عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (19)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (19) الفنان حسن الزرهوني (يمينا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي شعر الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم (ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم (ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْوٌرِيتَاتْ"، والتي نحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في الحلقة التاسعة عشر، في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

قال الشاعر في رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ"

"دَادَةْ يَا دَادَةْ عَارْنَا عْلَى اَلِلي مَا يَنْسَانَا

اَلِلي مَا يَنْسَانَا سِيدْ لَكْرِيمْ هُوَ مُولَانَا

دَادَةْ حِيًانِيالنًايْحَةْ عْلَى قَايْدِي عَلًامِي

قَايْدِي عَلًامِي وَشًامْ اَلسْرُوتْ ﯕَالُوازَهْوَانِي

طَاحَتْ اَلضْبَابَةْ فِي اَلْغَابَةْ اَلصْوِيرَةْ عَطًابَةْ

اَلشْتَا صَبًابَةْ فِينْ حَازْتْكُمْ أَنْتُومَا اَلْحَطًابَةْ؟

اَلشْتَا صَبًابَةْ سْقَاتْلَحْوَاضْ وُطَالْ اَلْمِيعَادْ

آلْغَادِي لَصْوَيْرَةْ جِيبْ لِيًا حَمًالَةْ زِيتِيًةْ لِلدْبُوحْ

هَادُوكْ أَهَادُوكْ وَيْلِي يَيْلِي

وَاشْ اَلْـﯖَـلْسَةْ بْلَا حْبَابْتْوَاتِي

عْلَاشْأمُولَاتِيوَعْلَاشْ؟

حَرًكْ سِيدِي بْعَاوْدُو"

 

لقد إفترض ضيف الجريدة الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على أن متن مقدمة الجزء التاسع من عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُ اَلثْلَاثْ" قد يكون جوابا على المتن الموالي الذي قال فيه الناظم "دَادَةْ حِيًانْي، اَلنًايْحَةْ عْلَى قَايْدِي عَلًامِي".

ماذا يقصد الناظم بـ "دَادَةْ حِيَانِي"؟

"دَادَةْ حِيًانِي" هو إسم كانت تلقب به إحدى زوجات القائد الكبير عيسى بن عمر، ويستعمل نفس الإسم للنداء عليها من طرف أسرتها وعائلتها والخدم والأعوان المتواجدين بالقصبة تشريفا لمقامها ونسبها، وهو إسم كغيره من الأسماء الأخرى التي كانت تستعمل داخل قصبة القائد، مثلإسم:(دَادَةْ حْبِيبْتِي، لَالَةْ خُيْتِي، لَالَةْ عْمِيمْتِي، لَالَةْ لَحْبِيبَةْ، لَالَةْ لَكْبِيرَةْ، دَادَةْ أُمِي، دَادَةْ أَبًا، لَالَةْ شْرِيفْتِي، أُمِي لَالَةْ، لَالَةْ مُولَاتِي...) وغيرها من الأسماء.

إن زوجات القائد الكبير عيسى بن عمر كن ينتسبن وينحدرن من عائلات أرستقراطية بحكم أن الرجل كان يعي جيدا أن توسيع إيالته يحتاج إلى تمدده وتغلغله وسط مجالات أخرى بروابط أسرية وعائلية ذات انتماء أرستقراطي ومخزني ولم لا المصاهرة مع رجالالنفوذ السلطوي والجاه والمال وخصوصا القياد في مناطق مجاورة وخارج نفوذه الترابي.

معنى ودلالة قول الشاعر : "دَادَةْ حِيًانِي، النًايْحَةْ عْلَى قَايْدِي عَلًامْي"

المخاطب في هذا الشطر من المتن العيطي هي إحدى زوجات القائد الكبير عيسى بن عمر المسماة "دَادَةْ حِيًانِي"، التي علمت بخبر وفاة زوجها القائد في مدينة سلا بعد نفيه من طرف السلطات الإستعمارية الفرنسية في تلك الفترة التاريخية، حيث وظف الشاعر العبدي لفظة النواح وكثرة البكاء والصراخ من هول صدمة موت زوجها بعيدا عن الديار.

