في احتكار الشأن الديني .. مشيخة العلماء بالنوابض الأصولية تزحف على المجال المحفوظ لأمير المؤمنين!

في احتكار الشأن الديني .. مشيخة العلماء بالنوابض الأصولية تزحف على المجال المحفوظ لأمير المؤمنين! الوزير أحمد التوفيق (يمينا) رئيس المجلس العلمي بطنجة محمد كنون

لا تقف انفلاتات الحقل الديني، عند عتبة تفاصيل الممارسة، كما مثلنا لذلك في مواد سابقة، بنماذج متعددة، بل تتعدى ذلك إلى مستوى الكليات الناظمة لتدبير هذا الحقل. لذلك سنقف اليوم على الرؤية النسقية في هذا المستوى، لبيان طبيعة الأعطاب الحاصلة، وإن كنا قد سبق أن رفعنا ذلك في مادة سابقة، إلى مستقر "اختيارات لم تحسم بعد، في الفجوة الحاصلة بين متطلبات الدولة بالتزامها العضوي بمرجعية إمارة المؤمنين، وبين براغماتية الطرح المخزني في تحالفه مع الأصولية، فتم إقبار المشروع المجتمعي الحداثي الديموقراطي للملك/ أمير المؤمنين".

 

لقد أشرنا أكثر من مرة، إلى "تجيير" رئيس المجلس العلمي بطنجة الأستاذ محمد كنون، للشيخ محمد الجردي، وهو ينعيه بإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، كعالم من علماء الأمة؛ والحال أن المرحوم الجردي هو حنبلي/ وهابي المذهب والمعتقد. لكن يبقى هذا التجيير بخلفية التدليس فيه، غير منفصل عن كتابه "المشيخة العلمية بالمغرب جذور ثابتة وأغصان وارفة"، وهو من منشورات المجالس العلمية لجهة الشمال سنة 2020. وهذا الكتاب يعتبر على مستوى تغذية الالتباسات، امتدادا للدرس الرمضاني لوزير الأوقاف الأستاذ أحمد التوفيق سنة 2017، حول "دور علماء المغرب في الحفاظ على الهوية الوطنية"، ولكتاب "سبيل العلماء"، وهو من منشورات المجلس العلمي الأعلى سنة 2016، والمنجز من طرف الأساتذة: أحمد أيت إعزة، وإدريس بن الضاوية، وسعيد بيهي، وسعيد شبار، ومحمد كنون. وإذا كان سي كنون لا مذهب له، يساير منطق الشوكة والغلبة، فإن باقي المؤلفين هم بخلفية أصولية. وقد أتي هذا الكتاب عقب ندوة المجلس العلمي الأعلى حول "السلفية" 2015. وهي الندوة التي توج خلاصتها الشيخ محمد زحل، حين دعا إلى إقامة تلاحم بين السلفية والعرش -وهو يعبر عن اعتزاز انتمائه للشبيبة الإسلامية، المعروف مسؤوليتها عن اغتيال الشهيد عمر بنجلون- لمواجهة ما أسماه بـ "الفكر اليساري الإلحادي المادي"، فهرول الوزير التوفيق وقبل رأسه، فانكشف المستور من أهداف الندوة. فنحن أمام حلقات في سلسلة مخطط القضم التدريجي لمرجعية إمارة المؤمنين، بالموازاة مع إبراز مرجعية "مشيخة العلماء"، وقد هيمنت عليها الأصولية.

 

ومن الطبيعي في ظل بروز ملامح هذه المعادلة الجديدة، أن يعشش النزوع التكفيري في المجالس العلمية، وهي تعادي اليسار جهارا. لكن هل يبرر، مواجهة اليسار، في المقابل، كل الاستهداف الأصولي للثوابت المذهبية للبلاد، من داخل أداء المؤسسات الدينية في المغرب؟ أم أن المستهدف الحقيقي من خلال عنوان مواجهة اليسار، هو مرجعية إمارة المؤمنين بالتحديد؟

 

أكيد للجواب عن هذا، لا بد من المسح الجيوسياسي التالي، في خطوط التماس، بين الدين والسياسة.

