عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب(15)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب(15) الشنتوف( يمينا) وشباب بريطاني يحتجون أمام المتحف الوطني للفنون ضد الأبارتايد بجنوب إفريقيا
أوجد الآن بميدان الطرف الأغر وسط لندن الطقس صيفي معتدل ، اخترقت حشدا كثيفا من المتظاهرين والسياح . لمحت عيناي يافطة عريضة مكتوب عليها " تسقط دولة الأبارتيد الحرية لنلسون مانديلا " . تنظم حملات إعلامية وحقوقية مكثفة تتخذ من بريطانيا منصة لها بهدف إنهاء نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا . يقود شباب متعلم مفعم بأفكار اليسار التقدمي جل الحملات الاحتجاجية. لا حديث تلوكه ألسنة السود والبيض هنا إلا عن نلسون مانديلا . هذا الأخير قضى أكثر من خمس وعشرين سنة وراء القضبان . رجل إفريقي صلب لا يثنيه شيء عن تحقيق أحلام شعبه ، انضم إلى المؤتمر الوطني الافريقي "ANC" في ريعان شبابه ومنذ ذلك الحين وهو يناضل ضد نظام الفصل العنصري البائس .
يتظاهر يوميا شباب بريطاني أمام المتحف الوطني للفنون بمن فيهم بعض السود احتجاجا على نظام جنوب إفريقيا العنصري، يطالبون بالمساواة بين البيض والسود . شباب مصمم على مواصلة النضال والكفاح إلى أن يتم رفع الظلم عن السود وإطلاق سراح زعماء "ANC" . يرفع هؤلاء الشباب لافتات ضخمة، ويصدحون بهتافات ضد العنصرية عبر مكبرات الصوت.
أنجيلا فتاة جميلة ذات شعر أحمر تنحدر من اسكوتلاندا ، ترتدي قميصا يحمل صورة مانديلا ، شربت من معين أفكار اليسار منذ كانت طالبة جامعية بمدينة غلاسغو . صديقها باتريك يمسك بمكبر الصوت أمام بوابة المتحف بالميدان . لما حصلا على الإجازة في القانون انتقلا إلى لندن وأخذا العهد على نفسيهما بألا يبرحا هذا الميدان إلا بعد إطلاق سراح الزعيم مانديلا .
يتحدث الجميع عن الزعيم الإفريقي الصنديد وعن معاناته القاسية داخل سجون جنوب إفريقيا . أضحى مانديلا أسطورة النضال ومناهضة التمييز والعنصرية في كل أنحاء العالم .
يتظاهر باتريك وأنجيلا يوميا بعزم وإصرار وسط الميدان دون ملل . لم أكن أعرف أن الشباب البريطاني متشبع بأفكار اليسار التحرري إلى هذا الحد، ومستعد أن يضحي بكل ما يملك من أجل تحرير الإنسان الإفريقي من القهر والظلم . قيم إنسانية وحقوقية راقية يكتنزها بعض الشباب هنا . كانت الصورة النمطية في ذهني عن هؤلاء لا تتعدى الرقص في كرنفالات موسيقى صاخبة ، وإثارة الشغب بملاعب كرة القدم الأوروبية ، سيما وأن مأساة ملعب هيزل البلجيكي مازالت ماثلة في ذهني بين مشجعي فريقي ليفربول الإنجليزي وجوفينتوس الإيطالي . هكذا كنت أتصور الشباب البريطاني : موسيقى البيتلز ، رقص على الروك والهيب هوب ، سكر طافح ، عربدة ، وشغب بالملاعب . لكن أنجيلا وباتريك قلبا الصورة في مخيلتي رأسا على عقب .
وقفت مذهولا عندما شاهدت أنجيلا تلوح بيديها لموح الجزائري وتحييه بحرارة . قلت في نفسي ما الذي يجمع بين هذه الناشطة الحقوقية الحسناء وموح النشال المنحرف ؟ استدرت نحو موح وسألته :
- من أين تعرف هذه الفتاة الجميلة ؟ ،
رد علي موح بجواب انتقل بي من صورة ذاك النشال الخطير إلى صورة شاب شجاع يحمل مشعل قيم إنسانية تشد لها الأنفاس . تابع موح يسرد علي قصته الطريفة مع أنجيلا:
" ذات مساء ، كان الشباب المناهض للعنصرية يتظاهر كعادته بميدان الطرف الأغر ، بعضهم كانوا يتوسدون الأرض ويلتحفون السماء على مصطبة المتحف ، وبعضهم الآخر ينامون داخل أكياس نوم ملونة للتخييم كأنهم متشردون في العراء . جاء شباب من حليقي الرؤوس يتحرشون بهم ، هؤلاء يدعون النازيون الجدد، ويعتنقون أفكارا يمينية متطرفة وعنيفة ، يتزعمهم شاب عنصري ينحدر من شرق لندن اسمه "كيفن" . عندما يمرون أمام المتظاهرين يرشقونهم بأقدح العبارات ويستفزونهم بإيحاءات وحركات بذيئة تختزل الكثير من الكراهية والحقد السياسي . ينعتونهم بالخيانة لأنهم في تصورهم المريض يدافعون عن السود الدونيين الموصوفين عندهم ب"نيغر" . يكره زعيم حليقي الرؤوس كيفن باتريك كرها شديدا سيما هذا الأخير لا يكف عن الإمساك بمكبر الصوت مطالبا بكل ما يملكه من عزم وإرادة بالمساواة والعدالة للسود ، يصدح بعبارات قوية مناهضة للعنصرية واليمين المتطرف . كل هذا لا يروق لكيفن ولا يتحمل سماعه .
