عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (9)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (9) الفنان حسن الزرهوني (يسارا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

 أغلب الأدباء يتفقون على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم(ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نقدم في هذه السلسلة من حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم(ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي سنحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي وعبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

فهل توفق الناظم/ الشاعر في وصف الحبيبة/ المرأة الفاتنة التي كانت سببا في معاناته، وهل صاغ متونه الشعرية وكلماتها وصورها البلاغية بنفس يعكس حجم عشقه للمحبوبة في زمن غير زماننا، وأسئلة أخرى سنجيب عليها في الحلقات المتتالية؟

إن الشاعر/ الناظم لقصيدة عيطة "بِينْ اَلْجَمْعَةْ وَالثْلَاثْ، اَلسًكَةْ حَبْسَاتْ وَرِيتَاتْ" التي تعد أرقى تعبير في الغناء الشفهي العيطي بمنطقة عبدة على مستوى شعر الغزل العذري، قد أفلح في تبليغ رسالته لتوضيح الأسباب التي أعدمت علاقته الغرامية وحكمت عليها بالفشل وأدت به إلى الإنهيار النفسي والمعنوي...وأشياء أخرى جاءت على لسان حسن الزرهوني؟

في الحلقة التاسعة من ملف "العزل في شعر العيطة العبدية"، سنتناول بالدرس والتحليل تفكيك مضمون المتون الشعرية التي استلهم فيها الشاعر/ الناظم دلالة طائر الحمام، ورمزية الورد، ولون بشرة المرأة في عيطة "بِينْ اَلجُمْعَةْ وَالثْلَاثْ"، حيث قال فيه "وَاشْ شَفْتِي كِيمَا شَفْتْ أَنَا؟/ شَفْتِي شِي فَاسِيًاتْ / بَيْضَاتْ وٌمَسْرَارَاتْ/ عْيُونْهُمْ كِيفْ لَحْمَامَاتْ/ فِيهُمْ اَلطْوَيْسِيَاتْ"، ثم الشطر الآخر "فُمْ بَابْ اَلْحَمًامْ خَارْجَاتْ/ كُلْ صَاﯖْـ وُ سَرْوَالُو جْدِيدْ/ قُبًةْ شْرِيفِي فِيهَا اَلدْبُوحْ/ كِيفْ دِيمْا وَالدًايْمْ اَلًلهْ ".

 

 

إن المستمع لعيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" يستشف أن صوت الجمال ومفاتن الأنوثة حاضر في كتابة "الشاعر/ الناظم" الشفهية لذات القصيدة، ويخترق مسامع المتلقي لينقل درجة الهيام والحب لدى شاعرنا العبدي، هذا الجمال الذي يأسر الأفئدة ويقهر قلب المتعطش لحبيبته "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي"، التي افتتن بجمالها (التشبيه تارة بطائر الحمام وتارة بالورد)، والذي ارتقى به إلى درجات السمو بالروح والزهد في الحياة، وأثر على ذهنه وعقله الباطن/ الواعي.. من هنا جاء وصف شاعرنا بغزله العذري محاسن المرأة/الحبيبة الداخلية من خلال سلوك الأخلاق والقيم الإنسانية، من محبة وعطف وحنين وشوق. فضلا عن إنشاد غزله الحسي المتمثل في متونه الشعرية لما يصف عيونها وخذيها ولون بشرتها .

 

دلالة طائر الحمام والورد ولون بشرة المرأة في عيطة "بِينْ اَلجُمْعَةْ وَالثْلَاثْ"

"وَاشْ شَفْتِي كِيمَا شَفْتْ أَنَا؟/ شَفْتِي شِي فَاسِيًاتْ/ بَيْضَاتْ وٌمَسْرَارَاتْ/ عْيُونْهُمْ كِيفْ لَحْمَامَاتْ/ فِيهُمْ اَلطْوَيْسِيَاتْ..."

