عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة 3)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة 3) مقهى من مقاهي مدينة الضباب

رن المنبه على الساعة الثامنة صباحا. نهضت من فراشي في تثاؤب، نظرت إلى منعم فوجدته يفرك عينيه النائمتين. وقفت عند باب دورة المياه أقاوم ترنحي. لم أنل قسطا وافرا من النوم بعد رحلة مضنية عبر القطار. دعتنا للا ارحيمو إلى المطبخ لتناول وجبة الفطور. أخذت مكاني بجانب منعم. حضرت لنا كل ما طاب ولذ من ألوان الطعام (فطائر، كرواسات، شاي، حليب...). رتبت المائدة بشكل أنيق لافت. شرعت في أكل وجبة "كورنفلكس" مع حليب بارد في صحن مجوف. كانت أول مرة أتذوق هذه الوجبة في حياتي. وجدت مذاق الحليب كامل الدسم ومختلف في طعمه عن حليب سنطرال المغربي. راقتني طريقة الإنجليز عند تناول فطورهم بالحليب البارد ومزجه مع الشاي. استطبت وجبة الفطور الشهية. الحليب الإنجليزي منعش ولذيذ .

 

بعدما فرغنا من الطعام ألحت للا ارحيمو على منعم كي يرافقني معه طوال اليوم حتى أتدرب على التنقل عبر الحافلات الحمراء واستعمال خريطة المترو. قلت لها: إحدى أولوياتي هو البحث عن العمل لأسدد به تكاليف رحلتي، فأنا أرى لندن كقبلة للعمل وكسب بعض المال. لا شأن لي ببيتي شارلي شابلان وشكسبير كما كنت أدعي أمام الضابط ستيف عند الحدود .

 

- حسنا، منعم سيساعدك على ذلك !

 

خرجنا سويا أنا ومنعم فالتفت إلي قائلا: صديقتي "جين" لديها أقارب يمتلكون حانة راقية بشارع إدجوار رود، هل لديك مانع أن تعمل بالحانة؟

 

قلت: لا لا مانع لدي، العمل عبادة. ما يهمني هو الحصول على شغل. توجهنا سيرا على الأقدام نحو بيت جين وطرقنا الباب. كانت تقطن بنفس الحي غير بعيدة عن محطة "أرنوس غروف". فتحت فتاة جميلة الباب بتسريحة شعر "بلانت بوب". ارتسمت على شفتيها ابتسامة عذبة. كانت "جين" من أصول إيرلندية. فتاة شقراء جذابة تغشاها الأنوثة ولم تتجاوز العشرين من عمرها. قدمني منعم إليها:

 

- هذا عبدو أحد أقربائي وصل البارحة من المغرب يبحث عن شغل، رجاء جين، أريدك أن تساعديه !

- مرحبا، يسعدني ذلك، هل يتحدث اللغة الإنجليزية؟

- لا لا، يمكن أن يتواصل لكن لا يتحدث بطلاقة .

- أوكي، هيا بنا جميعا إلى حانة "الثعالب البيضاء" لنكلم المدير "شون" في الموضوع، فهو غالبا ما يبحث عن عمال جدد .

 

ركبنا المترو وتوجهنا نحو محطة "إجوار رود" قرب حي العرب بقلب لندن. لم يكن القطار مزدحما بالركاب هذه المرة لأنها لم تكن ساعة الذروة. جلست في مقعد قبالة منعم وجين ووضعت وجهي بين كفي. استغرقت أفكر في مستقبلي الغامض. أجدني داخل أعرق مترو في العالم حيث قذفت بي أمواج الحياة المتلاطمة. رفعت عيني نحو إعلانات إشهار تزين جدران القطار، فوقع بصري على إعلان ضخم يروج للسياحة بمراكش، رددت في نفسي: يا للمفارقة! الإنجليز يسافرون إلى مراكش قصد الاسترخاء والفسحة، ونحن نأتي إلى لندن كسياح نبحث عن عمل بلا أوراق .

 

كان منعم منهمكا في حديث عاطفي مع صديقته الحسناء. حالتهما يسودها التناغم والانسجام. لا أستوعب ما يدور بينهما من حديث سيما أنهما يتحدثان بلهجة "كوكني" الشعبية التي يصعب على الوافدين الجدد أمثالي فهمها .

