عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (7)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ".. زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (7) من أرشيف باب الشعبة بأسفي تتوسط حسن الزرهوني (يمينا) والزميل أحمد فردوس

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

أغلب الأدباء يتفقون على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد حظي الغزل باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم(ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نقدم في هذه السلسلة من حلقاتنا مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم(ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي سنحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي وعبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

فهل توفق الناظم/ الشاعر في وصف الحبيبة/ المرأة الفاتنة التي كانت سببا في معاناته، وهل صاغ متونه الشعرية وكلماتها وصورها البلاغية بنفس يعكس حجم عشقه للمحبوبة في زمن غير زماننا، وأسئلة أخرى سنجيب عليها في الحلقات المتتالية؟

في هذا السياق نخصص الحلقة السابعة من هذا الملف لتحليل المتن العيطي الذي وصف فيه الشاعر وضعيته الصحية والنفسية المتأزمة، مقابل موقف الأعداء المتربصين بعلاقته العاطفية التي يعملون جاهدين من أجل إجهاضها وتدمير بنيانها دون مراعاة أحاسيس العاشق/الناظم الذي قال في وصفها: "قْلَالَتْ صَحْتِي، تْقَاضَى جَهْدِي، تْشَفًاوْ فِيًا عَدْيَانِي"، وتفكيكه في علاقة مع موضوع القصيدة الجميلة لعيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"، التي وظف فيها العاشق العبدي لحبيبته "عَايْشَةْ بَنْتْ اَلْمَكٍي"، بلاغة الألفاظ والكلمات المستوحاة من قاموس الدارجة المغربية، مرة بحس مادي وتارة أخرى بحس مجازي للتعبير عن حبه العذري لعشيقته وعلاقته الغرامية التي لم تكتمل كما ورد في ذات العيطة موضوع ملفنا الإعلامي، وضبطه العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين العشائر والقبائل ومواقعها ومجالاتها الجغرافية، و كيفية تهيئ وتنظيم بعض الجلسات الفنية وفق طقوس وعادات أعيان القبائل ورجالات المخزن المحلي وغيرهم.

إن الشاعر/ الناظم لقصيدة عيطة "بِينْ اَلْجَمْعَةْ وَالثْلَاثْ، اَلسًكَةْ حَبْسَاتْ وَرِيتَاتْ" التي تعد أرقى تعبير في الغناء الشفهي العيطي بمنطقة عبدة على مستوى شعر الغزل العذري، قد أفلح في تبليغ رسالته لتوضيح الأسباب التي أعدمت علاقته الغرامية وحكمت عليها بالفشل وأدت به إلى الإنهيار النفسي والمعنوي... وأشياء أخرى جاءت على لسان حسن الزرهوني؟

 

"قْلَالَتْ صَحْتِي، تْقَاضَى جَهْدِي، تْشَفًاوْ فِيًا عَدْيَانِي"

ينساب حديث الفنان الموسيقي و التشكيلي حسن الزرهوني عن رائعة الشاعر العبدي عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" انسياب ألوان فرشاة صباغته على جدارياته ولوحاته الزيتية والمائية التي أبدع فيها أرقى الإبداع بمحرابه الفني. تلك الفرشاة الطيعة والسلسة في ملامستها لاقتفاء خطوط مواضيع رسومات شخصياته بأثرها المتفاعل والفاعل في الأحداث، وتضخ في جسدها أوكسجين كيمياء نبضات قلبه، بروح الحركة والدينامية الإنسانية على إيقاع أنامله العازفة لموسيقى نغمات الخلود، وتكشف لنا عن الصراع المرير في زمن الحرب واللاسلم بين الحب والكراهية، و بين الموت والولادة المتجددة والقبول والاستسلام والرفض للواقع .

 

إن الإعلان عن فشل التجربة العاطفية لشاعرنا العبدي -كما رواها حسن الزرهوني- بسبب رفض "اَلْمَكٍي" التعاطي الإيجابي مع مطلب الخطوبة بدافع تفضيله أحد أعيان القبيلة كزوج لإبنته "عَائِشَةْ". ورجوع الحبيب/ الشاعر بخفي حنين رفقة والديه، قد شكل عاملا سلبيا ساهم في تحويل العلاقات الإجتماعية والإنسانية بين الأسرتين إلى موضوع خصام داخل وخارج القبيلة، "خَصَمْتِينِي مْعَ لَحْبَابْ، خَصَمْتِينِي مْعَ أمٍي، وُزَدْتِي حْتًى بُويَا"، وتسبب في تعكير مزاج حبيبها، وتغيير سلوكه و أحواله ووضعيته النفسية والمعنوية والمادية، من شخص كان مقبلا على الحياة بحب، إلى رجل مدمن ومنحرف ساخط على وضعيته وواقع حاله.. "وقوف عامل الرفض في وجه الحبيب لتحقيق رغبة الارتباط بحبيبته، حوله إلى شخص حزين ومتوتر، فضل مقارعة الخمر بحثا عن ملاذ النسيان والتخفيف من عذابات وطأة الصدمة، ولم يعد يخالط الناس باختياره الوحدة والعزلة والدخول في نوبة بكاء مستمرة"، يقول حسن الزرهوني، الذي أكد على أن "مقارعة الحبيب لكؤوس الخمر ليل نهار، واستحضار صورة حبيبته، والبكاء على فراقها، واختياره للعزلة والوحدة بعيدا عن أجواء دفء العائلة، أثر صحيا ونفسيا على بنيته الفيزيولوجية، وهذا ما يوضحه المتن العيطي بقوله: "قْلَالَتْ صَحْتِي، تْقَاضَى جَهْدِي، تْشَفًاوْ فِيًا عَدْيَانِي".

