

 

قادتني قدماي في هذا الليل الصاخب إلى حي سوهو الشهير بقلب لندن. مع حلول الظلام يتحول هذا الحي النابض بالحياة إلى وجهة الباحثين عن المتعة والترفيه.. مطاعم، حانات، مراقص ليلية، ونوادي للعروض الفنية.

 

عندما تتجول في سوهو تمر أمام أبواب داكنة يحرسها رجال غلاظ أقوياء البنية، يلبسون بدلات سوداء وكأنهم "غوريلات"، يسمونهم "باونصر"، رجال صامتون، تحمل عيونهم نظرات حادة، يقفون متسمرين عند أبواب البارات والنوادي الليلية. "كريس" باونصر أسود ضخم الجثة، حليق الرأس، يضع وشم "ماو تسي تونغ" على ذراعه الأيمن المفتول وقرطا على أذنه اليسرى، يقف عند باب كباري يدعى "فابريك"، عندما تراه تأخذك الرهبة، ساعدان مشدودان إلى الأمام لكي يبدو أكثر جدية وصرامة. تتخيله "هامان"، يتحدث بصلف وعنجهية مع بعض الشباب المتهور، الشبان الإنجليز لما تلعب الخمرة برؤوسهم يتحولون إلى مشاغبين وفوضويين، يشتبكون مع كريس في الكلام فيقذف بهم بقوة خارج الكباري. يضطر أن يعاملهم بغلظة مفرطة وكأنهم أشخاص منبوذون.

 

نشبت معركة عنيفة إمام عيني بين شابتين من بائعات الهوى عند مدخل كباري "فابريك"، خدش وشد للشعر، كل شابة تغرس أظافرها في وجه الأخرى وتمزق ملابسها، فيتدخل كريس لفض الاشتباك ويقذف بهما خارج الكباري وسط الشارع حيث يستمر عراك العاهرات. دور كريس هو الحفاظ على استتباب الأمن وإخلاء الملهى من المشاغبين عندما تسود الفوضى.

 

أمر بجانب نوادي غريبة، أضواء  قرمزية وصخب ينبعث من داخل هذه الأمكنة المشبوهة، نوادي تقدم عروضا في الإثارة الجنسية تحت مسمى الفن والترفيه.

 

يعبر المكان شباب يمشي جيئة وذهابا، بعضهم يروجون للمخدرات القوية، وآخرون يمارسون القوادة داخل الأقبية وعلب الليل، ومنهم من يصطاد بعض ضحاياه قصد الابتزاز وسلب الجيوب بالخداع أو بالقوة. في حي سوهو قد تبدأ ليلتك فرحا كفراشة متطايرة وقد ينتهي بك الأمر إلى تعاسة غير متوقعة. إنه حي مثير وخطير في آن واحد.

 

 

أقضي الليل متسكعا في الشوارع للمرة الثانية في حياتي، تسكعت في أصيلا للمرة الأولى قبل خمس سنوات على إثر شنآن حصل بيني وبين صديقي حميد. لم يكن عمري قد تجاوز السابعة عشرة آنذاك.

 

قام المهرجان الثقافي لأصيلة بداية الثمانينيات بتنظيم مباراة استعراضية لكرة السلة في وسط المدينة، فتم استدعاء فريق البنك الشعبي الطنجي وفريق النجم العرائشي، كان الفريقان كلاهما ضمن القسم الوطني الأول. ذات يوم قائظ، سافرنا إلى مدينة أصيلة في حافلة متهالكة، توقيت المباراة على الساعة الخامسة ونصف مساء، مكان المباراة قرب المحطة الطرقية قبالة مقهى إفران، قامت إدارة المهرجان برسم الملعب وتخطيطه بصباغة بيضاء على الإسفلت. حج إلى الملعب جمهور غفير من السياح والمستجمين. استعد الجمعان لهذه المقابلة المشوقة، كان فريق طنجة يضم لاعبين دوليين كبار: حسن بن خدوج ومزواري إضافة إلى باديسي واللاعب "إبليس" سيف الدين، أما فريقنا نجم العرائش فكان يضم: الصديق، موري، البريق، شفيق، عثمان والبوعناني. انتهت المباراة بهزيمة ثقيلة لفريقنا وانتصر الفريق الطنجي بـ 95/61.

