عبد اللطيف برادة: القوى الناعمة ولعبة الفوضى الخلاقة(1)

عبد اللطيف برادة: القوى الناعمة ولعبة الفوضى الخلاقة(1) عبد اللطيف برادة
جلسنا نتبادل أنا وصديقي المشاكس أطراف الحديث عن مواضيع الساعة واخذ منا موضوع الشرق الأوسط قسط الأسد وبينما كنت أنا أدلو بدلوي بما في جعبتي من حجج مدافعا عن الدول العربية على أنها مجرد ضحية لاستعمار جديد وهو استعمار مقنع بشكل من الإشكال وليس غير ذلك وإذا بصديقي المشاكس يقحمني بمداخلته المعاكسة معارضا رأيي كالمعتاد قائلا لي وشرارة الغرور تتطاير من نظراته المتعالية وكأنه سقراط زمانه.
- فما عسى تنتظر من الدول العربية وهي لا تمتلك شيئا من صناعة الأسلحة وهي مجملا مجرد مستوردة للأسلحة ولهذا سيظل الغرب متفوقا في حروبه مصدر الصناعته نافذة في قراراته وتوجهاته وستظل لهذا السبب الدول العربية تابعة لقراراته وسوقا مفتوحا لأسلحته ليس أكثر
- فأنت تعلل، إذن، كل شيء بالتفوق الصناعي
- فما هو البديل حسب رأيك أنت إذن هل هناك تفسير آخر لما يحققه الغرب من انتصارات على كل الجبهات
- بلى فمن الأخطاء التي يقع فيها المواطن العربي بخصوص ظاهرة العولمة والتفوق الأمريكي والغربي اليوم أن التفوق اقتصادي وعسكري فقط، هو السبيل الأوحد والأجدر لاكتساب الصدارة بين الأمم وحتى من يعلم أن للتفوق الثقافي دور لا يقل أهمية عن القطاعات الأخرى فإنه غالبًا لا يعير مسألة الغزو الثقافي قدرًا كبيرًا من الاهتمام. على الرغم من أن غزو الدول النامية يتم عبر هذا الشق منذ بداية الألفية الثانية وبصورة فعالة وصولًا إلى مرحلة الاختراق؛ ثم التغريب بدون تحريك دبابة واحدة قيد أنملة من لدن الأطراف المستهدفة..
- لكن الاستعمار الثقافي ليس إلا مرحلة عابرة فقط، وهي مجرد مرافقة للاستعمار الحقيقي بشقيه العسكري والاقتصادي..
- بل بالعكس فالتغلغل والاستعمار الثقافي هو البوابة الرئيسية لتغلغل الاستعمار ويظل الأطول والأقوى والأكثر استقرارًا من الاستعمار الاقتصادي ويليهم الاستعمار العسكري. وهو ما يجعل القوى الناعمة من أكثر الوسائل فاعلية في حروب الجيل الرابع
- إذن كيف يتم الإعداد لهدا النوع من الحروب؟
- أمر بديهي يتم ذلك عبر استهداف مقومات حضارة الجهة المقصودة والحضارة، كما هو معلوم ترتكز على عدة مقومات ثقافية وأيديولوجية، وهي اللغة والدين والتاريخ.
وقد سبق أن تطرق للنظرية العديد أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية وأبرزهم هنتنجتون في مؤلفه (صدام الحضارات) حيث يكرسون للصراع الثقافي بديلًا عن الصراع الأيديولوجي على امتلاك القوة بعد الحرب الباردة
- وإلى ما سيفضي هذا الصراع؟
- طبعا إلى التلاعب بمصائر الشعوب وبخلق نوع من البلبلة والفوضى ولقد وجدت أنه لمن المثير للدهشة أن الأمر ما زال في طور التصعيد الهدام رغم أن الفوضى الناجمة عن المعترك السياسي في بلادنا العربية لا تحتمل والحقيقة ولأني عايشت تلك الأحداث عن قرب وحين استغرقني التفكير في ذلك، وجدت أن أقوى أسلحة تلك الصراعات فتكًا أصبح لا يتعدى في بعض ألأحيان كتب أفلام تتنبؤ بخارطة الطريق التي يتم تبنيها فيما بعد على أرض الواقع من طرف المسئولين عندما تصبح شبه محتملة لدى الجمهور الواسع على جميع الأصعدة في الداخل والخارج
- وكيف يتم ذلك عمليا؟
- بكل بساطة فمع استمرار تطور الحرب ألناعمة والتي يدعوها البعض حروب الجيل الرابع أو حروب الظل أو حرب اللا عنف فإن المشهد يزداد تعقيدًا مع التطور التكنولوجي حيث يمكنك الآن الذهاب بعقول البشر حيث تشاء من خلال الهواتف المحمولة واستغلال ما يحبونه ويشعرون بالانتماء إليه بطرق مسلية وجعلهم يتفاعلون صوتيًا ومرئيًا.