 

"دْمٌوعْ الْكِيًةْ، صَبٌو شْتَاء، حَمْلَاتْ الشًعْبَةْ / تَبًتْ يَا بْنَادَمْ الزٍينْ يْفَاﯖَمْ"

إن كلمة "اَلشًعْبَةْ" التي ذكرها الشاعر في المتن، يقصد بها هضبة تتواجد شرق مدينة أسفي، كانت تعتبر تجمعا سكانيا لمواطني دوار "اَلدْرَارْزَةْ" الذين اشتهروا بالصناعة التقليدية المرتبطة بمنتوجات النسيج والحياكة (اَلجًلًابَةْ، اَلْحَايْكْ، اَلًسًلْهَامْ...)، وكان يمر وسط "اَلشًعْبَةْ" مجرى أحد الوديان خلال فصل الشتاء باعتباره رافدا من روافد نهر أم الربيع ويسمى بـ "واد هارون" الذي يخترق أيضا منطقة الحصبة ويتجه نحو المحيط الأطلسي. إذ يخترق المدينة القديمة أيضا من الجهة الشمالية (باب القواس). لكن بعد اكتشاف مادة الطين بهضبة الشعبة، تحولت ضفاف "وادي هَارُونْ" الذي حمل الاسم الجديد "وادي الشًعْبَةْ"، (تحولت الهضبة)، إلى حاضنة لأفران تقليدية لصناعة أواني الخزف التي اشتهرت به مدينة أسفي إلى يومنا هذا، وكان "وادي الشًعْبَةْ" يتسبب في مشاكل كثيرة للتجار المتواجدين بباب الشعبة خلال فصل الشتاء وتتعرض المدينة بسببه إلى فيضانات أوضحها الشاعر بقوله: "دْمٌوعْ الْكِيًةْ، صَبٌو شْتَاء، حَمْلَاتْ الشًعْبَةْ".

 

وقد استعمل الشاعر كلمة "اَلْكِيًةْ" والتي نجدها متداولة بقوة في العيطة العبدية، في سياق مفهوم الاحتراق في الحب بنار العشق، حيث نقول في اللغة: (إنكوى بالشيء، أي عشقه أشد العشق)، ومن بين نماذج المتون الشعرية التي اعتمدت على كلمة "اَلْكِيًةْ" لتبليغ رسالتها الشعرية وصفا وتعبيرا:

"اَلْكِيًةْ فِـ الأَوَلْ، اَلٍلي ﯖَـالْ شِي يَطْلَعْ يْسَوَلْ"

"اَلْكِيًةْ هَاهِيًةْ، اَلٍلي ﯖَـالْ شِي، اَلْحَبْسْ وَلَخْطِيًةْ"

"أَعَيْنِيًا، إِلَا وْتِيتْ، سَامَحْ لِيًا، بَضَاضْ وَالرْشُوقْ وَالْكِيًةْ"

"عَيًطْ أَحْمَدْ، جَاوَبْنِي مْحَمًدْ، اَلْكِيًةْ فِـ وَاحَدْ"

"دُوزِي عْلَى قَبْرُو، تْفَكْرِي كِيْتٌو"

 

أما بخصوص مضمون متن "صَبٌو شْتَاء، حَمْلَاتْ الشًعْبَةْ"، فقد استعمل الشاعر التشبيه الحسي لفعل البكاء بالمطر، ليحيل المتلقي/ المستمع على إحساسه بالحزن والحسرة وكثرة البكاء على فراق الحبيبة "عَائِشَةْ" بسبب رفض والدها "اَلْمَكٍي" تتويج علاقتهما العاطفية بالزواج. وتوفق الشاعر في نسج أبيات القصيدة/ العيطة بتناغم ألفاظها ومعانيها، تشبيها ومجازا (الدموع/المطر) لأن استلهامه وتوظيفه حمولة كلمة المطر في شطر "صَبٌو شْتَاءْ" أضفت على مشاعره الجياشة إحساسا راقيا للتعبير عن اللحظة الشاعرية.

