عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن مكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (16)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن مكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (16) مشهد لرياض بمراكش يتوسط حسن الزرهوني والزميل أحمد فردوس(يسارا)
تواصل جريدة "أنفاس بريس"فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي شعر الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم (ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم (ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْوٌرِيتَاتْ"، والتي نحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في الحلقة السادسة عشر، في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

 

في رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ" أنشد الشاعر/الناظم العبدي في المتن الإنتقالي من الجزء السابع إلى الجزء الثامن من القصيدة قائلا:

 

وَيْلِي يَيْلِي، مَالْ حْبِيبِي، مَالُو عْلِيًا مَا بِيدِي مَا نْدِيرْ

دَابَةْ رَبٍي يَعْفُو عْلَى عْبَادُو وَالنًاسْ اَلْحَاضْرِينْ

وأضاف في متن آخر

أَ بَابَا بْلَالْ حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْـدَالْ

عَبْدْ اَلمْجِيدْ حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ

اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ رَاهْ لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ

اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ بِيعْ لَبْغَيْلَةْ وَآجِي تْـﯖِيسْ

سِيدِي طْغَى، يَحْكَمْ عْلِيًا بِاللٍي بْغَا

هذا المتن الشعري أساسي و موجود ويتغنى به البعض، وشيوخ آخرون يضيفون أبيات أخرى لنفس العيطة ولكن في اعتقادي الشخصي "أعتبر أن هذا المتن في الجزء الثامن من القصيدة واضح ويتناسب مع مضمون وسياق عيطة (بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثًلَاثْ)". يوضح الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني. الذي أكد على أن "نفس المتن الشعري يتغنى به الشيوخ ونجده متداول في عيطة (اَلرًاضُونِي)، هذه العيطة التي لا يعتبرها ضيف الجريدة "أُمْ لَعْيُوطْ" كما يحلو للبعض أن يصفها حيث يوضح على أن "عيطة الراضوني هي حصيلة لمجموعة من العيوط العبدية مثل عيطة (رْجَانَا فِـِ اَلْعَالِي) و (اَلْعَمًالَةْ) و(هَنِينِي هَنِينِي) و (حَاجْتِي فِـﯕْـرِينِي)...".

على مستوى الغناء والإيقاع أوضح حسن الزرهوني بأن المستمع/المتلقي للعيطة يستشف "بأن هذا المتن يؤدى بإيقاع حمدوشي وسط العيطة، (نسبة للزاوية الحمدوشية بفاس)، علما أن الإيقاع الحمدوشي يمتاز بتعدد الإيقاعات المعقدة والعصية، وقد تم توظيفه في عدة عيوط عبدية مثل عيطة (رْجَانَا فِـ اَلْعَالِي) و (سِيدِي أَحْمَدْ) و (اَلرًاضُونِي)".

في نفس السياق قال حسن الزرهوني بأنه "لاحظ بأن شيوخ العيطة يصعب عليهم إتقان الإيقاع الحمدوشي المعقد والصعب، حيث يوضع الشعر أولا ثم يتبعه الإيقاع (الكلام يسبق الإيقاع) باستثناء شيوخ منطقة جمعة سحيم نذكر منهم الشيوخ: ( البدري، وبن خدوج، وعبد الرحمن الترين (لبصير)، والنزيلي رحمة الله عليهم، والشيخ عمر بن هدي أطال الله في عمره، أما الشيوخ الآخرين مثل الشيخ الدعباجي وإبراهيم بيهي، وعبد السلام لكحل، والعيساوي وبوشعيب ولد خديجة، والعربي لكحل رحمة الله عليهم، والشيخ ميلود الداهمو أطال الله في عمره فإنهم يعزفون عيطة "اَلرًاضُونِي" بإيقاع حمدوشي بسيط (2على 1) ثم ينتقلونلإيقاع يشبه عيطة "هَنٍينٍي هَنٍينٍي" (2 على 2 على 3 على 1). ولاحظ ـ ضيف الجريدة ـ في سياق حديثه عن الإيقاع أن هناك مقطعا صغيرا في عيطة "اَلرًاضُونِي" يشبه لعيطة "حَاجْتِي فِـﯕْرِينِي". ثم ننتقل إلى الإيقاع السوسي/الأمازيغي المعروف بـ (8 على 6)، أما بخصوص الإيقاع الحوزي فيستعمل عند بلوغ "اَلْقَطِيبَاتْ" التي تحمل آهات (بكاء)، ويؤدى غنائيا هذا المتن في عيطة "اَلرًاضُونِي" على شكل "تَعْدَادْ" أو رثاء، وبلغة الشيوخ نقول "تْهَيْدِيلْ"، وسمي بالإيقاع الحوزي على اعتبار أن شيوخ حوز مراكش هم الذين اشتهروا به.

