عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (13)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (13) الفنان حسن الزرهوني (يسارا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي شعر الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم (ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في سلسلة حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم (ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي نحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في الحلقة الثالثة عشر، في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

في الحلقة الثالثة عشر سننتقل إلى الجزء الرابع من قصيدة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ اَلسًكًةْ حَبْسَاتْ وُرِيتَاتْ"، لتحليل وتفكيك المتون الشعرية التي تناول فيها الشاعر/الناظم من جديد علاقته العاطفية مع "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي"، والتي حُكِمَ عليها بالفشل جراء رفض والدها تزويجها لحبيبها العاشق الولهان وتفضيل أحد الأعيان للزواج بإبنته عائشة.

"أَنْتٌومَا أَنْتُومَا، أَنْتَومَا قَوْمْ عَطًابَةْ

لَازَمْنِي مَا نَشْكِي بِيكَمْ

لَازَمْنِي مَا نْقِيلْكُمْ، أَنْتُومَا عَدْيَانِي

بَنْتْكُمْ مَازَالْ صَغِيرَةْ، وَأَنَا اَلْحُبْ جْلَانِي

نُوضُو نُوضُو، نُوضُو عَاوْنُوا خُوكُمْ

خُوكُمْ طَايْحْ سَكْرَانْ فِـ فُمْ بَابْ الدٍيوَانَةْ

السًلْسْلَةْ وُالْمَاﯖَـنَةْ، وُقْرَيْعَةْ اَلسٍيبْيَانَةْ

أَلَبَاسْ أَلَبَاسْ"

في هذه المتون العيطية من رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"، يعود الشاعر لتذكير المتلقي/المستمع مجددا بفشل علاقته العاطفية مع حبيبة قلبه عائشة، بل أنه يوضح بأن العلاقة بين عائلة "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي" وبين عائلة العاشق/الشاعر/ فارس أحلامها لم تعد على طبيعتها الإجتماعية والإنسانية رغم قرابة الدم بينهما، ولم تتوصل العائلتين إلى إقامة الصلح وإصلاح وترميم جسور الود بينهما بسبب قرار و موقف الرفض الذي تبناه "اَلْمَكٍي" دون مراعاة لأحاسيس ومشاعر الحبيبين.

إن الشاعر/العاشق أكد في هذه المتون على أن العداوة نشبت واشتد الخصام بين العائلتين بسبب موقف "اَلْمَكٍي" حيث أشار إلى ذلك من خلال وصفه لعائلة عائشة ابنة المكي بـ "اَلْقَوْمْ اَلْعَطًابَةْ"، ووجه شكواه لله بعد أن إستنفذ جميع محاولات الصلح وإعادة العلاقات الإجتماعية والإنسانية والتواصلية والعاطفية إلى سيرتها الأولى، الشيء الذي جعله يندفع بشراهة نحو مقارعة كؤوس الخمر لعله يقتنص فرصة لنسيان عذابات الحب وفراق الحبيبة التي هزت كيانه وخطفت عقله وعصفت بمشاعره.. إلى درجة الإدمان وتعوده على التردد بشكل يومي على ميناء أسفي للحصول على بعض أنواع الكحول "اقْرَيْعَةْ اَلسٍيبْيَانَةْ" (نوع من الجعة) التي كانت توزع وتباع بساحة الديوانة مثلها مثل جميع السلع التي تعج بها الساحة. إذ كانت الأشغال في تلك الفترة على قدم وساق لبناء الميناء الجديد بين سنة 1942 وسنة 1955. وقد إستعمل الناظم/الشاعر أسلوب النداء أو الإستغاثة في العيطة لينبه المتلقي/المستمع إلى وضعه المتأزم نفسيا وحالة إدمانه على الخمر بقوله: "نُوضُو نُوضُو، نُوضُو عَاوْنُوا خُوكُمْ، خُوكُمْ طَايْحْ سَكْرَانْ فِـ فُمْ بَابْ الدٍيوَانَةْ، السًلْسْلَةْ وُالْمَاﯖَـنَةْ، وُقْرَيْعَةْ اَلسٍيبْيَانَةْ، أَلَبَاسْ أَلَبَاسْ".

