جلال الطاهر: حرية تعبير القضاة مطلقة أم مقيدة !

جلال الطاهر: حرية تعبير القضاة مطلقة أم مقيدة ! ذ. جلال الطاهر
ينظر المجلس الأعلى للسلطة القضائية بداية شهر مارس 2021، في قضايا مجموعة من القضاة، بعد متابعتهم بسبب مضمون تدوينات في مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعلق الأمر، بالسادة:ادريس معطى الله، وعبد الرزاق الجباري، وعفيف البقالي، وفتح الله الحمداني، وهؤلاء القضاة كلهم قيادة وقاعدة ينتمون لنادي قضاة المغرب.
وكان من الطبيعي أن تعتبر هذه الإحالات على التأديب مسألة عادية، تدخل في صميم اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إذ من مسؤولياته النظر في القضايا التأديبية في حق القاضي الذي يأتي تصرفات أو ممارسات، تشكل مساً أخلاقياً، أو سلوكياً بمسؤوليته كقاض، في حدود وطبيعة عمله القضائي، إلا أن ما يثير الانتباه والانشغال ، هو أن هؤلاء القضاة، أحيلوا على التأديب بسبب، رأي أو تعليق أو معاينة لواقع، يتعارض مع قناعتهم الأخلاقية والسلوكية، ومعايشتهم عن قرب لبعض الأوضاع أو الممارسات داخل الجسم القضائي، حفزت كلا منهم ، على التعبير عن رأيه في هذا السلوك أو الواقع، وإبداء وجهة نظره، كشفاً عنها للعموم و التبرم من وجودها، وفي ذلك تنبيه لمن يعنيه الأمر، ولو من باب (( من رأى منكم منكراً فليغيره ، ولو بقلمه المعبر عن لسانه )) .
ولعل القضاة الذين فعلوا ذلك منطلقون بالتأكيد، من اقتناعهم أن ما قاموا به، هو تصرف طبيعي وعاد ، انسجاماً مع قناعاتهم، وتصريفاً وممارسة للحقوق الدستورية، والتزاماً بالقانون الأساسي " لنادي قضاة المغرب " الذي ينتمون إليه، حيث تؤكد المبادئ الدستورية، والقانون التأسيسي لناديهم، شرعية ممارستهم لحرية التعبير، التي كرسها مبدئياً دستور 2011 ، في الفصول الأولى منه، حيث اعتبر الفصل 25 أن ((حرية الفكر والتعبير، مكفولة بكل أشكالها ...))
هذا المبدأ العام مخاطب به الجميع وعلى الإطلاق، قضاة أو غير قضاة .
أما ما يخص القضاة، فيمكن القول أن المادة 111 من الدستور قد وضعت للإطلاق المنصوص عليه في الفصل 25 بالنسبة لحرية التعبير، بعض شروط " الملاءمة " أو ما يمكن التعبير عنه ، تجاوزاً بقيدين، عندما نص الفصل المذكور على أنه (( للقضاة الحق في حرية التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ، والأخلاقيات القضائية ... )).
فالنظر في متابعة القضاة، في موضوع التدوينات – إن كان مضمونها وحده هو سبب المتابعات – يفرض قراءة روح دستور 2011 ، الذي سمي دستور الحريات والمكتسبات الحقوقية ، ومنطوق ومفهوم، الفصل 111 منه، وفحصْ مفهوم ومضمون، التدوينات، لصهرها في بوثقة النصّ الدستوري، لاستخراج ما لا يتلاءم مع واجب التحفظ، والأخلاقيات القضائية، فيما ورد من تدوينات ، وهو تكليف ليس باليسير، تحمل مشاقه ومتاعبه، لأن إلباس الفعل النص القانوني ، يتطلب قوة الباحث عن الحقيقة بصدق وعبقرية المجتهد...
فالسادة القضاة، الذين مارسوا حقهم في تأسيس جمعية مهنية إعمالاً لدستور، نص على أنه: ((يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات أو إنشاء جمعيات مهنية مع احترام، واجبات التجرد، واستقلال القضاء، وطبقاً للشروط المنصوص عليها في القانون )) لم يفعلوا ذلك ترفاً أو رياءً ، بل اعتبروه ضرورة بررت وجودها، الحاجة لتنظيم جمعوي قضائي، يعزز الوضعية الخاصة التي أصبحت للقضاة دستورياً ، وللإشارة فإن تفعيل النص الدستوري المذكور، قد انبثقت عنه جمعيات مهنية للقضاة رجالية ونسائية، الأمر الذي يبرر كون الدستور قد استجاب لتطلع جماعي لدى أسرة السلطة القضائية.
ولعل السادة القضاة، موضوع المتابعات، اعتبروا أن مضمون التدوينات يدخل ضمن حقوقهم، بل حتى واجباتهم، الدستورية والقضائية والجمعوية، التي قد يكون من أهمها، إثارة الانتباه، إلى بعض نقائص الممارسة القضائية، ولما لا الكشف، حتى عن بعض مظاهر الانحراف، في الوفاء لقسم أمانة الانتساب للسلطة القضائية، هذه المظاهر التي يبرزها الواقع في حياة البعض، والتي لا يخفيها ولا ينفيها غض الطرف عنها، لأنها تسيء للجميع، فيجب قراءة موقفهم قراءة إيجابية ، مطبوعة بحسن النية ، ولا يفهم على أنه مزايدة لها غايات شخصية ، أو مصالح جمعوية، بل إن هناك من يعتبر أن بعض التدوينات فيها جرأة محمودة غير مسبوقة في الكشف عن بعض الزوائد الدودية ، التي تشكل خطراً على الجسم القضائي ، إذا لم يتم استئصالها لأن (( الساكت عن الحق شيطان أخرس )) .
ولا شك أن وضع اليد على المخالفات الواردة في التدوينات، وتعليل ذلك، عملية معقدة، وليست بسهولة قرار المتابعة، بل تتطلب قدراً غير يسير من الجهد الفكري، المطبوع بالنفس الحقوقي، لاستنباط الخلل في التدوينات، كركن في الفعل الذي تجرى المتابعة بشأنه، لاستظهار، ما هو من صميم، الحق في حرية التعبير، وما لايتلاءم مع واجب التحفظ ، والأخلاقيات القضائية ... ويخرج عن حدودها في المنطوق والمفهوم، حتى يكون قرار المجلس الأعلى للسلطة القضائية ( إيجاباً أو سلباً )، منارة ذات طابع قضائي ودستوري، مبني على تعليل واضح، يستنير به جميع القضاة مستقبلاً، عندما يمارسون حقهم في حرية التعبير، وخريطة طريق، يسير على نهجها الجميع ، ولا يزيغ عنها إلا هالك.