 

وصلنا عند "شون"، ألفيناه منزويا في إحدى ردهات الحانة. شخص نحيف بشارب أشقر يحمل في عيونه نظرات حادة، قدمتني إليه جين كشاب يبحث عن فرصة عمل. رد علينا: لا أستطيع أن أشغله كنادل يسكب المشروبات الروحية للزبناء، لأن لغته الإنجليزية رديئة، لكن سأعرض عليه الاشتغال معي خلال الويكاند كمساعد يقوم بالتقاط الكؤوس الفارغة وإفراغ المنفضات من أعقاب السجائر. فرحت بعرض شون، وقبلت به على مضض بأجر لا يتجاوز ثلاثين جنيها. شكرت جين ومنعم على حسن مساعدتهما لي، وقلت لهما سأعمل هنا مؤقتا ريثما أرتب أموري وأحصل على شغل آخر طيلة الأسبوع .

 

شرعت في عملي يوم الجمعة. كانت الحانة ممتلئة عن آخرها بالرواد وبكل أصناف البشر بمن فيهم بعض العرب. ضجيج، صخب وصوت الموسيقى لا يطاق. رجال ونساء شقراوات يتبادلون أطراف الحوار، فتيات يتمايلن في غنج على إيقاع موسيقى تنبعث من مكبرات صوت قوية، وأخريات يقفن خارج الحانة مع شباب منهمكين في حديث اللهو على الرصيف .

 

أبو جاسم زبون عربي يرتاد الحانة بشكل منتظم، يقطن بشقة فاخرة مجاورة مع أسرته الصغيرة، يمضي جل عطلته الصيفية متنقلا بين لندن والدار البيضاء كما يدعي. رجل أربعيني ببطن مندلق، مسطح الرأس وجسد غير متناسق، أحيانا يضع نظارات سوداء فوق ناصيته، لا يملك شيئا غير المال. بمجرد ما علم أني مغربي أخذ يتقرب مني محاولا استمالتي وأنا لا أرغب في حديثه، لا يكف عن سرد مغامراته السخيفة مع فتيات الهوى بعين دياب بالدار البيضاء، أجد حديثه تافها ويبعث على الغثيان. رجل مقرف يكتنز مخزونا كبيرا من البؤس والغباء .

 

عندما أطوف حول الطاولات لألتقط الكؤوس الفارغة والقنينات المهملة، أنغمس في دردشات سريعة مع الزبناء. إميلي فتاة جميلة هادئة ترتاد الحانة كل مساء، شابة فاتنة ممشوقة القوام تشتغل بإحدى شركات التأمين، تبادلني نظرات مرهفة وتحدثني عن الموسيقى وأحوال الطقس. أشعر وكأن الغيرة تحرق قلب أبي جاسم ذلك أنه لا يرى إميلي سوى بضاعة يستمتع بها، سألني عنها بصوت خافت فقلت له هي أمامك، لما لا تسألها بنفسك؟

 

في اليوم التالي استجمع شجاعته واتجه نحوها مباشرة يطلب صداقتها، فتجاهلته ببرودة، وتبرمت منه بطريقة إنجليزية ماكرة، إيميلي ليست من صنف قاموسه المغامراتي الذي كان يسرد علي من قبل، ولا من فتيات الضفة الجنوبية ليستميلهن بقليل من المال .

 

حينما أجمع الكؤوس أقوم بوضعها في غسالة كهربائية، ثم أمسحها وأضعها فوق رفوف مرتبة. ألفيت الحانة بمثابة معرض بشري من الناس، يتجمعون قصد الترويح عن النفس، يتبادلون حكايات مسلية، عندما يسكرون أستمع إلى حكاياتهم وكأني أحيا تجاربهم، بعضهم يسردون علي مشاكلهم، أنصت إليهم باهتمام كي ينفسوا عن ضغوطاتهم اليومية. رواد الحانة فيهم أبطال قصص واقعية، وفيهم أيضا أناس محبطون يصارعون تقلبات الزمن. أحيانا أستعجل نهاية ساعات العمل حتى أستريح من أبي جاسم، لكن حين أنظر إلى إميلي أستحضر بسمتها الرقيقة فتكون كافية كي تجعلني أنسى هذا المعتوه الذي سلطه الله علي في هذه الحانة .

 

بعد الويكاند، أذهب إلى شارع غولبورن رود حيث تتمركز الجالية المغربية بلندن. فأتردد على مقهى كازابلانكا لصاحبه مصطفى. وجوه كثيرة أعرفها هنا وكأني في مقهى العلمي بالعرائش، رمقت رجلا بدينا جالسا بمفرده يرتشف فنجان قهوة، تقدمت عنده فسألته :

 

- هل أنت أخو العربي؟

- رد علي نعم، أنا عبدالسلام أخوه الأكبر، هل تعرفه؟

 -نعم، هو صديقي أجالسه أحيانا بمقهى ليكسوس .

