عبد اللطيف رعري: لمن أكنس الهاوية..؟

عبد اللطيف رعري: لمن أكنس الهاوية..؟ عبد اللطيف رعري

سَأسْخرُ بِمَا شَاط من خيالٍ

وَسأكْنسُ هَاويتِي مِن بُقع النَّردِ

وَبدُون قُبلٍ

وأزرَعُ في انزِلاقِها غَابةً مِنَ الألسِنة الطَّويلَةِ

لِتدَمِّرَ صَخبَ المُعْجزَاتِ

وغُمُوضَ المِيتافِيزِيقَا

وبِحُزْنٍ دَفينٍ فِي القَلبِ

سَأرَتبُ مَسَالِكِي فِي عَيْنِ هَذَا الصَّمْت

وسَأحُجُ إلى فَيافِي المُحِيطَاتِ

لأجْعلَ النّورَسَ شَاهِدًا عَلى رَدَاءةِ العِبرِ

وطُولِ أمَدِ سُويعَاتِ الوَحْدَةِ

سَأبقَى كَمَا حُرَّاسَ الكَنائِسِ

أنتَحِلُ صِفَة المُدلّلِ

بيْنَ الشُموعِ

صِفةَ المَجهُولِ بينَ الجُمُوعِ

بِقَبقَابٍ خشَبيٍّ

ومُسُوحٍ فَضْفاضِ

كِشتاءِ الفَصلِ العَاقِرِ

أجُرُّ أقْدامِي العَرِجَاء

لِتغْزلَ مِن الطُّرُقاتِ قِلادَةً لِكلِّ مُتشَرِّدٍ

انتَظرُ حُلُولَ شَهْر المَوتِ

فلَمْ يرْزقْ إلاّ بسَهْوةٍ فِي الرَّأسِ

تَطَايرَ لِجَرَائِها غُرُورَهُ مِن قَامُوسِ المَعنَى

سَأبقَى

لُغزَ التَّراجِيديَا أبْصِرُ كَمالَ الوُعُودِ

في امْتنَاعِ السَّرابِ عَن الابتِعَادِ

وأحدِّقُ لوحْدِي مِن زَاوِيَّةِ الرّكْح المُظلِمة

مُوَشْوِشًا لشُخُوص المَهزلةِ

أنَّ التَّاريخ مُجرَّد لُعبةٍ

في يدٍ تأكُلهَا النَّارُ

سَأبقَى  خَيْطًا مِن مَاءٍ

يَرْبطُ المُحالَ باللَّامُحَالِ

واقِرُ بالتِطامِ الأفلاكِ عَلى قارِعةِ

السَّمَاء

فمَن نَجَتْ من أزْهارِنا نَلفُّها بِظلِّ الخَيْطِ

ليَعْصِمَها مِن طُوفَانٍ قَادمٍ

وقَدْ تَشُدُّ أزْرَنا نَحنُ المُشرَّدُونَ

وتنْعَمُ عَليْنا بِجِلْبابٍ مِن ضَوءِ القمَرِ

سَأبقَى رَصِيفًا مِن زُجَاجٍ

لا تَطأني غَيرَ الأقْدَام الحَافِية

ليخَالني الطّيرُ فُزاعَة ضَوئيّة

تَنالُ مِن البَعيدِ لمْعهُ ...

فَتأكلُ مِن كَف المُتشَرّدِ

حبّاتَ العِشْقِ

وهِي تَطيرُ لابُدَّ أنْ تمْسَحَ عَنِ الحُفاةِ

صَدأ الأنِينِ

سَأبقَى لوْحًا للقَداسَة

بينَ تَموّجاتِ كُنهِ الغِيابِ

وَتفَاصِيلِ أهْلِ السَّمَاءِ

حتَّى نَقْترِبَ مِن طُقُوسِ الأنْبِياءِ

ونَحْرقُ أصَابِعنَا عِندَ كُلِّ خَطِيئةٍ

فمَن يَعمدُ مِنّا فِي صَلاتِهِ علَى أيةٍ

فلُه فَضْلُها

سَأبقَى مُتَناهِيًا لاَ الزّمَنَ يَحْكُمُني

ولا خَارِجَ الزّمَنِ ينتَظرُ عَودتِي

فأنَا شِبهُ الكَمَالِ حِينَ لا أكتَملُ

وأنا الكَمالُ كلّ مَا اكتَمَلَ

سَأبقَى قَوقازِي اللَّونِ

لِتسمُو قرْبَ مِحْرابي كُلُّ الفَراشَات

وهِي تُرَدّدُ أخِرَ الأغْنِياتِ للْعَائدِينَ

مِن جَنازَةِ

إلهِ العَاصِفةِ

زُيُوسْ

سَأبقَى كَأسًا مِن عِظامِ المَوتَى

مَنْ شَرِبَ مِنهُ وَهُو أعْمَى

كَأنَّهِ رآنِي حَقِيقَة

ومَنْ شَربَ نِصْفَهُ

وَكانَ مُدمِنًا عَلَى العِصْيانِ

صُلِحَتْ علَى التَّوِ  ثَورَتهُ

وَخَابَ فِي الأصْلِ الأصبُع الذّي أشَارَ إليهِ بالهَذيَانِ

سَأبقَى فَيْضًا دَافِقًا

أهَبُ أدَميّتي شِعْرًا

بِكُلِّ اللّغَاتِ

واجْعلُ لِرُوحِي مَلكًا لِلمَاورَائِياتِ

فانْ اهْتدَيْتُ يَومًا لِحَوضِ الشُعَرَاءِ

فلَنْ أشْرب إلاَّ مِن فَمِ القَصِيدةِ

سَأبقَى سَرَابًا خَاطِفًا

تتبَعُنِي العُيُون وَلا تَرْصدُ مَحَجّتي

وتَتَوخَى مِنْ تَفحُّم الأحْجَارِ ورَائِي

واحِدةً

بِحَجمِ العَجبِ

لِمَرقَدِها الأخِيرِ

فَلنْ تَجدْ غيْرِي أنْسُجُ حُلْمًا أخَرًا بخُيوطِ الماءِ

غَيرِي أكْنسُ الهَاويَةَ مِن بُقعِ النَّرْدِ

بِدُونِ قُبلٍ

وأمْشِطُ للمَدَى ذَيلهُ

دُونَ أنْ أبَالِي بالعَتمَاتِ

غَيرِي أحَدِّقُ فِي السّمَاءِ

أحَدّق فِي البحْرِ

فيَسْقُطُ بَصَرِي عَلى نَخلةٍ ترَمّلتْ/ ورْدَة أَدبلَتْ/ امْرأَةٍ تظلَّمَتْ/ قِصِيدَة تَغصَّبتْ/ طِفْلَة تَهجَّرَتْ/ ثَورَةٍ تعَطَّلتْ/ أمَّةٍ تَفرَّقتْ/

سَأسْخرُ بِمَا شَاط من خيالٍ

لكِنْ

بأيِّ الحُرُوفِ أكْنِسُ الهَاويةِ ...؟