 

كما في علم المهتمين، فإن الأصولية تمانع في أن يكون الملك في نفس الآن أمير المؤمنين، أو تتحايل على حقائق التاريخ بمطلب دمقرطة المؤسسة العلمية، على لسان الأستاذ أحمد الريسوني. لذلك فهي بهذه المماحكات، تحاول الاستنساخ الكربوني لنفس الترسيمة التي عليها السعودية، حيث السلطة الدينية في آل عبد الوهاب (الوهابية)، والسلطة الزمنية في آل سعود. أو كما هو الحال مع الإباضية في سلطنة عمان، حيث السلطة الدينية في آل الخليلي، والسلطة الزمنية في آل سعيد.

 

هذا التوصيف التقريبي، بغاية البيان، لتوزيع السلط، في هذين البلدين الشقيقين -ونحن نحترم التعاقدات الداخلية لأشقائنا- تحاول الأصولية فرضه في المغرب بشتى الطرق. ويتولى ما يسمى بـ "المعتدلين" منها، التمكين له عمليا، من داخل المؤسسات الدينية.

 

 

إذن هناك في الحالة المغربية، سعي لتجريد أمير المؤمنين من صلاحيته الدينية لحساب "ولاية الفقيه" الوهابي/ الإخواني. وفي ظل هذا السعي، يبقى أمير المؤمنين على الحقيقة، هو الأصولية. لذلك فالحديث عن"دور العلماء" و"سبيل العلماء"، و"مشيخة العلماء"، هو من الخطاب المتشابه الذي يخفي محكم الانقلاب الأصولي على مرجعية إمارة المؤمنين. ورغم كون أمير المؤمنين عندنا، هو الوارث لـ "ميراث النبوة"، باعتباره كبير "أهل البيت"، فإن الأصولية تريده الآن، كملك الأردن هاشميا/ علويا فقط، بدون سلطة دينية.. في انتظار قيام دولة الخلافة.

 

إن المقاربة المخزنية للشأن الديني، وهي تمكن للأصولية بهاجس ضمان الولاء السياسي للدولة ، تتجاهل أن ذلك يتم على حساب الولاء المذهبي، وبالتالي فإن مخاطر ذلك في المنظور القريب على الدولة والمجتمع، لا يمكن أن يتغافل عنها مجهر المقاربة الموضوعية. ولتفادي الإحراج هنا، انتقلت الوهابية من خطوة اعتبار المذهب المالكي بدعة والأشعرية ضلالة والتصوف شركا، إلى خطوة إنجاز انقلاب ناعم من خلال هيكلة الحقل الديني على ثوابت البلاد، بقراءة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني قراءة حنبلية، فتم إضعاف الدور المركزي للملك/ أمير المؤمنين في الإصلاح، على المستوي الداخلي، وفي التساكن والتعايش بين المذاهب والأديان على المستوى الخارجي.

 

أما بعد، فالمغرب بخصوصيته الدينية والسياسية، وبموقعه الجيوسياسي لا يمكن أن يروق بإصلاحاته وتأثيره في الجوار الإنساني الكثير من حولنا... من هنا تعدد أوجه استهداف المغرب. فمثلا يقرأ دعاة إيران تاريخ المغرب شيعيا، في حين يقرأه دعاة السعودية وهابيا. وتلاحق دعاة تركيا الإخوانية، عقدة استقلاله عن سلطة البايات. أما تاريخ المغرب المستقل بمؤسساته ورموزه ورصيده الحضاري، فيعيش غربة في بلده. فكيف لمن يستفيد مثلا، من ريع السعودية الدولة، أن ننتظر منه مواجهة السعودية الدعوة؟ أو بعبارة أدق، كيف له أن يحمي السيادة المذهبية للبلاد؟ في حين أن المغرب بحكم موقعه الوسط بالنظر إلى حكم "أهل البيت"/ السنة فيه، يمكن أن يمثل جسر التواصل بين السنة فيما بينهم من جهة، وبين الشيعة من جهة أخرى، ناهيك عن باقي الديانات التوحيدية. "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِين"...