لقد وظف شاعرنا/ الناظم  العبدي في إنشاد قصيد "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" في وصف حبيبته "عَايْشَةْ بَنْتَ اَلْمَكٍي"، جمال طائر الحمام كرمز يبرز بوضوح شعره الغزلي المتصف بالعمق والدقة، كعلامة دالة على صراعه النفسي للتعبير بصدق عن أحزانه وهمومه واشتياقه إلى محبوبته التي كان يمني النفس بتحقيق طموح الزواج والاقتران بها في زمن الحرب، حيث نستشف هذا التوظيف في المتن العيطي أعلاه بموقف الرومانسي ليناجي "عَايْشَةْ" الحبيبة. وكأنه يتقاسم مع الجاحظ قوله: "إن الحمام منه وحشي وأهلي..."، ومع عنترة بن شداد في إنشاده: ولقد ناحَ في الغُصون حمام/ فشَجانِي حنينُهُ والنًحيبُ.

 

ونحن نتحدث عن شاعر عبدي ينتمي لمجال تشكل العيطة الحصباوية، فلا غرابة من أن يتخذ طائر الحمام كرمز للتعبير عن مشاعره ومعاناته وأحاسيسه العاطفية واشتياقه لحبيبته، ويستلهم من عيون الحمام الكُحْلِيَتَيْنِ "السوداويتين"، على اعتبار أن الحمام تتجاوز جماليته الأعين إلى نخوة المشية بخفة ورشاقة ساحرة وناعمة وصوت حزين "هديل الحمام" الذي يصدره منسجما مع التجربة العاطفية الفاشلة، وجسد الحمام كرمز للكآبة والحزن والبكاء والحسرة على فراق "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي".

 

وانتقل ناظم العيطة إلى تشبيها الحبيبة بالورود حيث قال في نفس المتن: "خْذُوذْهُمْ كِيفْ اَلْوَرْدَاتْ/ مْفَتْحَاتْ دِيمَا"، ليجدد التأكيد على أن الورد رمز للحب والجمال والسعادة. إن الحديث عن الورد واختلاف أنواعه وأشكاله وروائحه، يعكس تأملات الشاعر في الطبيعة واستعماله كوسيلة للتعبير عن كل ما يجول بخاطره وقلبه من حب واشتياق ومودة ولوعة الفراق.

 

إن الحديث عن لون بشرة المرأة في نفس المتن العيطي فرق فيه الشاعر بين لونين أساسيين، البشرة البيضاء التي تتميز بها المرأة الفاسية، والبشرة السمراء التي تميز لون المرأة العبدية والتي وصفها الشاعر بقوله: "حَمْرَاتْ وُ زَرْوَالَاتْ". وكلمة "زَرْوَالَةْ"، هي أمازيغية الأصل "أَزَرْوَالَتْ"، وتعني الشقراء المميزة باللون الفاتح، حيث نقول في عاميتنا المغربية إمرأة "زَعْرَةْ" أو "شَهْبَةْ". والمرأة العبدية "اَلْحَمْرَا وُ اَلزًرْوَالَةْ" هي التي تتميز ببشرة سمراء فاتحة لكنها شقراء "اشًهْبَةْ". وهذا ما فصل فيه قول الشاعر بـ "وَاشْ شَفْتِي كِيفْ شَفْتْ أَنَا؟/ شَفْتِي شِي عَبْدِيًاتْ/ حَمْرَاتْ وُ زَرْوَالَاتْ/ خْذُوذْهُمْ كِيفْ اَلْوَرْدَاتْ".

"فُمْ بَابْ اَلْحَمًامْ خَارْجَاتْ / كُلْ صَاﯖْـ وُ سَرْوَالُو جْدِيدْ/ قُبًةْ شْرِيفِي فِيهَا اَلدْبُوحْ/ كِيفْ دِيمْا وَالدًايْمْ اَلًلهْ ".