 

بعد انتهاء المباراة قررنا الذهاب إلى ملهى ليلي. كنا شبابا يافعين، أمضينا ليلتنا نرقص ونتمايل على موسيقى غربية صاخبة وأضواء ملونة تشع في كل جوانب الملهى، كان صديقنا شفيق متميزا في رقصاته الساحرة على أغاني "البجيس"، كان خفيف الظل والحركة، أخليت له الحلبة وأخذ يرقص لوحده باحترافية فائقة، كان يحاكي جون ترافولتا كثيرا، جميع الرواد ظلوا مشدوهين بما فيهم الأجانب، يستمتعون بأدائه المبهر وحركاته السريعة وكأنه لاعب أكروباط. يحدق فينا بعينيه اللامعتين، يحرك رأسه ويستدير بيديه يمينا ويسارا، كانت ليلة بنكهة عرائشية صاخبة.

 

لفظنا الملهى في ليل جد متأخر، توجهنا جميعا مع حميد إلى بيت جدته لنقضي الليلة على سطح المنزل نلتحف السماء، لكن صديقي كان له رأي آخر، التفت نحوي وفاجأني بقراره قائلا :

- لا يوجد لك مكان شاغر معنا، عليك أن تدبر أمرك وتبحث عن مكان ما تقضي فيه ليلتك! امتعضت كثيرا من سلوك صديقي حميد، شعرت بالإقصاء والإهانة، لكنني كظمت غيظي وانصرفت في حالي أتسكع في شوارع أصيلا حتى أدركت الصباح. كان لحميد حسابات قديمة معي تعمد تصفيتها معي خلال تلك الليلة على خلفية احتكاكي به خلال التداريب بملعب الشبيبة، لم يكن مضى سوى أسبوع واحد على دوري نظمته جمعية "لاميج" بالعرائش.

 

كان حميد يرتدي قميصا رفيعا من نوع "نايك" وحذاء رياضيا "أديداس" خلال المباراة الأولى من الدوري، كم كان معجبا بنفسه ومختالا في مشيته، يحب أن يكون محط أنظار الجميع. كان يتباهى علي بأخته المقيمة ببلجيكا التي تجلب له كل ما يشتهي من ماركات عالمية من أقمصة وأحذية.. كان يقوم بحركات رياضية تسخينية إلى حد العجب قبل انطلاق المباراة، يضع يافطة حمراء على رأسه، ورابطة بيضاء يطوق بها ركبته اليسرى وأخرى يربط بها معصم يده اليمنى. كان يختال مزهوا الى حد الثمالة. يحسب نفسه أنه اللاعب الشهير "درابندر"، عندما تراه يركض في الملعب يخيل إليك وكأنه ديك فرنسي سيما بتلك الرابطة الحمراء على رأسه.. بدأنا المقابلة وكنت ضمن تشكيلة الفريق، لم يتحمل حميد وجوده في الاحتياط، استشاط غضبا وجن جنونه، أخذ يصيح ويحتج على مدربنا "غراين":

- كيف "للشنتوف" أن يكون ضمن التشكيلة وهو يرتدي قميص "قاميجا" وحذاء بوتاج العطن؟! أليست هذه إهانة في حق كرة السلة أن ترى شخصا يرتدي "قاميجا" خلال مباراة الدوري؟!

 

كنا دائما في احتكاك وتنافس محتدمين. أغار منه لأنه يرتدي نايك وأديداس ويغار مني لأني كنت ضمن التشكيلة الرسمية للفريق، أحيانا كان يسخر مني فيناديني بـ "المغربي" وكأن أبويه هو ينحدران من السويد.. عند ذروة غضبه يقصفني بكلام ناب ويعيرني قائلا أنت مجرد "اجبيلو"، فأرد عليه متهكما وأنت مجرد "عوار بلالا".. كنت أعتقد أحيانا أنه يكرهني، لكن الأمر لم يكن كذلك. الحقيقة أني كنت أستفزه هازئا :

- نظاراتك السميكة تشبه كؤوس زجاج "حياتي"! أعترف أنني كنت أحبه رغم كل ما يصدر منه من حماقات وتصرفات رعناء، كنت أعلم أن نظره ضعيف فأسخر منه بتحريك أصابعي أمام عينيه قائلا:

- عد معي كم أصابع تراها أمامك؟ !

