محمد بوبكري: الانتفاضة السلمية للشعب الجزائري تروم بناء دولة حديثة

محمد بوبكري: الانتفاضة السلمية للشعب الجزائري تروم بناء دولة حديثة محمد بوبكري
يكاد يجمع المتتبعون للشأن الجزائري على أن العسكر قد شكلوا عائقا أساسا في وجه تقدم الجزائر، علما أن أصول هذه المشكلة تعود لأسباب كثيرة. ويرى السوسيولوجي الجزائري. "الهواري عدي" أنه، مع ذلك، يمكن للجزائر أن تتقدم، ما يقتضي إرادة سياسية، يلاحظ أنها تتوفر اليوم في شباب الحراك الشعبي. ويضيف قائلا: إن كمشة من الجنرالات قد قامت بخصخصة الدولة، حيث إن هناك خمسة وعشرين جنرالا يعينون "الرئيس"، ويسيرون كل شيء في البلاد، ويقررون في مستقبلها.
كما أن أجهزة الاستخبارات الداخلية التابعة لهم هي التي تقوم بتعيين ما يسمى بـ "البرلمانيين" و"الممثلين المحليين والولائيين"؛ فالقيادة العسكرية تخنق المجتمع الجزائري، وتحول دون أن يصير مجتمعا مفتوحا ينجب نخبه بشكل طبيعي، حيث يخلق العسكر نخبا مصطنعة، لا تمثل الشعب، ولا تعبر عن أفكاره وطموحاته، لأنها منعدمة الامتدادات في المجتمع.
ولحسن الحظ أن الحراك الشعبي يدفع اليوم في اتجاه توفير الشروط الديمقراطية الكفيلة ببروز نخب مميزة قادرة على التدبير الديمقراطي للشأن العام في الجزائر، وأن المجتمع الجزائري مجتمع حيوي، حيث ورد حسب إحصائيات مخابرات الدرك الجزائري أن الشعب الجزائري ينظم سنويا بين1000 و2000 انتفاضة محلية، يطالب من خلالها بـإقامة دولة حديثة، لأنه يدرك أن الدولة بمفهومها الحديث غير موجودة في الجزائر، لأن الإدارة مفصولة عن المجتمع، ما جعل الناس الذين استولوا على مؤسسات الدولة لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة.
وللتدليل على ذلك، يكفي أن يتجول المرء في شوارع مختلف المدن الجزائرية ليكتشف أن فضاءاتها متسخة، لأن المنتخبين لا يخدمون إلا الجنرالات وأسرهم وأقاربهم، لأن هؤلاء الجنرالات هم من يعينون المسؤولين المحليين. ونظرا لغياب الديمقراطية، فإنه ليس هناك تناوب انتخابي ولا محاسبة انتخابية. واليوم لقد خرج الشعب الجزائري بالملايين في حراك سلمي يطالب ببناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، مبينا عن نضج كبير، لأنه عبر عن رفضه القاطع للآليات التي يعين بها الجنرالات الرئيس والحكومة والبرلمان والممثلين المحليين والولائيين... فالعسكر يختارون وزراء ومسؤولين معاقين ذهنيا وأخلاقيا، مع أن للجزائر موارد بشرية نوعية، لكنها مثقفة لها كبرياؤها، ما يجعلها سترفض أوامر العسكر التي تتنافى وما تشبعت به من قيم حديثة. لقد سبق أن عين العسكر " عبد العزيز بوتفليقة"، الذي يرى "البروفسور الهواري عدي" أنه لم يكن مؤهلا، وأنه كان في حالة احتضار، ومع ذلك تمسكوا بترشيحه لعهدة خامسة حتى يسود الفراغ ليتمكنوا من فعل ما يشاؤون، ويعيثوا في البلاد فسادا.
وهذا ما يؤكد أن سيادة العسكر تقتضي الفراغ، وغياب المأسسة، لأن هذه الأخيرة تتنافى مع طبيعتهم وثقافتهم. ويؤكد هذا البروفسور أن "عبد المجيد تبون" خاوي الوفاض، وجبان يخاف من ضابط صف ولذلك اختاره "الجنرال القايد صالح" وفرضه "رئيسا". وهذا ما يؤكد أن العسكر يكرهون المثقفين، لأن هؤلاء متشبعون بقيم حديثة تجعلهم يرفضون تنفيذ أوامر الجنرالات التي غالبا ما تقتضي خرق القانون. لذلك، فالجنرالات يرفضون الديمقراطية ويفضلون تعيين المعاقين والمنبطحين ليكونوا في خدمة مصالحهم الخاصة. ونظرا لفراغ "تبون" وغبائه، فإنه ينفذ كل ما يأمره به الجنرالات. لذلك انفجر الحراك في وجههم تعبيرا عن إرادة القضاء على ظاهرة المسؤولين المنبطحين على بطونهم أمام العسكر، وهذا ما قوى إرادة الحراك وعزيمته وإصراره.
