يزيد البركة: العين النياندرتالية والعين الحضارية

يزيد البركة: العين النياندرتالية والعين الحضارية يزيد البركة

وأنا أحضر نفسي للاستماع لنشرة الأخبار المسائية لـ ‏M‏2 يوم السبت الماضي، استرعى انتباهي ‏خبر استضافة شاعر شاب من مدينة طانطان عمر الراجي، وهو قادم من "أبوظبي" بعد ‏مشاركته في برنامج "مسابقة أمير الشعراء" وتأهله للمشاركة في باقي مرحلة المنافسة.. قلت ‏مع نفسي والله هذه فرصة مناسبة جدا لأسمع نطق العين عند هذا الشاب الذي شد الرحال إلى ‏بلاد البترودلار الذي أفسد كثيرا من الأشياء عند المغاربة، بدءا من التدين إلى السلوك، وحتى ‏نطق حروف اللغة العربية. وكم كان فرحي كبيرا عندما نطق العين كما ينطقها المغاربة.‏

 

من المعروف أن الأمازيغ كانوا حتى وقت قريب في المناطق الجبلية ينطقون حرف العين ‏همزة، مثل تهامة اليمن التي يعيدها الباحثون إلى أصول أمهرية، ولكن في المدن على عكس ‏الجبال ينطقونها كما تنطق حاليا، وكما تنطق في كل الشريط الممتد من شمال افريقيا إلى لبنان ‏وسوريا، ولعل دور مصر القديمة وفينيقيا ظاهر في نشر هذا النطق الذي توطد عبر التاريخ.‏

 

نطق العين الذي تنشره بعض قنوات الخليج وبعض الدعاة الدينيين الذين يذهبون إلى حد ربط ‏ذلك النطق بالقرآن وهو ربط غير صحيح يأتي من عمق الحلق، والبعض يبلغ إلى حد رفع ‏اللسان قليلا نحو الحلق ليخرج الصوت مثل صوت البعير فيه جعجعة وهو لزج لا أثر فيه ‏للذوق والرقة. في حين أن نطقه في كل هذه المنطقة الشاسعة يأتي من أول الحلق خفيفا رقيقا ‏وعند الأمازيغ يذهبون إلى بسط اللسان قليلا ليصدر الصوت بدون جعجعة ولا عواء فيه، ‏وهذا لا يعني أنهم لا يعرفون نطق العين كما يفعل البعير فالأم الأمازيغية عندما تريد أن تدفع ‏طفلها لكي يتقيأ إن أكل شيئا أصابه بالوجع، تحثه على نطق تلك العين البعيرية وتدفعه ان ‏يفعل مثلها: ععععع من عمق الحلق.‏

 

عدد من الباحثين يؤكدون أن إنسان نياندرتال يصدر أصواتا حقا، ولكن ليس نطقا كما ننطق ‏الآن، لأن الفك السفلي لديه كان متقدما، ولم يصبح بعد مطواعا للحركة السريعة، ولأن العظم ‏اللساني لم يأخذ بعد شكله الحالي، لذا كانت كثير من الحروف الأولى لدية عبارة عن أصوات ‏تصدر من جوف الحلق، لكن مع تقدم الحضارة ورقي الإنسان أصبح الفك السفلي طيعا ‏وتدخلت عدة أجزاء مثل حركات اللسان وسقف الحلق والأسنان والمزمار والشفتين.. في ‏تجويد الحرف وتهذيبه حتى لا يخدش الأذن.‏

 

منذ شهرين تقريبا وأنا عند البقال أشتري بعض الحاجيات جاء طفل لا يتعدى ثماني سنوات ‏وفي يده ورقة مكتوب فيها ثلاث مواد من ضمنها العدس ولما نطق الكلمة قلت له من علمك ‏نطق العين؟ قال معلمي، ونظر إلي بتساؤل وكأنه ينتظر مني تعليقا لكني لم أعلق بشيء، غير ‏أني غادرت المكان وأنا متألم لأني تيقنت أن البعض لم يكتف بأن يقلد بعض الآخرين في ‏بلدان الخليج في نطق الحروف لأسباب ما، لكن أصبح لدينا من يستغل موقعه التربوي لتغيير ‏نطق الحروف لتتلاءم مع النطق في الجزيرة العربية.‏

 

المسألة ليست مرتبطة هنا بتيار الإسلام السياسي، لأن الكثير منهم في العدالة والتنمية وفي ‏العدل والاحسان ينطقون العين كما ينطقه المغاربة ولكل واحد أن يسمع بنكيران أو العثماني أو ‏محمد عبادي وقبله عبد السلام ياسين ليتأكد من الأمر، بل الأمر يتعلق بسعي بعض الناس لكي ‏يمحوا تماما كل ما يتعلق بأصول المغاربة المتعددة، وفرض عادات وتقاليد.. شعوب أخرى ‏علينا وذلك تزلفا وتملقا لأغراض ذليلة وخسيسة.‏

 

عجبا لمثل هؤلاء، لكن الأعجب هو أن تكون باريس، هي مدينة الرقي، في النطق بالفرنسية الذي ‏فاق كل المناطق الفرنسية وكان يضرب بها المثل في هذا الصدد، وإذا بنا نسمع منها أصواتا ‏كثيرة وليس كلها في فرانس 24 تقلد نطق العين لقنوات خليجية، وكأن على هؤلاء فقط أن ‏يسمعوا نطق العين عند محمد عبد الوهاب وأم كلثوم واسمهان ومن لبنان فيروز حتى يتيقنوا ‏من رقة العين وحضارتها، وقد يقول قائل: هؤلاء فنانون قدامى؛ وأقول: إذن فليسمعوا نانسي ‏عجرم، لا أتصور مغنيا يمكنه أن يغني بتلك العين؛ لقد عايش المغاربة نطق العين الحضارية ‏وكبروا معها ومن الصعب العودة بهم إلى ما قبل التاريخ.