أحمد الحطاب: الثقة المتبادلة والحياة العامة

أحمد الحطاب: الثقة المتبادلة والحياة العامة أحمد الحطاب

عندما أقول: لدي ثقةٌ في فلان، فهذا يعني أني أئتمِن إليه ولا أشك فيما يصدر عنه من أقوالٍ وأفعال وما يُظهرُه من سلوك. والثقة تكون متبادلةً حينما يثق شخص في شخص آخر والعكس أو جماعة في جماعة أخرى والعكس أو شخص في جماعة أو جماعة في شخص. والثقة المتبادلة، مثلا، هي أساس الصداقة وممارسة التجارة والسياسة وعمل الإدارة والحكم والقضاء، وبصفة عامة، هي أساس المعاملات بين الناس.

 

وهنا، لا  بد من الإشارة أن الناس في الماضي كانوا يتعاملون فيما بينهم بْلْكْلْمَة فقط، الشيء الذي يوحي بأن الثقةَ التي كانت سائدةً في الماضي بين الأطراف كانت تلقائيةً وقيمةً ساميةً من قيم المجتمع. والأطراف التي سأتحدَّثُ عنها فيما بعد هي، من جهة، المواطنون، ومن جهة أخرى، المؤسسات السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، المالية، الثقافية، الإدارية، التعليمية...

 

والسؤال الذي يفرض نفسَه في هذا الصدد هو: "هل تزال الثقة المتبادلة قائمةً بين المواطنين والمؤسسات العمومية؟". ما يُبيَّنه الواقع والأحداث هو أن هذه الثقة دخلت في طور الاضمحلال والتَّلاشي منذ عدَّة سنوات. لماذا؟ لأن المشهد السياسي نخره الفسادُ ودمَّر مصداقيتَه. وعندما يطال الفسادُ السياسةَ، فأول متضرَّرٍ من هذا الفساد هو تدبيرُ الشأن العام. وعندما يتضرَّرُ تدبير الشأن العام من الفساد، فأول مَن يؤدي ثمنَ هذا التَّضرُّر، هم المواطنون.

 

فلا غرابةَ أن تغيبَ الثقة بين هؤلاء المواطنين وعدد من المؤسسات العمومية التي، أصلا، أُنشِأت من أجل خِدمتهم. ولا غرابةَ كذلك أن يفقدَ المواطنون الثقةَ في الأحزاب السياسية، في البرلمان، في الحكومة، في الإدارة، في الجماعات المحلية، في الانتخابات، في المنظومة التربوية، في المنظومة الصحية...

 

فماذا يعني هذا الوضع للمواطنين؟ إنه يعني بكل بساطة أن البلادَ فشلت في بناء الإنسان الصالح والمشبَّع بروح المواطنة والقيم السامية. الإنسان الذي يحترم نفسَه ويحترم الآخرين ويحترم وطنَه وقوانينه.

 

في أمصار أخرى تحترم نفسَها، الثقة المتبادلة بين المواطنين والمؤسسات العمومية مبدأ أساسي ترتكز عليه كل المعاملات والخدمات التي تقدِّمها هذه المؤسسات لهؤلاء المواطنين. الكل، مواطنون ومؤسسات، يحترم القوانين والمساطر. المواطن يطلب حقا والمؤسسات تلبِّي هذا الحق الذي تعتبره واجبا من واجباتها ومسئولية تقوم بها بدون تمييز أو زبونية أو محسوبية.

 

وانطلاقا من هذه الاعتبارات، يمكن لمواطن هذه الأمصار، مثلا، أن يخلق مقاولةً في مدَّة وجيزة قد لا تتجاوز 24 أو 48 ساعة. وبإمكانه كذلك أن يحصلَ على جواز سفر في يومه. وفي الكثير من الحالات، يُعفى المواطن من رتابة البيروقراطية ويكفي أن يدلي ببطاقته الوطنية لتقدِّمَ له المؤسسات العديدَ من الخدمات. وباختصار، في هذه الأمصار، الثقة المتبادلة تُعتبَرُ كمبدأ من مبادئ الحضارة وكعامل يساهم في تحريك عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

 

عندنا، لا المواطن يثق في المؤسسات العمومية ولا هذه الأخيرة تثق في المواطن. المواطن والمؤسسات متَّهمون حتى تثبت براءتُهم. فكيف تكون الثقة متبادلةً والإدارة تطلب، مثلا، من مواطنٍ ماثلٍ أمامها شهادةَ الحياة أو تُثقِل كاهلَه، وقتا ومالاً، بالإدلاء بوثائق لا تُغني ولا تُسمن من جوع؟ فكيف تكون الثقة متبادلةً والمؤسسات العمومية لا تحترم مواعدَ تقديم الخدمات؟ فكيف تكون الثقة متبادلةً والمواطن يجد نفسَه أحيانا أمام موظفين غير أكفاء؟ فكيف تكون الثقة متبادلةً ووسائل عمل العديد من المؤسسات بدائية (كتعْقَلْ عْلَ جدْ النْمْلْ)؟ أما العمليات التي لها علاقة بالاقتصاد أو عموما بتحريك عجلة الاقتصاد حدِّث ولا حرج.

 

وفي الختام، لو حاولنا أن نُعطيَ قيمة ماليةً واقتصادية لانعدام الثقة المتبادلة بين المواطنين والمؤسسات العمومية، لَصُدِمْنَا بضياع نسبة لا يُستهان بها من الناتج الداخلي الخام علما أنه من الممكن تفادي هذا الضياع.

 

فلا غرابة أن تُشوَّهَ حياتُنا العامة بثقافة الفساد والريع والرشوة والمحسوبية والزبونية والتزييف... لك الله يا وطني.