كان كيفن طويل القامة ، قوي البنية ، مفتول العضلات . يضع قرطا في أذنه اليسرى ووشم صورة أدولف هتلر على ذراعه الأيمن . يتطاير الشر من عينيه الحاقدتين . يغيظه كثيرا ما يسمع من باتريك ، لا يستسيغ سماع كل هذا الهراء ، فشرع في استفزازه عبر قصفه بكلام ناب محاولا استدراجه إلى مشادة كلامية عنيفة حتى يتسنى له الانقضاض عليه .
اقترب كيفن من باتريك قليلا وبدأ يشتمه بدون توقف . تطور الأمر الى شجار كما كان يصبو إليه ، فقام بتصويب لكمات قوية مؤلمة للمناضل باتريك، أسقطه أرضا فأغمي عليه ... تتعالى أصوات أنصاره العنصريين ابتهاجا بصنيع زعيمهم ( ياه ياه ياه )، كانوا يهتفون : أحسنت صنعا يا "كيفن" ، زده ، زده أكثر ، أقتل هذا الخائن الأبيض !
يزداد كيفن غرورا وعجرفة عند سماع صيحات أنصاره ، يتمادى في تصويب اللكمات لباتريك الطريح على الأرض ...تجمد الجميع في مكانه ، لا أحد يجرؤ على مواجهة كيفن وثنيه عن طغيانه !
ينزف أنف باتريك ، لا حيلة للمناضل المسكين أمام هذا الوحش الآثم ، تنوح أنجيلا وتصرخ محاولة إنقاذ صديقها من مخالب هذا المجرم المغرور ، لكنها تظل عاجزة أمام هذا المشهد الدرامي الغارق في الحزن والكراهية . نهر كيفن أنجيلا ودفعها بقوة للوراء حتى كادت تسقط على الأرض، ثم تابع تعنيفه لخصمه باتريك ، يريد أن يجهز عليه أو ليرسله إلى أقرب مستشفى كجثة شبه هامدة. الرجل عنصري حاقد ومجنون، ربما يرغب في تلقين درس لباقي النشطاء حتى يغادروا مكان الاحتجاج .
كان موح يرقب هذا المشهد المؤسف عن بعد ، لم يستطع صبرا ...قرر أن يستجمع كل قواه ويتدخل لفض الاشتباك مؤازرة لصديق أنجيلا المنهك.
كان الناشط المسكين طريحا على الأرض كالذبيحة . تمكن موح من مواجهة كيفن بضراوة وشراسة فائقة رغم نحافته ... كان كيفن يحسب نفسه زعيما لا يقهر . كان يصيح بأعلى صوته: لا صوت يعلو على صوت البيض ببريطانيا، الموت للسود وكل الملونين ! كان موح له بالمرصاد ، فهو الذي راكم تجربة خطيرة واكتسب مهارات قتالية مع عصابات الإجرام منذ كان مقيما بمدريد . موح خفيف الحركة خلال المواجهة والاشتباك ، يطير من جهة إلى أخرى بسرعة مذهلة وكأنه زنبور لاسع . يحوم حول كيفن كالناعورة بخفة ملفتة ، يربكه بحركاته، يسدد له ضربة تلو الأخرى ويتراجع قليلا نحو الخلف . باغثه بضربة قاتلة وأسقطه أرضا . فأخذ يسدد له لكمات سريعة وكأنه جورج فورمان .