هذا المتن يعكس تقاليد المرأة وعاداتها المرتبطة بفرصة إحياء مناسبات احتفالية دينية أو اجتماعية في سياق الجلسات الفنية للاستمتاع بالموسيقى والغناء والرقص في حضرة العائلة أو القبيلة وأعيانها ورجالات الخزن المحلي. حيث تستعد لذلك أتم الاستعداد للحضور والمشاركة في صناعة الفرحة والفرجة.

 

حضور المرأة لابد أن تلتزم فيه بالعادات والتقاليد المألوفة في مثل هذه اللحظات الجميلة، من استحمام جيد بكل مواصفات النظافة والتطهير الجسدي والمعنوي والنفسي، كشخصية مؤثرة بجمال مفاتنها، "فُمْ بَابْ اَلْحَمًامْ خَارْجَاتْ/ كُلْ صَاﯖْـ وُ سَرْوَالُو جْدِيدْ"، حيث ترتدي أرقى الأزياء والملابس التقليدية من (قفطان، سروال قندريسي، حايك ، شربيل..)، والتزين بحليها ومجوهراتها الذهبية والفضية، ووضع مساحيق ووسائل التجميل التقليدية من (حناء وكحل وعكر فاسي وعطر...).

 

علاقة بالموضوع فالشاعر العبدي كشف للمتلقي عن مكان الحفل/ المناسبة في رائعة عطية "بِينْ اَلجًمْعَةْ وُالثْلَاثْ"، ومن هي الشخصية المضيفة التي أقامت الجلسة الفنية داخل "اَلْقُبًةْ" على شرف المدعوين نساء ورجالا بقوله: "قُبًةْ شْرِيفِي".

 

"اَلْقُبًةْ" هي فضاء خاص لاستقبال الضيوف من أعيان القبيلة ورجال المخزن، فضاء يمتاز بشسوعه على شكل مستطيل يغلب عليه قياس الطول على العرض، وتتسع لعدد كبير من المدعوين للحفل، حيث يترك وسطها كمنصة فارغة مفروشة بالزرابي الحريرية التقليدية، لتقديم عروض الموسيقى والرقص والغناء سواء لـ "رْبَاعْةْ" الشيخات والشيوخ أو للنساء الراغبات في الرقص أمام الحاضرين.. "عند انتهاء الشيوخ من غناء العيطة المركب والانتقال إلى الإيقاع الحوزي، ثم البروال، تقدم الشيخات/المدعوات للجلسة الفنية رقصات ساحرة بأجساهدن، تثير إعجاب الضيوف، ويفسح المجال للجسد للتعبير بحركاته الفاتنة" يوح ضيف الجريدة الفنان التشكيلي حسن الزرهوني.

وقد تم استعمال كلمة "اَلْقُبًةْ" في بعض العيوط مثلا: "فِـ قُبَةْ قَاوْقَاوْ، تَمًةْ انْتْلَاقَاوْ"، و"قُبًةْ بُوعْلَامْ، كُبِي يَا مَدَامْ".

وذكر الشاعر "القبة" في الجزء الأول من عيطة "بين الجمعة والثلاث"، والتي جاءت بصيغة دينية وروحية واجتماعية، وهي قبة سيدي مبارك بوﯖـدرة والتي تتميز بشكلها الدائري كنصف كرة، وتجسد عنصرا من عناصر العمارة الإسلامية بعد أن تم نقل شكل هندستها كسائر بنايات الأضرحة والزوايا من المشرق إلى الأندلس ثم إلى المغرب.

