عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (10)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها  (10) الفنان حسن الزرهوني (يسارا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

أغلب الأدباء يتفقون على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم (ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نقدم في هذه السلسلة من حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم (ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي سنحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

فهل توفق الناظم/ الشاعر في وصف الحبيبة/المرأة الفاتنة التي كانت سببا في معاناته، وهل صاغ متونه الشعرية وكلماتها وصورها البلاغية بنفس يعكس حجم عشقه للمحبوبة في زمن غير زماننا، وأسئلة أخرى سنجيب عليها في الحلقات المتتالية؟

إن الشاعر/الناظم لقصيدة عيطة "بِينْ اَلْجَمْعَةْ وَالثْلَاثْ، اَلسًكَةْ حَبْسَاتْ وَرِيتَاتْ" التي تعد أرقى تعبير في الغناء الشفهي العيطي بمنطقة عبدة على مستوى شعر الغزل العذري، قد أفلح في تبليغ رسالته لتوضيح الأسباب التي أعدمت علاقته الغرامية وحكمت عليها بالفشل وأدت به إلى الإنهيار النفسي والمعنوي...وأشياء أخرى جاءت على لسان حسن الزرهوني؟

في الحلقة العاشرة من ملف "العزل في شعر العيطة العبدية"، سنتناول بالدرس والتحليل تفكيك مضمون المتون الشعرية التي وردت في الجزء الثالث من قصيدة ذات العيطة. لتصحيح بعض المعطيات المتداولة وإبراز تمكن الشاعر من لغته الشاعرية لوصف وضعيته وحالته الصحية وعذابات فراق عائشة.

سنلج في هذه الحلقة للجزء الثالث من قصيدة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" للإنتقال لتحليل وتفكيك المتون العيطية التي قال فيها الشاعر/الناظم:

"آلَالًةْ مَا بِينْ اَلجًمْعَةْ وُمَا بِينْ اَلجْمُوعْ

تَمًةْ سَالُوا شلاً دْمُوعْ

أَيْلِي أَيْلِي..اَلٍلي غَادْيَاتْ، اَلٍلي جَايًاتْ

اَلًلهْ يْصَاوَبْ اَلزْمَانْ

مَا يْكُونْ بَاسْ أَسِيدِي

اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ، اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ

اَلْكِيًةْ فَضًةْ وُلْوِيزْ

بْلِيتِينِي وَشْطَنْتِينِي، وَاشْ لَمْحَبًةْ، وَلًاتْ عْدَاوَةْ

مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي

ﯖُـولُو يْبَانْ، ﯖُـولُو يْزِيدْ، مَا بْقَى عْلِيًا تَقْلِيدْ

مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي

أَيْلِي أَيْلِي..اَلٍلي غَادْيَاتْ، اَلٍلي جَايًاتْ

مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي

إِلَا كُنْتِ عِيسَاوِي دِيرْ ﯖُـطًايَةْ وُ جَدًبْنِي فِـ حَالِي

أَيْلِي أَيْلِي..اَلٍلي غَادْيَاتْ، اَلٍلي جَايًاتْ

مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي"

بتفحصنا ومعالجتنا لهذا المتن الضاج بالرسائل والإشارات، والذي يحيل على حمولة عاطفية، ورسم معاناة الحبيب النفسية بدقة غاية في إبداع سهل وممتنع، حيث يقول فيه: "آلَالًةْ مَا بِينْ اَلجًمْعَةْ وُمَا بِينْ اَلجْمُوعْ، تَمًةْ سَالُوا شلاً دْمُوعْ، أَيْلِي أَيْلِي..اَلٍلي غَادْيَاتْ، اَلٍلي جَايًاتْ، اَلًلهْ يْصَاوَبْ اَلزْمَانْ، مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي".

نستشف ونستخلص بأن الناظم لا يتكلم هنا عن المجال الجغرافي، ولا يريد أن يتحدث عن المنطقة بذكره في شطر البيت الشعري "مَا بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالجْمُوعْ"، لأنه لا يقصد منطقة جمعة سحيم أو غيرها، خصوصا أننا لم نعثر بين دواوير جمعة سحيم أو ثلاث بوﯖدرة أو جماعة اَلشًهْدَةْ المتاخمة للمنطقة على أي دوار يحمل إسم "اَلجْمُوعْ".

إننا نخالف الرأي القائل بأن كلمة "اَلجْمُوعْ" قد اشتقت من إسم الأراضي السلالية أي أراضي الجموع، وهي فكرة خاطئة، بحكم أننا لا نجد قطعا أي أراضي الجموع بالمنطقة سواء بجمعة سحيم أو بثلاث بوﯖدرة وحتى بالنسبة لجماعة اَلشًهْدَةْ ، بل أننا لا نجد سوى أراضي فلاحية خصبة شاسعة الأطراف في ملكية الخواص. حسب ضيف الجريدة، الذي شدد على أن الشاعر/الناظم يتحدث في هذا المتن العيطي عن "عامل الزمن" ورتابة الوقت القاتل في تكرار مشهد الوقوف على الأطلال وانتظار الحبيبة بمقبرة سيدي مبارك بوﯖدرة كل يوم جمعة.