إن استعارة كلمة "اَلنًايْحَةْ" بالنسبة للناظم/الشاعر أكثر تعبيرا ووصفا للحظة تلقي النبأ الجلل، صدمة موت عيسى بن عمر بعيدا عن موطن أرضه ووسط أهاليه وفراد عائلته، على اعتبار أن النواح صادر عن المرأة / "اَلنًايْحَةْ" التي ترجمة الحالة النفسية لـ "دَادَةْ حِيًانِي" التي أصبحت أرملة، وتعني قوة البكاء والصراخ والعويل على الميت، مع استحضار شخصيته وتمجيد قوته و ذكر مناقبه وسلوكه خلال بكائها على فراقه الأبدي عن طريق "اَلتًعْدَادْ" و الرثاء، حيث قال الشاعر في هذا الشطر من المتن العيطي: "قَايْدِي عَلًامِي وَشًامْ اَلسْرٌوتْ ﯕَالُوازَهْوَانِي".

قد تكون "دَادَةْحِيًانِي" زوجة القائد عيسى بن عمر على علم بممارسات زوجها على مستوى علاقاته الغرامية الخفية التي كانت الألسن تَلُوكُهَا وتتناقلها في سرية داخل القصبة، وتروج بأن القائد كانت له علاقات غرامية وكان يقضي الليالي الملاح التي يحييها خارج القصبة، بعيدا عن زوجاته سواء في رياضه بمدينة فاس أو برياض سلا أو رياض مراكش.. مما جعلها تبكي وتردد رثائها (اَلتًعْدَادْ) للتخفيف والترويح عن نفسيتها، وتربط في نظمها بين الشهامة والخيانة بطريقة سلسلة حين قالت: "قَايْدِي عَلًامِي وَشًامْ اَلسْرُوتْﯕَالُوازَهْوَانِي".

لقد ذكر المراقب المدني (لُوكْلِي) كلمة "اَلنًايْحَةْ" عندما توفي القائد عيسى بن عمر ودفن بقصبته بمنطقة ثَمْرَةْ، حيث "حضرت جنازته أكثر من 400 نايحة (نساء عَدًادَاتْ) ينتمين لفئة الخدم والحشم والأعوان بقصبته، وعملن على طلاء وجوههن وملابسهن بالرماد والتراب كتعبير عن الحزن وألم فراق وفقدان رمز كبير من رموز المخزن".

معنى ودلالة قول الناظم : "اَلشْتَا صَبًابَةْ فِينْ حَازْتْكُمْ أَنْتُومَا اَلْحَطًابَةْ؟اَلشْتَا صَبًابَةْ سْقَاتْلَحْوَاضْ وُطَالْ اَلْمِيعَادْ".

في شطر آخر من الجزء التاسع ينتقل الشاعر/ الناظم إلى الحديث عن الأمطار في حياة الإنسان البدوي وعلاقتها بالخصوبة والإنتاج، "اَلشْتَا صَبًابَةْ فِينْ حَازْتْكُمْ أَنْتُومَا اَلْحَطًابَةْ؟اَلشْتَا صَبًابَةْ سْقَاتْلَحْوَاضْ وُطَالْ اَلْمِيعَادْ". على اعتبار أن المطر/الشتاء رمز للعطاء والخصوبة واستمرار الحياة والإنفراج، ومرتبط بالنماء والإزدهار ويحيل على الخيرات في ثقافة المزارع والفلاح بمنطقة عبدة، لكن في بعض الأحيان يشكل تأخر سقوط المطر عقبة في وجه الإنسان القروي فيأخذ صورة سلبية ترتبط بالجفاف والمجاعة حيث وصف الشاعر تأخر التساقطات المطرية مع بوادر الجفاف بقوله "طَالْ اَلْمِيعَادْ" أي تأخر التساقطات المطرية في توقيتها المحدد ، إلا أن نظرة الشاعر/المتلقي تبقى نظرة تفاؤلية للحياة ولن يترك فرصة لسيطرة القنوط من رحمة السماء. وأنهى الشاعر المتنالعيطي بقوله:

"آلْغَادِي لَصْوَيْرَةْ جِيبُو لِيًا حْمَالَةْ زِيتِيًةْلِلدْبُوحْ / هَادُوكْ أَهَادُوكْ وَايْلِي يَيْلِي وَاشْ اَلْـﯕَلْسَةْ بْلَا حْبَابْتْوَاتِي. عْلَاشْ آَ مُولَاتِي وُعْلَاشْ، حَرًكْ سِيدِي بِعَوْدٌو"

لقد إشتهرتمدينة الصويرة في تلك الفترة التاريخية بالصناعة التقليدية وكانت الوجهة المفضلة للعائلات والأسر للتبضع من حرفيي ومهنيي المدينة الذين كانوا مشهورين بالتفنن في صناعة مختلف الألبسة التقليدية والحلي، لذلك فلا غرابة أن يذكر الشاعر إسم الصويرة، ليمرر رسالة المرأة/الشيخة التي طالبت بإحضار "حْمَالَةْ زِيتِيًةْلِلدْبُوحْ".

"حْمَالَةْ/ تَشْمَارْ"، هي عبارة عن حزام حريري، تطلق عليه النساء إسم "تَشْمَارْ"، مطرز من جوانبه، حيث كانت تَشُد به المرأة/الشيخةأدرعها بين الصدر والمرفقين، حينما ترتدي القفطان الفضفاض (طولا وعرضا) و يغطي قدميها واليدين، وكان حزام "حْمَالَةْ/ تَشْمَارْ" يلعب دور تحصين القفطان وجمع أطرافه السفلى وتلك المرتبطة باليدين (اَلْكُمًيْنْ)..حتى لا يشكل عرقلة للحركة، خلال الرقص أو التلويح باليدين أثناء الغناء والنقر على آلة الإيقاع.

في سياق متصل أشار الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني إلى أن المتن العيطي : "آلْغَادِي لَصْوَيْرَةْ جِيبُو لِيًا حْمَالَةْ زِيتِيًةْ لِلدْبُوحْ / هَادُوكْ أَهَادُوكْ وَايْلِي يَيْلِي وَاشْ اَلْـﯕَلْسَةْ بْلَا حْبَابْ تْوَاتِي. عْلَاشْ آَ مُولَاتِي وُعْلَاشْ، حَرًكْ سِيدِي بِعَوْدٌو"، يحيل على مشهد من مشاهد الجلسات الفنية والموسيقية التي كان ينظمها أعيان القبائل ورجال المخزن بحضور النساء والشيخات والشيوخ للإحتفال بالإنتصارات أو بعض المناسبات الخاصة. أما المخاطب في المتن هي المرأة/الشيخة التي تطلب من أحد الحاضرين في جلسة السمر الفنية بأن يحضر لها معه من مدينة الصويرة "حْمَالَةْ"، وحدد لونها في"اَلزِيتِي"، وهو لون سبق أن تحدثنا عن مميزاته وجماليته المثيرة تحت أشعة الضوء. ويتضح أن الهدف من طلب إحضار حزام "حْمَالَةْ" مرتبط بالجلسة الفنية التي من علاماتها "اَلدْبُوحْ"، بمعنى أن توظفها المرأة/الشيخة من أجل شَدْ و جمع أطراف القفطان الباذخ بصناعته التقليدية أثناء الرقص والحركة والغناء على إيقاع ونغمات صوت أوتار "اَلْمَصْرَانْ" آلة الكمان الروحية والمؤثرة.