لمحة تاريخية عن "اَلدٍيوَانَةْ" بميناء أسفي

لقد كانت الديوانة تلعب دورا مهما في المبادلات التجارية، سواء في تلك الفترة التاريخية أو قبلها، حيث عرف ميناء أسفي نموا ملحوظا خلال العهد المرابطي والموحدي لقربه من العاصمة مراكش، حيث توطدت العلاقات التجارية بين أسفي ومراسي الجنوب، والشمال، ثم الأندلس، وخلال القرن الرابع عشرة عرفت أسفي حركة تجارية، إذ أصبحت مستهدفة من طرف التجار المسيحيين.

وخلال القرن الخامس عشرة وبداية القرن السادس عشرة تم غزو أسفي من طرف البرتغال بعد انحطاط الدولة المرينية، وازدهرت المبادلات التجارية بين أسفي والمدن التابعة لحاضرة الإقتصادية البرتغالية وتحولت الطرق التجارية من اليابسة إلى المحيط وتم تنظيم عملية المبادلات التجارية بساحل الذهب وأصبحت حاضرة المحيط تلعب دورا إقتصاديا رئيسيا في التجارة الملكية حيث يعتمد البرتغال على الأنسجة الصوفية والحبوب المغربية مقابل الحصول على التبر من السودان الغربي ( مملكة السنغاي ومالي وغانا) .

في هذه المرحلة تم إحداث مقر الجمارك/الديوانة التي كانت تسمى "ﭭِيتُورِيَةْ"، لإستخلاص الرسوم الجمركية على السلع سواء الصادرات أو الواردات (السمغ الهندي والحياك والحنابل والعبائن والشمع والأثواب والحبوب والخيول والفضة والكبريت والزيوت ...). بإحداث مقر الجمارك/الديوانة ارتفع منسوب المداخيل التي حازها المسؤولون البرتغاليون بمرسى أسفي طيلة احتلالهم للمدينة إلى غاية خروجهم سنة 1541.

عرفت مرسى أسفي توقيع معاهدات سنة 1631 و 1635 في عهد المولى علي الشريف العلوي بين المغرب ولويس الثالث عشر، وبدأ التجار الأوروبيون يستقرون بالمرسى ونشطت المبادلات التجارية بين أسفي وفرنسا وهولاندا وإنجلترا ومن بعد ألمانيا. وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشرة توسع مقر الديوانة، وأصبح يترأسها أمين مكلف بتحصيل الرسوم الجمركية وأداء المصاريف المتعلقة بالموظفين والأعوان، والمصاريف المرتبطة بالمصلحة التي تشرف على إدارتها، ويؤدي كذلك جميع المصاريف المرخصة من طرف المخزن.

وقد كان أمين الديوانة تابعا لأمين الأمناء الذي ينسق بينهم عن طريق المراسلات، ويتخذ الأوامر والقرارات في تسييره لهذا المرفق مجموعة من العدول المعينين من طرف قاضي بأمر من السلطان.

ومن بين اليد العاملة بالمرسى نجد "اَلْوَزًانُونْ" الذين يقومون بعملية وزن السلع وحراس الأبواب ورجال الفرقة ..كلهم تؤدى أجورهم من مداخيل السلع الوافدة على الميناء.

ويعتبر أمين الديوانة وعماله هم عين المخزن على التجارة من خلال عملية المراقبة والتوثيق والتسجيل واستخلاص كل الرسوم على الصادرات والواردات بالمرسى. وكانت كل المداخيل من الأموال تستثمر في التجارة لإعادة تسويقها في السوق التجارية وتسلم للمخزن المركزي، حيث يراقبون البضائع المستوردة والمصدرة ومنع دخول وخروج بعض البضائع والسلع التي تحرم تجارتها كالأسلحة والتبغ والخمور..وكان يتم مصادرة البضائع الممنوعة. وكانت الرسوم الجمركية تؤدى بالديوانة عن الواردات وتمسى بـ (اَلْأَعْشَارْ) وعن الصادرات تسمى بـ (اَلصًاكًا)، وتضاف إليها كذلك واجبات رسوم (اَلْمُخْطَافْ) المتعلقة برسو السفن بالميناء.