 

وصف شلال دموع الشاعر  بـ "حَمْلَاتْ اَلشًعْبَةْ"

هو وصف وتعبير يعطي قيمة وقوة للمتن الشعري الذي يعكس كثرة البكاء والحزن والحسرة على مآل العلاقة العاطفية التي أُفْشِلَتْ بسبب رفض الزواج إبان مراسيم الخطوبة وطلب يد المعشوقة "عَائِشَةْ"، وصف يعكس وضعيته النفسية الصعبة، حيث غرق الشاعر العبدي في خضم أمواج عاتية جرفته لبحر الإدمان و مقارعة الخمر لنسيان الحبيبة، في غياب ضمير الأسرة والأهل والأقرباء لمواساته والتخفيف من حزنه وعزلته والسؤال عن صحته وحاله وأحواله (قْلَالَتْ صَحْتِي، تْقَاضَى جَهْدِي، تْشَفًاوْ فِيًا عَدْيَانِي). وانتقل الشاعر/ الحبيب إلى ترجمة موقفه من غدر الحبيبة وعتابها ولومها و وصفه مستوى حزنه وألمه وانهياره النفسي والمعنوي الذي أثر في قلبه الجريح بالقول مرة أخرى بـ "حَزْمٌو لِي قَلْبِي، رَاهْ ضَرْنِي، لَعْزِيزْ غْدَرْنِي".

 

"مْشِيتْ نْـﯖَـاجِي، لَا مَنْ رَدْنِي، كُلْشِي يَكْرَهْنِي"

معاناة وجراح الشاعر العبدي التي صورها في عيطة "بِينْ اَلجًمْعَةْ وَالثًلْاثْ" جعلته يقرر الإستجابة لنداء التجنيد "مْشِيتْ نْـﯖَـاجِي" والانخراط في صفوف الجيش الفرنسي خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت فرنسا قد أعلنت عن حملة تجنيد بتشجيع من الملك محمد بن يوسف وهذا ما يؤكده المتن العيطي بالقول: "مْشِيتْ نْـﯖَـاجِي، لَا مَنْ رَدْنِي، كُلْشِي يَكْرَهْنِي".

 

علاقة بموضوع الانخراط في صفوف الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية (1942/1945) فقد شارك الجنود المغاربة الذين أطلق عليهم اسم "اَلْـﯖُـومْ" أو "الـﯖـومارة" وهو جيش نظامي كونتهم فرنسا وأطرتهم منذ سنة 1907، وساهم هذا الجيش في القضاء على انتفاضة بوحمرة الروكي (الفتان) في شمال المغرب سنة 1909، أثناء فترة حكم المولى عبد الحفيظ وقد أشار إليه المتن العيطي: "مَا بِينْ تْمَارَةْ وَغْمَارَةْ جِيشْ اَلْـﯖُـومَارَةْ".

 

وكان هذا الجيش النظامي مدجج بسلاح البنادق التي تسمى "سَكِينْ بَنْ دَقٍي" وهي عبارة عن بندقية من نوع "مارتيني" تنتهي مقدمة ماسورتها بسكين للدفاع عن النفس بعد نفاذ الذخيرة. وساهم جيش "اَلْـﯖُـومْ" في مؤازرة فرنسا وحلفائها ضد ألمانيا وإيطاليا حيث وصل عددهم إلى 85 ألف جندي، تعرض أزيد من 15 ألف منهم للموت في منطقتي اَلْأَلْزَاسْ و الُلورِينْ بفرنسا.

 

استحضرنا هذه المعطيات نظرا للحمولة التاريخية لمضمون هذا المتن العيطي، في علاقة مع موقف وقرار الشاعر/ الحبيب، الذي أغلقت في وجهه كل أبواب الحياة، مما دفع به إلى التفكير في الانخراط ضمن صفوف الجيش الفرنسي رغم أن هذا الموقف/القرار التطوعي يحيل على جحيم الموت. على اعتبار أن الشاعر لم يجد من ينصحه و يؤازره ويخفف من وطأة صدمته العاطفية، بل أنه وصف محيط عائلته وأقربائه بالأعداء حينما قال: "مْشِيتْ نْـﯖَـاجِي، لَا مَنْ رَدْنِي، كُلْشِي يَكْرَهْنِي"، بحكم أن الانخراط في الجيش الفرنسي يعتبر بالنسبة للمغاربة خيانة للهوية الوطنية.

 

في الحلقة القادمة سنتناول بالدرس والتحليل تفكيك مضمون بعض المتون الشعرية التي استهلم فيها الشاعر/ الناظم مواقع جغرافية وذكر فيها مناطق وأسماء قبائل استوطنت مجال عبدة مثل "مَا بِينْ شْرَاقَةْ، وٌمَا بِينْ هْدِيلْ، قَفْطَانْ وٌشَرْبِيلْ" و"طْرِيقْ اَلْحَصْبَةْ رَطْبَةْ حْرِيرْ، اَلْمَشْيَةْ بْلَا شَرْبِيلْ"، وما هو غرضه في هذه الأبيات الشعرية من الإشارة إلى لباس المرأة المتمثل في اَلْقَفْطَانْ وَالشًرْبِيلْ في نفس المتن العيطي؟