- فبما أن العملية تتم بهده البساطة فلما لا يتم استيعابها من طرف المتلقي وعدم السقوط في اللعبة؟
- العملية تبدو واضحة ولكن المسألة أيضًا ليست بسيطة فاعتمادك الأكبر في تلك الحالة سيكون على ثقافة المتلقي شبه المعدومة كوسيلة استقطاع للحقائق وهذا يعتمد بالضرورة، على مدى سعة الرقعة المعلوماتية في ذهنك أنت باعتبارك ملقنًا وبخصوص استيعاب وسائل تطبيق هذا التوجيه العقلي على ملايين من البشر الذين قد يمثلون شعبًا أو أمة واحدة و قد أظهرت دراسات أن الذهن البشري غير مصمم وفق تركيبته ألبيولوجية على معالجة كمية معطىات ضمن ملف معلوماتي ضخم يرقى إلى مستوى عملية دولية ذات أبعاد جيوستراتيچية، خاصة إذا وردت تلك المعلومات والمعطيات إلى الذهن بطريقة عشوائية متناثرة وفي حالة تسارع الأحداث والتداعيات الناجمة عنه
-إذن ليس هناك مخرج لاستيعاب اللعبة وتفاديها؟
- نعم لأن تلك العمليات لا ينتجها إلا مجمع استخباراتي دولي ضخم، ويصممها آلاف الخبراء، يبذلون في بلورتها جهودًا كبيرة وجبارة على مدى سنوات. والذهن البشري غير مصمم أو مؤهل لتفكيك وإعادة تركيب الهرم المعلوماتي لعملية جيوستراتيچية مكونة من آلاف القطع المتناثرة دفعة واحدة بل يحتاج إلى جمع وتفكيك تدريجي شبيه بالتدرج الذي صممت فيه العملية وقد أكد (روبرت مالي) مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) في مقالة له بعنوان (مصر ما بعد مبارك.. ولادة جديدة للشرق الأوسط) نشرت في صحيفة الواشنطن بوست في 8/2/2011، أن الجرأة التي حظي بها العرب لمواجهة الأنظمة الحاكمة جاءت نتيجة مشاهدتهم تعثر الجيش الأمريكي في أفغانستان وفي العراق وعدم قدرة إسرائيل على إخضاع حركة حماس أو حزب الله. وهو ما زاد من رصيد تيارات الإسلام السياسي الذي اكتسب من الزخم حدًا وصل أقصى صعود له منذ السبعينيات
- ماذا تعني بالضبط ففي الحقيقة لم أعد استوعب الفكرة؟
- بكل بساطة فهكذا أؤكد أن الولايات المتحدة غالبًا ما تقوم بإحداث الفوضى، ثم هندسة مجرياتها لتصب في النهاية في بوتقة مصالحها، وهو ما أشارت إليه (كونداليزا رايس) وزير خارجية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دابليو بوش في لقاء صحفي نشرته جريدة واشنطن بوست في 9/4/2005، حيث صرحت رسميًا اعتزام الإدارة الأمريكية نشر الفوضى الخلاقة لترسيخ الديمقراطية في العالم العربي
- لكن كيف؟
- كما أشرت إليه فيما سبق عبر القوى الناعمة
- كثيرا ما سمعت بهذا المصطلح إلى درجة التمييع فما يعنيه بالضبط
-القوى الناعمة هي الآليات التي تعرض كل تأملات وإنتاج وتطويرات العقل البشري على المستوى الثقافي، من خلال الموسيقى والأدب والفنون والجامعات ومراكز الأبحاث، وعن طريق الإنترنت والقنوات الفضائية وصولًا لصفحات التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرهم)، بشكل يضمن وصولها إلى أكبر عدد من المتلقين على مستوى ألعالم ومن ثَمَّ تحقق توجيهًا لعقول أكبر قدر منهم في إطار مذهب فكري ونمط حياة وثقافة معينة دعني اكتفي بهذا ولنترك ما تبقى من الموضوع إلى الحلقة المقبلة إن شاء الله فما رأيك
- متفق رغم أنني مشتاق إلى تكملة الحديث الموضوع شيق لدا لقد شد انتباهي وشغف الاستطلاع لا بأس، إذن، فلنترك البقية إلى المداخلة المقبلة إن شاء الله.