فضلا عن ذلك، فقد أفسد غياب التعددية كل شيء في الجزائر، فأصبحت السلطة تحتقر الجزائري، حيث يلزمه معارف لقضاء أغراضه الإدارية، كما أن غياب المأسسة الديمقراطية هو ما جعل أغلب الأحزاب تابعة للإدارة، وسهَّل على العسكر والمخابرات ارتكاب جرائم التقتيل الجماعي في "العشرية السوداء" في تسعينيات القرن الماضي.
وهذا ما يفسر مطالبة الحراك الشعبي اليوم بإعادة تأسيس الدولة، من خلال التغيير الجذري للنظام عبر القطيعة الكلية مع أصوله وثقافته ومؤسسته وآلياته... فالعسكر يجمعون كل السلط في أيديهم، لأن طبيعتهم وثقافتهم ترفض فصلها. وهذا ما بات الشعب الجزائري يرفضه، لأنه يعي أن دولة الحق والقانون لا يتم تسييرها بالأوامر الفوقية، لأنها تحرص على تطبيق القانون. لذلك فإن الحراك الشعبي يقول للعسكر: "كفى من هذا العبث، لقد انتهت اللعبة"، ويريد أن يعود هؤلاء إلى ثكناتهم ويتوقفوا عن ممارسة السياسة، لأنه يدرك أن الدولة الحديثة تقتضي عدم تدخل العسكر في السياسة. فالجنود لا يمكن أن يرفضوا أوامر الجنرال. وعلى العكس من ذلك، فالرئيس والبرلماني منتخبان، ويمكن للمواطنين محاسبتهما ورفضهما. لذلك، فالحراك الشعبي يعترف بـ"الجنرال سعيد شنقريحة" باعتباره "نائب رئيس أركان الجيش الجزائري"، لكنه يرفض أن يقوم هذا الأخير بتعيين "الرئيس" والحكومة" و"البرلمان"...
ويلاحظ المتتبعون أن نظام العسكر قد فشل اليوم في إيقاف مد الحراك الشعبي، ما يدل على أن الحراك ناجح لأنه مستمر ويزداد قوة يوما بعد يوم، وأن الجزائري يريد بناء "دولة المواطنة"، لأنه صار يعي آن "المواطن" ليس خاضعا للإدارة، لأن المواطنة تستوجب علاقة بالدولة تمكن من التعبير عن الأفكار ونقد سياسة الدولة.
وإذا كان كل مجتمع حر ينجب نخبه بشكل طبيعي، فإن نظام العسكر في الجزائر يعرقل ميلاد النخب عبر خنق المجتمع، لأنه يريد نخبا مصطنعة تابعة له. ونظرا لاستمرار الحراك الشعبي، فإنه يمارس ضغوطا على العسكر قد تفرض عليهم شيئا فشيئا قبول التغييرات التي يطالب بها الشعب الجزائري، وعلى رأسها إجبارية تقاعد الجنرالات في سن 65 سنة. وإذا تحقق هذا المطلب، فإنه سيساعد على حل المشكل، لأن الجنرالات المتحكمين في السلطة تجاوزوا كلهم سن 75 سنة، والضباط الأصغر منهم سنا لا يمتلكون عقلية أسلافهم الشيوخ ولا ثقافتهم، كما أن أغلبهم ليسوا على وعي بما يحدث داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية من تعفن وفساد.. وقد ساهم الحراك الشعبي في جعل مجموعة كبيرة من الضباط يدركون ما جرى ويجري داخل هذه المؤسسة العسكرية، ما سيساعد على تحولها.
ويرى الأستاذ عدي الهواري أن ما هو مهم هو أن الجزائريين يريدون الحداثة، لأنهم يطالبون ببناء دولة مدنية، ما سينقذ البلاد، كما أن للجزائر أطرا مهمة ذات مستوى أكاديمي عال في الخارج، لكن العسكر همشوها وحرموها من المساهمة في خدمة وطنها، وحرموا الوطن من خدماتها...
لقد قتل العسكر كل ما هو إيجابي في البلاد، وخربوا كل شيء. فقد قاموا منذ البداية بمحاربة آباء الحركة الوطنية وقضوا عليهم، لأن الاختيار السياسي للعسكر ينهض دوما على ثقافة القتل. ونظرا لوعي الشعب الجزائري بملفاتهم السوداء، فهو يطالب اليوم بتغيير جذري لنظامهم السياسي. ويبدو أنه من مصلحة العسكر والبلاد والشعب الآن أن يتنحى هؤلاء عن السلطة حتى يتمكن الشعب الجزائري من بناء دولة مدنية ديمقراطية، التي إذا توفرت شروطها، فسيحدث التوازن بين السلطة والمجتمع...