في هذا السياق يوضح الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني قائلا: "لقد أصبحت صورة الحبيبة (عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي) لا تفارق ذهن الشاعر/الناظم، بل أضحت جزء لا يتجزأ من كيانه وفكره ، حيث كان ينتقل كل يوم جمعة إلى مقبرة سيدي مبارك بوﯖدرة متوسلا لقاء الحبيبة، وكان وقوفه على الأطلال وطول الإنتظار وعدم ظفره بفرصة اللقاء، واشتياقه لنظرة المحبوبة وجمالها سببا في دخوله في نوبة بكاء طويلة، يذرف دموعا ساخنة ممزوجة بألم الفراق وحسرة الإشتياق وهو في حالة ترقب للذي يأتي أو لا يأتي..". لهذه الأسباب وجه الشاعر/الحبيب الواقف على الأطلال نداءه للنساء الوافدات على المقبرة يوم الجمعة وهو يترقب حضور "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي" رفقتهن بقوله: " اَلٍلي غَادْيَاتْ، اَلٍلي جَايًاتْ، اَلًلهْ يْصَاوَبْ اَلزْمَانْ، مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي".

إن المعاناة و الأزمة النفسية الحادة التي هزت مشاعر الناظم/الحبيب جراء رفض "اَلْمَكٍي" ربط قرانه مع ابنته "عَايْشَةْ"، حولته إلى عاشق ولهان، تراوده أفكارا غير واقعية، باحثا عن طوق النجاة من أزمته وحزنه وبكائه، إلى درجة تراقص صور الحبيبة في ذهنه، وتخيل طيفها يمشي أمامه وهي تلج المقبرة كل يوم جمعة لزيارة لحد والدتها رفقة جماعات من النساء، ويمعن النظر في كل الوافدات لعله يعثر على حبيبته بين جموعهن، لكن للأسف دون جدوى..

لقد عاش شاعرنا العبدي موقف الإنتظار والترقب على إيقاع خفقان قلبه، والوقوف على الأطلال مرات عديدة كل يوم جمعة وسط مقبرة سيدي مبارك بوﯖدرة، و كان ينتظر قدوم الحبيبة عائشة بلهفة لزيارة قبر أمها، هي التي تزوجت من أحد أعيان القبيلة، واختطفت منه عنوة، دون مراعاة لعلاقتهما العاطفية التي يذرف الدموع على فراقها وغيابها.

إن استعمال تعبير العامل الزمني من خلال قول: "مَا بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالجْمُوعْ"، يقصد به الشاعر تحديدا يوم زيارة المقبرة المألوف التي يصادف كل يوم جمعة، كمحطة للوقوف على صورة الحبيبة الغائبة جسديا والحاضرة ذهنيا... ومعنى كلمة "اَلجْمُوعْ" في سياق العيطة يعني جمع ليوم اَلْجُمُعَةْ، على اعتبار أن الحبيب/الناظم كان مداوما على زيارة المقبرة كل يوم جمعة، وتوالت أيام الجمعة دون أن يظفر بلقاء الحبيبة فأنشد قائلا: "آلَالًةْ مَا بِينْ اَلجًمْعَةْ وُمَا بِينْ اَلجْمُوعْ، تَمًةْ سَالُوا شلاً دْمُوعْ". ومع فقدان الأمل في اللقاء أنهى المتن العيطي بقوله: " اَلًلهْ يْصَاوَبْ اَلزْمَانْ، مَا يْكُونْ بَاسْ أَسِيدِي".

يقول الناظم أيضا في رائعة عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" في متن أخر بلغة غاية في وصف قيمة حبه ووفاءه: "اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ، اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ، اَلْكِيًةْ فَضًةْ وُلْوِيزْ، بْلِيتِينِي وَشْطَنْتِينِي، وَاشْ لَمْحَبًةْ، وَلًاتْ عْدَاوَةْ، اَلًلهْ يْصَاوَبْ اَلزْمَانْ، مَا يْكُونْ بَاسْ يَا سِيدِي"

فلا غرابة أن يناشد في هذا المتن العيطي الشاعر/الناظم حبيبته عائشة، التي إحترق بلهيب حبها، ويعطي قيمة عالية للتعبير عن حبه الذي شبهه بالمعادن الثمينة مثل الذهب والفضة كعناصر نفيسة حاضرة في الثقافة الإجتماعية والإقتصادية.. "اَلْكِيًةْ فَضًةْ وُلْوِيزْ"

إن معدن الفضة يعتبر أكثر المعادن التي تتعرض للطرق والسحب، وأكثرها توصيلا للحرارة والكهرباء، ورمز الفضة كيميائيا هو (AG). وقد استعملت كعملة منذ العصور القديمة، إذ ظهرت الفضة في كل من تركيا واليونان واستخدمتها شعوبهما كمادة قوية للقضاء على المواد الضارة في الماء بوضع قطعة معدنية فضية في الماء وعند تحريكها يتعرض جزء منها إلى الذوبان.

