عبدالغني السلماني: مأساة سعيد ناشيد..الفلسفة والعقاب

عبدالغني السلماني: مأساة سعيد ناشيد..الفلسفة والعقاب عبدالغني السلماني
توصل الأستاذ والمفكر المغربي سعيد ناشيد بقرار العزل من الوظيفة العمومية كأستاذ بالمديرية الإقليمية سطات. القرار وافق عليه رئيس الحكومة المغربية السيد سعد الدين العثماني، نتيجة تغيبه الغير المبرر عن العمل .. الكاتب سعيد ناشيد، كتب تدوينة على صفحته الرسمية في الفيسبوك، سلط فيها الضوء على حيثيات وتفصيل عزله من الوظيفة العمومية نتيجة مواقفه وقناعاته الفكرية وهي التدوينة التي حصدت الآلاف من المواقف التضامنية من المغرب وخارجه، والتي طالبت التدخل من أجل إنصاف هذا الباحث المجد و ما يمثله من مكانة فكرية في الساحة المغربية والعربية ، وما تجسده مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة من اجتهاد وسبق في خلخلة الموروث وتفكيك خلفياته التقليدية .. قرار عزل سعيد ناشيد تم انتشاره في وسائل التواصل الإجتماعي حيث وصفته أغلب الردود بالانتقامي في حق أستاذ ومفكر قدم الكثير للدرس الفلسفي، كما خلف موجة من الغضب من شرائح واسعة من داخل المغرب وخارجه، من مثقفين وإعلاميين وإطارات حقوقية ومدنية ومراكز الدراسات وغيرها ، وهو ماجسدته موجة التضامن من داخل المغرب وخارجه، لما يتمتع به الباحث سعيد ناشيد من مكانة رفيعة بفضل إنتاجياته الفكرية النوعية . حيث طالب المتضامنون بوضع حد لهذا العبث الغير المبرر ، واعتبروا أن القرار انتقامي، ولم يراع أي اعتبار، خاصة وأن الأستاذ سعيد ناشيد، يعاني من مرض مزمن، ومافتئ يقدم للإدارة ما يثبت ذلك من خلال الشواهد الطبية.
بلاغ الوزارة لغة الإدارة تجافي العقل:
قضية سعيد ناشيد التي تفجزت لم تترك فرصة للوزارة الوصية سوى إصدار بلاغ توضيحي بتاريخ 21أبريل من الشهر الجاري والذي وزع على وسائل الإعلام.
في هذا البلاغ كشّرت الوزارة الوصية عن أنيابها في مواجهة الكاتب سعيد دون مراعاة لقيمته الفكرية والثقافية؟ بلاغ يحصي هفوات سعيد ناشيد دون أن يلتفت لما قدمه هذا المبدع من وصفات للتداوي بالفلسفة؟ كما تم إغراق البلاغ بلغة المراقبة الإدارية فيه تبرير للشطط مما يثير شكوكا حول إمكانية وجود نية سيئة وقصدية في الانتقام ، فبالرغم من مراعاة البلاغ على ذكر الحيثيات والحرص على شكلية الملف فإن القرار لا يخلو من بيرو قراطية فجة مما يتطلب إعادة النظر في دور هذه اللجان والعمل على توسيع مجال اختصاصاتها ليشمل مجالات مرتبطة بالإرتقاء بجودة المرفق العمومي وظروف عمل الموظفين واشراك هذه اللجان في الهيكلة الإدارية والمساهمة في رسم السياسة العامة للإدارة العمومية في مجال تدبير الموارد البشرية.
هناك من فرح بهذا البلاغ فرحا كبيرا واعتبروا دفوعات الوزارة خدمة مطروزة من أجل النيل من سمعة ورمزية الأستاذ ناشيد، رغم أنه لا يمكن في أية حالة من الأحوال أن تكون العقوبة الصادرة بالفعل أشد من العقوبة التي يقترحها المجلس التأديبي .؟
لكن العقوبة وافق عليها رئيس الحكومة وهنا السؤال ؟ألم يطلب هذا الأخير من مستشاريه ورقة تقنية حول الحالة وصاحبها ؟ ألم تشفع له مكانته وكتبه ومواقفه؟ لكن لا بأس... من حق الإدارة أن تدافع عن نفسها وأن تمارس شططها بالشكل الذي تريد، مادام القانون في صفها وهي من تطبقه بالشكل والمزاج والحالة ... وهناك تجارب كثيرة في هذا المجال لكن لا نُسرع أو نتسرع في إصدار الأحكام ... مادام القرار قابل للنقض أمام المحاكم المختصة، و من باب احترام استقلالية القضاء نترك الحديث للجهة المختصة والقادرة على المرافعة القانونية بالحجة والدليل.