بدأت أنجيلا تتنفس الصعداء ودبت الحياة في عروقها من جديد . امتعض أنصار كيفن وشعروا بالإهانة ، أخذتهم العزة وهم يشاهدون زعيمهم يجرجر أرضا على أيدي موح . فعزموا على الهجوم لتخليص زعيمهم المتعجرف من المهلكة... لكن موح وقف وقفة غريبة وكأنه ثعبان كوبرا، استل سكينا قصيرا حادا من جيبه الأيسر ، عادة ما يستعمله عندما يواجه خطرا محدقا في معركة غير متكافئة . أخذ موح يشهر سكينه في وجوههم جميعا بكل تحد وجنون . شرع يصدر حركات مثيرة وغامضة . يحدق في وجوه أعداءه ويهمهم بشفتيه وكأنه يردد في نفسه ترانيم وأوراد الشيخ الهادي بنعيسى ...ازداد إيمانه رسوخا في قوة الأولياء الصالحين منذ أن هزمته فطومة المغربية بساحة "بويرتا ديل صول" بمدريد . يوقن موح أنه لو تمكن منه حليقو الرؤوس فسوف تكون نهايته . اليمين المتطرف لا يرحم المهاجرين والملونين . فلسفتهم في المواجهة إما قتلك أو إصابتك بعاهة مستديمة.
بدأ موح يزمجر ويزداد شراسة، يضرب على صدره، يصوب نظرات مرعبة من عينيه الغائرتين معتمدا على تكتيك لترهيب الزعيم كيفن وثنيه عن مواصلة المعركة، فهو يعلم أنه وحيد في مواجهة خطرة مع رهط من المتعصبين. ينحني بظهره قليلا ، يدير عينيه المتقدتين يمينا ويسارا ، يشير بيده اليسرى إلى السكين ويرفع أصبع سبابته اليمنى نحو السماء . يأتي حركات مرعبة لإرباك كيفن وشل حركته، فيصرخ فيهم قائلا :
- إن كنتم تملكون الجرأة فليقترب مني أحدكم، فوالله لن أتردد عن جدع أنفه ، اذهبوا عني أيها الجبناء الأوغاد !
بدا كيفن متسمرا فاغرا فاه ، يكاد قلبه يتوقف، تجمد الدم في عروقه ونشف حلقه من شدة الرعب . لقد أخطأ حساباته هذه المرة، لم يكن يخطر بباله أن يواجه جزائريا نحيفا بهذا الكم الهائل من الشجاعة والإقدام .
انتفض موح وجن جنونه بشكل خطير وأخذ يصرخ ثانية : أنا اسمي "كوبرا" ، أنا لا أستسلم ، أنتصر أو أموت . لن أسمح لكم بالاقتراب مني ولا من هؤلاء النشطاء.
صمت قليلا ، ثم قام بتوجيه انتقاد لاذع لكيفن :
- كيف تدعي الزعامة والرجولة أيها الحقير وأنت تعتدي على فتاة مسالمة، اغرب عن وجهي أيها اللقيط وإلا بقرت بطنك.
اصفر وجه كيفن وهو يرتعش بعد أن نفذ تهديد موح إلى قلبه، فلم يعد له من سبيل سوى الانصياع والانهزام.
غادر الرهط بعد برهة يجرون خيبة الهزيمة وولوا الأدبار هاربين.
أجزم أنه منذ ذلك الحين لم يعد كيفن يجرؤ على الطواف بميدان الطرف الأغر ، واستمر المتظاهرون يمارسون نشاطهم بكل أريحية وهدوء .
موح لا يفتأ من جلب مأكولات ومشروبات وتوزيعها على النشطاء بالميدان .. كان يرى نفسه مثل روبن هود الذي انبعث من جديد في قلب لندن . يسرق من الأثرياء ويوزع غنائمه على الفقراء حسب ما جاء في الأسطورة الشهيرة.
موح يعتقد أن بريطانيا أرض غنيمة ، ذلك أنه كلما حلت أعياد المسلمين اقتني ألعاب أطفال ذات ماركات عالمية من متاجر فاخرة ك"ديزني" و"جون لويس" ، ويقوم بتوزيعها على الأطفال عند أبواب المساجد . يرغب في إدخال الفرحة والسرور على قلوب أطفال المسلمين كما يزعم .
تطورت علاقة موح بالمتظاهرين وأخذت أبعادا إنسانية حميمة بعدما انتصر على حليقي الرؤوس في معركة الطرف الأغر . كان النشطاء متضايقين كثيرا من تحرشات النازيين الجدد إلى أن أتى موح وخلصهم من شرورهم .
منذ ذلك الحين وأنجيلا تحترم موح وتقدر شجاعته ونبله في دفاعه عن صديقها باتريك . أصبحت تطلق عليه اسم "كوبرا"، وأحيانا كانت تناديه بـ"روبن هود" العرب خصوصا عند استقدامه لساندويشات ومشروبات من سوبرماركت "تيسكو" المجاور ...