ويتحدث الشاعر العبدي أيضا عن معدن الذهب الذي استعمل في صناعة "اَلْلوِيزْ"، وهو معدن ثمين ويعد من العناصر الكيميائية التي لها عدد ذري هائل، حيث يتم خلط الذهب مع عناصر أخرى ويمتاز بكثافته ولونه اللامع والبراق، وهو من أكثر المعادن ليونة، ويتواجد في الرواسب النهرية ورواسب الصخور، وله قيمة اقتصادية ثابتة نظرا لتأثيره على السياسة النقدية. ويعتبر الذهب من العناصر القابلة للطرق ويمزج غالبا مع خليط الفضة والنحاس ليشكل السبائك، وهو معدن غير قابل للتآكل ويمتاز بوزنه الثقيل وأشعته الكهرومغناطيسية و أشعة تحت الحمراء.

وقد تفنن في صناعة "اَلْلوِيزْ" النحات الفرنسي "جُونْ ﭫَـاِرينْ" الذي كان نحاتا ومديرا لدار السكة التي أقيمت في متحف اللوﭫر. حيث دخلت هذه العملة تدريجيا إلى المغرب عن طريق الجاليات الفرنسية بعد ضعف المخزن المركزي خصوصا أثناء انهزام المغرب في معركة إيسلي سنة 1844، ومعكرة تطوان سنة 1860، بحيث كانت هذه العملة وسيلة من وسائل الإغراء من طرف الفرنسيين في معاملاتهم التجارية وفي علاقاتهم الإجتماعية مع الأسر المغربية سواء في دائرة المخزن المركزي أو المخزن المحلي كهدايا نفيسة ذات قيمة مالية كبيرة.

إن تشبيه الشاعر لحبه/ "اَلْكِيًةْ" (اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ، اَلًلهْ يَا لَعْزِيزْ، اَلْكِيًةْ فَضًةْ وُلْوِيزْ)، بالمعادن الثمينة يروم من وراءه، إضفاء قيمة كبيرة لعلاقته العاطفية الفاشلة مع "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي"، كدلالة تحيل على القيمة الرمزية لمعدن الذهب والفضة النفيسين في الثقافة الشعبية، بحكم استعمالهما على شكل حلي ومجوهرات لزينة المرأة سواء وضعت نفائسها على العنق أو على الصدر وفي الأذنين والمعصم (خواتم ودملج وأقراط وسلاسل...).

وينهي المتن بوضعه سؤال حارق ومقلق بالقول: "بْلِيتِينِي وَشْطَنْتِينِي، وَاشْ لَمْحَبًةْ، وَلًاتْ عْدَاوَةْ؟"..على اعتبار أن هذه العداوة التي أفرزها سوء تدبير العلاقات الإجتماعية والعاطفية والإنسانية بين العائلتين أثرت بشكل مباشر على علاقة العاشق ومعشوقته "عَايْشَةْ" فتحولت المحبة إلى عداوة بينهما.

وفي المتن الموالي يقول الناظم: "ﯖُـولُو يْبَانْ، ﯖُـولُو يْزِيدْ، مَا بْقَى عْلِيًا تَقْلِيدْ، ﯖُـولُو يْزِيدْ، ﯖُـولُو يْبَانْ، اَلدًبَابْ عَيًانْ". ليوضح بأن محبوبته عائشة كانت هي التي تخاطبه وتنشد لقاءه. لأنها كانت كلما أتيحت لها الفرصة وتمكنت من التسلل خارج البيت للبحث عن فارس أحلامها، كانت بدورها تقف على أطلال الحبيب تتخيل صورته و طيف مشيته البطيئة بين قبور المقبرة يوم الجمعة، بعد أن أنهكه التعب والمرض جراء القطيعة المفتعلة، بل أن الناظم جعلها من خلال المتن العيطي تتلمس المعذرة وتتبرأ من فشل علاقتهما العاطفية، وكأنها ليست مسؤولة عن رفض الزواج ثم الغياب والفراق وما تسبب له من عذابات نفسية..لذلك كلمها الشاعر في هذا المتن لتنادي على الحبيب بقولها " "ﯖُـولُو يْبَانْ، ﯖُـولُو يْزِيدْ، مَا بْقَى عْلِيًا تَقْلِيدْ..."