بعد دخول فرنسا واحتلالها للمغرب، بدأت بعض الأشغال بالميناء الجديد مثل بناء محطة (اَلْبَرْكَاسَاتْ) وهي مراكب كبيرة الحجم تتحرك بواسطة التجديف للوصول للسفن الراسية من أجل تحميل السلع المحملة. هذه المحطة تم تشييدها على مساحة 4 هكتارات لكنها تطورت إلى ميناء كبير بعد اكتشاف الفوسفاط بمدينة (لويس جانطي) اليوسفية حاليا، حيث تغيرت الرؤيا وقامت فرنسا ببناء ميناء قادر على استقطاب سفن من الحجم الضخم منذ 1923، وانتهت أشغاله سنة 1938، وبعدها انطلقت أشغال أخرى سنة 1942 وأستمرت إلى غاية سنة 1955، وتمثلت في تمديد الرصيف الرئيسي وبناء رصيف جديد.

تعتبر ساحة الديوانة المتواجدة بجانب مرسى أسفي (قرب ضريح الولي الصالح سيدي بوذهب) هي المكان المخصص لوضع مختلف السلع وتنظيمها سواء تلك المقبلة على التصدير أو التي تم استيرادها من أجل إحصائها وإخضاعها للرسوم الجمركية، وكان جزء من هذه الساحة يخصص لتوقف الحيوانات والعربات المستعملة لنقل البضائع وسمي الحي المطل على ساحة الديوانة بـ (درب الديوانة) وهو درب طويل يمتد من سيدي بوذهب إلى السور البرتغالي الشمالي واشتهر بوجود عائلات يهودية كعائلة يسوعا و خنافة وشمعوني وكوهن و أطلق على هذا الدرب إسم (أَهْلْ اَلدٍمَةْ اَلتًحْتَانِي) في حين كان درب آخر يهودي يسمى (أهل الدمة الفوقاني) والذي يؤدي إلى باب الشعبة.

اشتهر هذا الدرب بالصناعة التقليدية ومحل لبيع ماء الحياة والخمور، لصاحبه اليهودي "جِيرِينِي"، ودكاكين أخرى مختصة في بيع منتوجات استهلاكية بسب تواجدها بالقرب من المرسى وتوافد العديد من الفلاحين والتجار المغاربة والآسفيين من جميع الأماكن المحيطة بالمدينة قصد ترويج منتوجاتهم المختلفة.

غرض الشاعر من إنشاد : "...السًلْسْلَةْ وُالْمَاﯖَـنَةْ، وُقْرَيْعَةْ اَلسٍيبْيَانَةْ، أَلَبَاسْ أَلَبَاسْ".

في هذه الفترة وعلاقة بموضوع "الديوانة" كان العاشق/الناظم لعيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلاَثء" قد انغمس في الاستمتاع بملذات الحياة، وتعاطيه لشرب الخمر لنسيان محبوبته والجراحات التي تسبب فيها الفراق وعذابات الحب، حيث صور الشاعر هذا المشهد من خلال إنشاده: " نُوضُو نُوضُو، نُوضُو عَاوْنُوا خُوكُمْ، خُوكُمْ طَايْحْ سَكْرَانْ فِـ فُمْ بَابْ الدٍيوَانَةْ". وفي الشطر الأخير من هذا المتن يوضح الشاعر بأن العاشق كان أنيقا بهندامه ويبدو شخصية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة من خلال وصفه "السًلْسْلَةْ وُالْمَاﯖَـنَةْ"، وهي إشارة الغرض منها التركيز على مرتبته الإجتماعية لأن اَلْمَـﯖَانَةْ / الساعة ذات السلسلة التي توضع في الجيب وتظهر سلسلتها الفضية أو الذهبية هي علامة على انفتاح الناظم/الشاعر على موضة تلك الفترة التاريخية ..فضلا عن حضور علامة ونوع الخمر الذي يحتسيه المتيم بحب عائشة من خلال قوله "... وُقْرَيْعَةْ اَلسٍيبْيَانَةْ". وهو مشروب كحولي من نوع الجعة والتي كان يتم تصنيعها بمدينة إشبيلية بإسبانيا، لهذه الإعتبارات فقد توفق الناظم/ الشاعر في رسم ملامح شخصية العاشق حينما قال بأنه يستعمل ساعة بالسلسلة ويشرب جعة سيبيانة، لكي يؤكد على أنه كان عاملا بمرسى أسفي .