جاء في المتن العيطي قول الناظم (ة) :

"بَابَا بْلَالْ، مُولْ اَلْقُبًةْ وُاَلدْلَالْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْدَالْ

عَبْدْ الَمْجِيدْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ... وَهْيَا وَهْيَا

هَذَا اَلرًقًاصْ مُولْ لَعْيُونْ

وجاء هذا المتن في عيطة "اَلرًاضُونِي" على النحو التالي:

 

"بَابَا بْلَالْ، مُولْ اَلْقُبًةْ وُاَلدْلَالْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْدَالْ

عَبْدْ الَمْجِيدْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ اَلجْرِيدْ... وَهْيَا وَهْيَا

هَذَا اَلرًقًاصْ مُولْ لَعْيُونْ

وجاء هذا المتن في عيطة "اَلرًاضُونِي" على النحو التالي:

"أَلًالَةْ خَلًا عْلَامُو فِـ اَلجْرِيدْ

أَسِيدِي خَايْلْكُمْ زَاهْيِينْ اَلْيُومْ

مْشَاتْ اَلْخَيْلْ وُجَاتْ سَالْمَةْ يَا سِيدِي

حَاوْزْكُمْ زَاهْيِينْ اَلْيُومْ

اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ رَاهْ لَحْكَامَةْ حَدْهَا اَلْبَابْ

أَهْيَا وَاهْيَا هَذَا عَارِي مَرْسُولْ لِيكْ

اَلْبَاشَا إِدْرِيسْ، بِيعْ لَبْغَيْلَةْ وَآجِي تْـﯖِيسْ

هَاذِي لِيلَةْ وْدِيكْ لِيلْةْ، وَاَللٍيلَةْ خْيَرْ مَنْ اَلْبَارَحْ

بَرْحَتْ لًوْلَى اَلًلهَ يَنْصَرْكُمْ يَا صْحَابْ اَلسْرَاتَةْ

يَا وَعْدْ اَلًلهْ.

في هذا المتن العيطي استعمل الشاعر/الناظم عدة صور ومشاهد، ووظف مفردات وأسماء وكلمات بغرض الإحالة على بعض الشخصيات و الفضاءات والأماكن وارتباطها بطقوس وعادات المخزن ونساء و رجال القبيلة، وكيفية الإحتفال بالنصر عند رجوع الفرسان المحاربين من عمليات إخماد الإنتفاضات والتمردات.. وتحديدا خلال نهاية القرن التاسع عشرة وبداية القرن العشرين.

يقول ضيف الجريدة: "يعكس هذا المتن صورة الإحتفال بالإنتصارات في الحروب وضد التمردات والمواجهات، حيث كان يتم تنظيم ليالي السمر والإحتفال بالنصر "هَاذِي لِيلَةْ وْدِيكْ لِيلَةْ "، وكلما كان التتويج بالنصر حليفا للفرسان والمحاربين إلا وكانت ليلة الإحتفال بالنصر تتميز عن السابقة "وَاَلِليلَةْ خْيَرْ مَنْ اَلْبَارَحْ"، كون الخيول والفرسان ذهبوا في سلام وعادوا في سلام "مْشَاتْ اَلْخَيْلْ وُجَاتْ سَالْمَةْ يَا سِيدِي"، بمعنى أن خيول وفرسان المحاربين ضمن كتائب اَلْحَرْكَاتْ سواء الكبرى رفقة السلطان المولى الحسن الأول، أو الصغرى بقيادة القائد عيسى بن عمر البحتري العبدي لإخماد تمردات القبائل..".

تجدر الإشارة إلى أنه عندما انتقلت العيطة العبدية ومنها عيطة "بِينِ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ" إلى منطقة الشاوية، لم يتم الحفاظ أثناء الغناء على كل أجزاء العيطة، بل تم الإقتصار على غناء بعض الأجزاء مثل ما قام به الشيخ محمد لحريزي، ورائدات فن العيطة بمدينة الدار البيضاء مثل الشيخات اَلْعَرْجُونِياَتْ والشيخة الحاجة اَلرْوَيْضَةْ، والشيخة اَلزْرَيْـﯖَـةْ، والشيخة الحاجة راضية، والشيخة بَضَنِي، والشيخة بنت لَوْقِيدْ، والشيخة الوالدة، والشيخة لـَﯖْرِيحَةْ، والشيخة خدوج بنت لَمْعَاشِيَةْ وأخريات عديدات.

في سياق متصل يؤكد حسن الزرهوني على أنه استمع لتسجيل صوتي (أسطوانات بوليفون) بصوت الشيخة أمينة والشيخ السرغيني في أداء للجزء السابع من عيطة (بِينْ اَلجًمْعَةْ وُ اَلثْلَاثْ) بهذا الشكل:

"بَابْ أَﯕْدَالْ ، مُولْ اَلْقُبًةْ وَالدْلَالْ، حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْدَالْ، اَلِليلَةْ نْبَاتُو فِـ اَلرْيَاضْ".