لكن لي ملاحظة أساسية حول بلاغ الوزارة :
أن اللجنة الإدارية المتساوية الأعضاء على مستوى الأكاديمية الجهوية لسطات (رغم ما قيل في تركيبتها) أصدرت في حق الأستاذ ناشيد عقوبة توقيف لمدة ثلاثة أشهر في حين رفعتها الوزارة إلى العزل، وهذا الأمر نادر الحدوث. فكثيرا ما تزكي الوزارة قرار اللجنة الإدارية.. الأمر الذي يثير تساؤلا مشروعا. ماهي المبررات التي جعلت الوزارة تشدد العقوبة في هذا الملف ؟
الفلسفة والعقاب :
حين تحدث سعيد ناشيد عن الوصايا العشر للفلسفة خلص في الوصية الثالثة أن الفلسفة المعاصرة تتفق أن للعقل فاعلية وليس جوهرا. فلا يكون العقل عقلا إلا أثناء استعماله. لذلك، إذا لم تستعمل عقلك فلن تكون إنسانا عاقلا، ولن تكون مواطنا متخلقا، ولن تكون شخصا سعيدا.
استحضر هذه المقولة كي أبين شكل العقوبة المقترحة عن طريق قرار إداري لم يراع وضعية صاحب "الطمأنينة الفلسفية " وبهذا تعمد القرار على إيقاع المعاناة على الكاتب،المفترض لأنه له قلق في العقيدة وأسئلة حول التراث، والتهمة لابد أن تجد التكييف المناسب للنيل من هذه الجرأة الزائدة. وبما أنّ تشديد العقوبة تنطوي على إلحاق الألم أو الحرمان من حقوق مكتسبة فقد تم الاتفاق على شكل العقوبة ولو تطلب الأمر تبريرًا أخلاقيًا وقانونيًا وإداريا .
حتى لا نخوص في التفاصيل أكثر؛ أعرف أن هناك الكثير من الإمكانيات لدمج الأستاذ ناشيد والاستفادة من خبرته ولو تطلب الأمر إصدار مقرر استثنائي يتخذه الوزير المعني بموافقة رئيس الحكومة. ألم يكن حري بكل الشركاء في هذا القرار أن ينصفوا سعيد ناشيد ويستحضروا خدماته للثقافة المغربية ومنحه امتيازا قانونيا كالذي يستفيد منه عدد كبير من النقابيين والسياسيين...... قصد التفرغ من أجل تقديم منفعة ثقافية عامة للمجتمع. ألم تكن الوزارة الوصية ورآسة الحكومة على بينة من إنتاجات وكتب سعيد ناشيد التي تتجول في معارض الكتب عبر العالم ؟ ألم يكن حري بالوزارة الوصية خلق منصب اعتباري للأستاذ ناشيد ومنحه فرصة نشر قيم التسامح وعشق الفلسفة في الوسط التعليمي ومساعدة الطلاب في عشق الفلسفة وتشجيع ثقافة النقد .
ما العمل ؟
اعتقد أن الحكمة والعقل يقتضيان إعادة النظر في هذا القرار والبحث عن مخرج يعيد للمثقف عنفوانه ، وتسهيل عودة سعيد ناشيد إلى عمله ولو من باب تكليفه مثلا بمهمة في الإدارة الجهوية بالإشراف على ورشات للكتابة والقراءة يمارس فيها غوايته في الفكر والفلسفة والتنوير!!!.. وأعتقد أنه ستكون أجمل الحصص للتلاميذ بهذا السلوك سنقضي على العنف والهدر ونعيد للمدرسة العمومية بهائها ورونقها المعرفي المتنور . خاصة أن تلاميذ وتلميذات المدرسة العمومية خزان للمواهب في الكتابة و الباحث سعيد ناشيد جدير بهذه المهمة وقادر عليها في التوجيه والتكوين والمرافقة!!!!
لذلك إن عزل المثقف سعيد ناشيد وحرمانه من دخل يحمي كرامته لن يفيد أي كان وخاصة أن الأستاذ سعيد لم يكن يرغب يوما في تعاطف يبني له مجدا مغشوشا، بل اعتمد على قدراته، وكتاباته جديرة بالتحدث عن منجزه الفكري الهام والمتميز . فالقيم الإنسانية التي يدافع عنها سعيد ناشيد على المستوى الفكري والمجهودات الكبيرة التي يبذلها رغم ظروفه الصحية الصعبة تجعل منه القدوة، وكتبه وندواته ولقاءاته العلمية شاهدة على ذلك وهو ما يرغب فيه .وهذا ما كان يطلبه من الجهات المسؤولة لكن دون جواب أو اقتناع.
يؤمن سعيد ناشيد وغيره من العقلانيين أنّ دور الفيلسوف هو مساعدة الناس على إعادة صياغة الأفكار والأسئلة بنحوٍ يخدم قدراتهم على عيش الحياة؛ لأنّ الأهم من معنى الحياة هو القدرة على طرح الأسئلة والتشكيك في الثابت المتواتر . هنا بالذات يكمن دور فلسفة التنوير التي اتخذها ناشيد فلسفة حياة ، فما كان للجهاز الوصي الإداري البيروقراطي أن يكون له رأي آخر بنقل ناشيد وإعادته للتعليم الابتدائي بدعوى الخصاص . من ينقذ الفلسفة إذن؟ من يمنع الفيلسوف اليوم من أبسط شروط العيش الكريم؟
 
د /عبدالغني السلماني، باحث وناقد