أما بخصوص شخصية صاحب "القبة" التي ذكره الشاعر بقوله: "شْرِيفِي"، فهو من المفروض أن يكون من أحد أعيان قبيلة عبدة، حيث دأب على تنظيم الجلسات الفنية في محيطه الاجتماعي كلما دعت الضرورة الاجتماعية والفنية لاقتناص سانحة مناسبة الحفل والسمر والسهر، وقد يكون "شْرِيفِي" رجل "مَوْلُوعْ/ مَبْلِي"، متمكنا من العزف على آلته الوترية، وحافظا لمتون العيطة العبدية وغنائها، على اعتبار أن هناك متنا شعريا آخر يؤكد على ذلك بالقول: "سْمَعْتْ اَلدًقَةْ، عْرَفْتْهَا دْيَالُو، شْرِيفِي وُ رْبَاعْتُو"، و"عْيِيتْ نْعَيًطْ، طَالْ عْيَاطِي، شْرِيفِي اَلْخَيًاطِي".

 

"اَلْعَيًاطْ" هو الشيخ المؤدي للعيطة سواء العيطة العبدية أو العيطة الحوزية بحكم أن عبدة تطل على حوز مراكش، مما جعل من شيوخ العطية العبدية منفتحين على العيطة الحوزية بل كانوا يؤدونها بشكل رائع ومتميز .

الشطر الأخير من المتن العيطي قال الناظم: "... فِيهَا اَلدْبُوحْ، كِيفْ دِيمْا، وَالدًايْمْ اَلًلهْ"، وكلمة "اَلدْبُوحْ" هنا لا يعني بها صاحب القصيدة كما يفسرها العديد من المهتمين بالشأن العيطي كثرة الذبائح من رؤوس الأغنام التي كانت تقدم في طقوس بعض الزوايا والأضرحة وأثناء المناسبات الدينية أو خلال إقامة المواسم وحفلات الأعراس، ولكن المقصود بـ "اَلدْبُوحْ" في سياق العيطة هو الإحالة على الطابع الفني والروحي في علاقة بنغم عزف أوتار الكمان بأنامل الشيخ ورميه بقوسه مسامع المتلقي بألحان تهز المشاعر والأحاسيس ونستحضر هنا قول اَلْحَبْحَابَةْ: "أَدْبَحْ، أَدْبَحْ... أَدْبَحْ أَخُويَا أَدْبَحْ".

 

لقد كانت أوتار الكمان في تلك الفترة المشرقة في أداء فن العيطة تستخدم من أمعاء الماعز وتتطلب وقتا زمنيا طويلا من أجل جاهزيتها للاستعمال، حيث تنشر تحت أشعة الشمس، وتدهن بمادة الشمع وتتمدد حتى تكتسب متانتها لكي تدوم مدة أطول، حيث نجد أن الشيخ صاحب الكمان يتوفر داخل "جْبَحْ" كمانه على أوتار إضافية لتغيير تلك التي تتعرض للتقطيع بفعل "جَرًانِ اَلْقَوْسْ" أثناء العزف وتعويضها بأوتار أخرى.

 

إن أداء العيطة الحصباوية المطولة سابقا، (خلاف اليوم) كان يتطلب زمنا طويلا خلال جلسات السمر الفنية، بل أنها أداء عيطة واحدة من عيوط عبدة كان يتطلب ليلة بأكملها، مثل أداء نوبات الأندلسي (10 نوبات أندلسية) وفي بعض الأحيان يستغرق الجوق الأندلسي في أداء نوبة واحدة ليلتين مطولتين. وكان هذا أحد الأسباب التي جعل رواد العيطة يتوقفون عند الانتقال من جزء لآخر قبل الدخول إلى الإيقاع الحوزي لتكون فرصة سانحة للشيخ عازف الكمان ليقوم بتغيير الأوتار، وخصوصا الوتر الأول الذي تعزف عليه العيطة بشكل مستمر.

 

إن صوت أوتار الكمان ونغماته الساحرة هو المقصود بـ "اَلدْبُوحْ" الذي يصدره القوس في تماس مع الأوتار والأنامل الرقيقة، كما تعود عليه المجالسون لـ "شْرِيفْي" في "اَلْقُبًةْ" وهي مناسبات ظرفية طال أم قصر زمنها لتنتهي بقول الشاعر "اَلدًايًمْ اَلًلهْ" أي الدوام لله.