ولتوضيح بلاغة ومدلول هذا المتن العيطي في ساق تفكيك وتحليل الجزء الثامن من العيطة موضوع الملف الإعلامي، نؤكد على أن الشاعر استعمل خطاب العنصر النسوي، على اعتبار أن المرأة/الحبيبة هي التي تلتمس فتح باب الرياض "حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْدَالْ".

إن أصل كلمة "أﯕدال" أمازيغي، ويعني المنتزه أو البستان أو حقل مرعى الماشية، وأطلق هذا الإسم على المنتزه الفسيح بمراكش الذي شيد على مساحة 500 هكتار بالقرب من المدينة القديمة، وتم تأسيسه سنة 1163م، على إثر انتصار الخليفة الموحدي عبد المون بن علي الـﯕومي على الإمبراطورية المرابطية. ويضم المنتزه عدد كثير من النخيل وأشجار الزيتون والأشجار المتمرة والعديد من البرك المائية، وصهريج..وكان يستقطب سنويا خلال موسم فصل الصيف عدد هائل من الطيور المهاجرة النادرة.

يقع المتنزه بالقرب من المدينة القديمة بمراكش، حيث يوجد قصر البديع ومسجد الكتبية وحدائق المنارة والقصر الملكي القديم أو قصر دار المخزن الذي شيده السلطان محمد بن عبد الله في القرن 18، وتمت توسعة القصر من طرف المولى الحسن الأول وأضاف إليه مرافق وبنايات خاصة بِالنْزَاهَةْ تطل على جبال الأطلس وحدائق أﯕدال التي كان يخصص جزء منها لرعي الخيول وترويضها داخل مياه الصهريج حتى تستأنس وتتأقلم مع الفرسان في حالة نشوب مواجهة وسط الأودية التي تعبرها جيوش السلطان الحسن الأول أثناء إخماد الإنتفاضات في إطار الحركات السلطانية التي عرف بها الحسن الأول.

بدوره كان القائد عيسى بن عمر العبدي يمتلك رياض كبير بمنطقة "لَمْوَاسِينْ" بالمدينة القديمة، والذي استولى عليه القائد اَلْبِيًازْ باعتباره اليد اليمنى للباشا لـﯕلاوي، (استولى عليه) حين تم نفي القائد عيسى بن عمر إلى مدينة سلا سنة 1914، من طرف الإستعمار الفرنسي. وكان يمتلك أيضا رياض آخر بالمدينة القديمة وهو الذي تم تحويله لمستشفى بعد نفيه حيث صودرت ممتلكاته.

وقد تطلب تشييد رياض عيسى بن عمر بالمواسن مبالغ مالية طائلة، حيث كانت للرياض شرفة تطل على حدائق أﯕدال وعلى جبال الأطلس، لأنه كان قائدا يعيش عيشة الملوك والسلاطين في تلك الفترة التاريخية، له ممتلكاته وجيوشه وحاشيته والعديد من الخدم والحشم، أي أنه كان داخل قصبته يشبه وينافس السلطان.

كان القائد عيسى بن عمر يحل برياضه كلما نزل بمراكش، وكان أولاده كذلك ينزلون بنفس الرياض من أجل الراحة والنوم (إدريس أو أحمد أو العياشي، والعربي، و سي محمد) والذين تقلدوا مناصب ومهمات بالمخزن المركزي أو المحلي، وكان من بين حراس الرياض في تلك الفترة الحارس "بْلَالْ"، رجل أسود السحنة وهو الذي قال فيه المتن العيطي"بَابَا بْلَالْ مُولْ اَلْقُبًةْ وُالدْلَالْ حُلْ عْلِيًا بَابْ أَﯕْدَالْ".

إن المتكلم في المتن الشعري عنصر نسوي، وهي الأنثى التي خاطبت الحارس بلال، قد تكون إحدى عاشقات القائد أو خليلة أحد أبنائه، على اعتبار أن القائد وأولاده كانوا ينتقلون لمدينة مراكش لتقديم فروض البيعة أو حمل الهدايا خلال المناسبات الدينية (عيد الفطر، عيد الأضحى، المولد النبوي..) أو خلال مناسبات استثنائية في إطار زيارات خليفة السلطان أو أثناء تواجد السلطان بمراكش.و كانت الرحلة لمراكش تستغرق ثلاثة أيام على متن صهوة البغال و الخيول وعند الوصول كان الموكب يحتاج لقسط من الراحة والخلوة للنوم وفي اليوم الموالي عند حضور القائد للمراسيم تأتي الخليلة لتنادي وتطلب من الحارس بلال "مُولْ اَلْقُبًةْ وَالدْلَالْ" بمعنى هو المكلف بتجهيز وتأثيث القبة وترتيبها وتهيئ الجلسات الفنية واستقبال المدعوين والمدعوات، بل أن الشاعر/ الناظم وصف الحارس في المتن الشعري بـ "اَلدًلَالْ" لما يتصف به من حس فكاهي وشخصية مرحة ومتخصص في تدليل العنصر النسوي المؤنس للقائد أو أحد أبنائه.