- حسنا، وماذا تريد مني؟

- أنا حديث العهد بلندن، أشتغل في حانة خلال ويكاند، وأرغب في عمل آخر لساعات أطول حتى أتقاضى أجرا أكثر .

- رد علي: أنصحك أن تكلم مصطفى صاحب المقهى فهو عرائشي يحب الناس وفاعل خير، ولديه شبكة علاقات ومعارف كبيرة .

- حسنا سأفعل، شكرا لك .

 

توجهت عند مصطفى في المقصورة.

 

- سلام سي مصطفى، أنا طالب من العرائش، وصلت للتو إلى لندن، وأبحث عن عمل، هل بإمكانك تقديم لي يد العون سيدي؟

- على راسي وعيني، ما اسمك؟

- اسمي عبدالصمد .

- أنت سعيد الحظ لأن صديقي عبد المالك في زيارة مؤقتة للندن، ويشتغل بإحدى المطاعم الإيطالية، يعتزم الرجوع إلى المغرب يوم السبت القادم، وسأطلب منه أن تعوضه في مكانه .

- وما مهمته في المطعم؟

- هو مساعد في المطبخ وغسال صحون .

- داهمتني فرحة غامرة وشكرته على جميله، قلت: إنها فرصة ثمينة لن يفوتني استغلالها على نحو جيد، لا مانع لدي أن أغسل الصحون وأكنس البلاط إن كنت سأجني أموالا من وراء ذلك .

- اجلس أمامي هنا، سوف يأتي بعد ساعة من الآن .

- جاء عبد المالك الذي أعرفه جيدا كمسرحي بالمدينة. كلمه مصطفى أمامي ووعدني أن ألتقيه يوم السبت، ليأخذني إلى المطعم فيقدمني إلى مشغله الإيطالي كعامل جديد .

حمدت الله كثيرا لأني صادفت أشخاصا طيبين يقفون بجانبي، وشعرت بابتهاج شديد لحصولي على عمل أستدر به بعض المال.

 

يوم السبت جئت إلى المقهى في الموعد المحدد، فلم أجد أثرا لعبد المالك، التفت إلى يمني وإذا بعبد السلام جالس في مكانه المعتاد. سألته: هل رأيت عبدالمالك؟

- رد علي: لا تسألني عن ذلك "الشماتة"، فلقد تراجع في كلامه وأخذ معه شخصا آخر ليعوضه في العمل عند الطليان .

 

نزل علي الخبر كالصاعقة، وأصبت بخيبة أمل مريرة. شعرت بخذلان شديد، قلت في نفسي هذه ثاني مرة أخذل فيها من طرف أبناء مدينتي. توجهت إلى مصطفى لأشكو له صنيع عبد المالك، فأسف لي على هذا السلوك المقزز. قام بالمناداة على مهاجر كهل يدعى مولاي علي. وهو مهاجر عاطل عن العمل يمضي طوال يومه يلعب "بارشي" مع مهاجرين آخرين، جميعهم يتقاضون أجور مساعدة من الحكومة.

- قال له: الله يخليك مولاي علي، هذا طالب زائر جديد بلندن، أرجوك خذه معك إلى مكتب خدمات "ماسكوط " بـ "بوند ستريت"، لعله يحصل هناك على فرصة شغل .

- نظر إلي مصطفى ودس يده في جيبه، أخرج جنيهين ومنحني إياها قائلا: هذه تكاليف المترو.

- شكرا لك سي مصطفى، هذا كرم ولطف منك !

 

توجهنا مشيا نحو محطة مترو "وستبورن بارك". بدأت أحكي لمولاي علي خذلان عبدالمالك والحسرة تعصر قلبي، أخذ يواسيني وكأنه والدي. قال لي: لا عليك يا ولدي، اصبر واحتسب أمرك عند الله، تغلق أبواب وتفتح أبواب، فسيعوضك الله بما هو خير وأحسن، كلنا مر من ذلك الباب !

 

وقفنا على الرصيف ننتظر برهة، بعدها تسلقنا القطار وانطلق بنا بسرعة فائقة تجاه مكتب ماسكوط اليهودي، حيث ستدور حكاية أخرى في مكتب الخدمات...