 

ينفجر باقي اللاعبون ضحكا.. لم تكن علاقتي به تستقر على حال، قد نشتم بعضنا دون ان يتطور الأمر.. قد نغضب من بعضنا ونقاطع بعضنا لبضعة أيام لكننا سرعان ما نعود لبعضنا وكأن شيئا لم يكن. نعود ليتحفني بآخر نكتة قد سمعها، يقول لي أحيانا أمورا تافهة، ويمازحني أحيانا بأشياء مسلية وذات قيمة، يعود ويدعوني لحضور إحدى حفلات "سوربريز بارتي" بإحدى المنازل التي كان غالبا ما يشرف على تنظيمها، فهو لا يستطيع الاستغناء عني رغم المماحكات والمنواشات التي تحدث بيننا.. هذا هو صديقي حميد، يصفي معك حسابات ضيقة قد تؤدي بك إلى التشرد والتسكع طيلة الليل في شوارع أصيلا، وبعد ذلك يلتقي بك في العرائش ويستقبلك بالأحضان وكأن شيئا لم يحدث...

 

كان الليل قد أرخى سدوله بحي سوهو، بدأ التعب والإرهاق ينال مني بعد تسكع طويل.. بدأ النوم يتربص بي، تسلقت الباص الليلي رقم (25) ليقطع بي مسافات طويلة يجوب خلالها شوارع لندن من غرب المدينة إلى شرقها، صعدت إلى الطابق العلوي لأجد مكانا شاغرا في الصف الأخير من المقاعد، كانت الحافلة شبه فارغة إلا من بعض السكارى، تستغرق مدة الرحلة ساعتين من شارع أكسفورد إلى محطة إلفورد بشرق لندن.. رجل نيجيري يمد رجليه على ثلاثة مقاعد بجانبي، يبدو وكأنه متسكع مثلي يبحث عن ملاذ آمن في هذا الليل. إنها ليلة المتسكعين، يصوب نظرات غائرة نحوي وكأنه لا يريدني أن أزاحمه. الحافلات أكثر دفئا وهدوئا من شوارع سوهو ليلا، كنت قد تحريت معلومات حول هذه الحافلة فوجدتها توفر ساعات نوم أطول لأنها تعمل أربعة وعشرين ساعة. مضى الباص يشق طريقه، عندما تجاوزنا جسر البرج الشهير، صعد رهط من شباب "البانك" ذوي الألبسة الجلدية السوداء الغريبة، كانوا مخمورين فأخذوا يصرخون ويعبثون بمقاعد الحافلة.. إنهم  عائدون من إحدى الكباريهات.

 

بدا الرجل الإفريقي متوترا وهو يحتضن حقيبته بيديه المتجعدتين، كان خائفا من البانك حليقي نصف الرؤوس الملونة.

 

عند وصول الباص إلى محطة إلفورد، نزل الركاب جميعهم بمن فيهم السائق إلا نحن الاثنين مكثنا متسمرين في مقاعدنا. أخذ السائق الجديد مكانه وسرنا في رحلة الإياب، بزغ الفجر مصحوبا ببعض الضباب، نظر إلي الراكب الإفريقي في صمت، ارتسمت على قسمات وجهه ابتسامة وحال لسانه يقول: نحن متسكعان ولسنا براكبين عاديين، بل نحن صديقان وأخوان في التسكع !

 

مع اقتراب الساعة السادسة برقت في السماء أشعة خيوط الشروق الخافت، بدأ الباص يكتظ بالركاب. يهرع معظم الناس لمهامهم ومراكز عملهم. لندن مدينة عملاقة تدب فيها الحياة ليل نهار، وتظل صاخبة بالضجيج والضوضاء طوال الوقت.

 

لم أستطع أن أنعم بساعتين من نوم هانئ. فجأة دارت في رأسي خواطر كثيرة مثل العاصفة، قادني بصري عبر النافذة نحو ساعة مستديرة مثبتة على جدار "توتنهام كورت رود"، كانت الساعة تشير إلى السابعة. بدأ النوم يتربص بجفوني ويغازل عيوني، شعرت بتعب قاتل يستبد بي، لم أعد أتحسس أطراف جسدي. حاولت اقتناص قسط من الراحة ثانية، فمددت رجلي فوق مقاعد خلفية شاغرة، بعدها استسلمت لنوم عميق غير آبه بحركة ازدحام الركاب ولا بصوت المحرك طيلة الرحلة...