بلقايد: ظهور وغياب لوتار في العيطة الحوزية، لماذا؟ وكيف؟

بلقايد: ظهور وغياب لوتار في العيطة الحوزية، لماذا؟ وكيف؟ عبد العالي بلقايد ومشهد من ورشة صانع تقليدي متخصص في صناعة آلة لوتار بأسفي

 مجموعة من الممارسات والأفعال حتى لا نقول الطقوس التي كانت ترافق فعل أداء العيطة انسحبت من الحياة الفنية المرتبطة بالموروث الموسيقي التقليدي، وهي ولا شك كانت تعزز الجو الفني للعيطة. وكانت من صميم ما يؤدي إلى استمرار هذا اللون الذي يخضع لضوابط ناظمة لحياة الفنانين وعلاقتهم، وفي نفس الوقت تعمل على استمرار دوران الحياة في العيطة كفن ومعطى ثقافي وسوسيولوجي.. لهذا فكل فهم للعيطة خارج هذه السياقات هو فهم يسعى إلى خلق التمايزات بين المنتوج الثقافي للشعوب والذي ينم عن تضخم في النرجس الذي يسكن الذات والذي روجت له بشكل مفرط الأنثربولوجية الأوروبية التي مهدت للحركة الاستعمارية.

 

إن فهم العيطة خارج المعطى الثقافي ينم عن قصور في الرؤيا، أو محاولة لتسييد نزوع ثقافي على حساب أخر بخلفية لا تخلو من منزع طبقي يفتقد للبوصلة والمشروع ، فلا إبداع خارج الذات والتراث، فكل دعوة للنزوع نحو الأخر والإنتاج عن الذات هو اغتراب وغربة قاتلة.

 

إن أي مشروع فكري اقتصادي واجتماعي،  فرشه ومقدمته شعوري، ونفسي كمدخل وباب الذي يمكن أن تلج منه الشعوب إلى الحضارة ، فتحريك النفوس والمشاعر لا يكون إلا بالموسيقى والفنون عموما .

 

فتح هذه الأقواس كان الغرض منها الإشارة إلى بعض الأعراف والأفعال التي كانت مرافقة لأداء العيطة والتي انسحبت بشكل نهائي من الحياة الاجتماعية لتبدل الشروط والمعطيات، ومنها تلك الجولات التي كانت تقوم بها الرباعة بدواوير القبيلة وذلك لغرضين:

 

الغرض الأول: أن هذه الجولة ترتبط بالكسب، بحيث لا تكون في زمن ذروة الطلب على الموسيقيين لذلك تقوم الرباعة بهذه الجولات لتحصيل معاشها .

الغرض الثاني: كسر رتابة السكوت الفني، وتكون مناسبة للمبتدئين لكي يتمكنوا من الحرفة، ومناسبة لبعض الشباب إن أراد التعاطي للموسيقى.

 

بالنسبة لهذا الشكل من التعاطي الموسيقي هو الذي يبرز فيه لوتار وخاصة أثناء حصة ما يسمى بـ (لَفْرَاجَةْ) والتي تكون بعد تناول وجبة العشاء وحين احتساء كؤوس الشاي يقوم أحد الشيوخ بالعزف على لوتار لكي يؤدي كل من هو حاضر واجب (لَفْرَاجَةْ). وهذا قبل البدء في الليلة التي تتخللها وجبات كل واحدة معروفة بعنوانها الموثق عند الشيوخ .

 

فحين الإشارة لهذه الإحالات فلغاية إبراز أن العيطة هي إنتاج فني تم إنتاجه في سياقات اجتماعية مرافقة لسياقات تاريخية ما جعلها محكومة بنواظم باقي المؤسسات التي هيكلت المجتمع المغربي، وهي مؤسسات كلها كانت تعتمد الشفوية في نقل خبراتها، سواء تعلم الأمر بالصنائع، أو بالمهارات المرتبطة بالفلاحة. وهو الأمر الذي ينسحب على الفنون والموسيقى، وكدا الأمور المتعلقة بصيغ التعبد في الزوايا.

 

وجب الإشارة أن هذه الجولات لا تتعلق بـ (الرْمَا) أصحاب الخيمات السوداء المرتبطين في الغالب بجولاتهم أو ما يسمى بـ (الدًوْرْ) بمواسم الصلحاء الموجودين بالقبيلة حيث يضحى ما يقومون به  إعلان عن بداية إقامة موسم صالح من الصلحاء وهذا فيه تعزيز للانتماء وإشهار له. وإن كان (رْمَا) الخيمة السوداء يحظون بالتوقير لاعتقاد الناس حيازتهم البركة، فكذلك أصحاب الخيمة البيضاء يحضون بنفس التوقير لاعتقاد الناس أنهم ناظمي الحب، وهم بذلك "حَبْحَابَةّْ"، وكل "حَبْحَابْ" ينطق بكلام فيه تشوف وقدرة على كشف الحٌجوب عن المستقبل.

 

لهذا فالرًامِي، والمجذوب، والحَبْحَابْ، والمرأة التي تمتلك القدرة على ديباجة المثلات، لهم مكانة اعتبارية داخل المجتمع، على اعتبار القدرة على إنتاج كلام يعطي لأشياء العمران معاني ودلالات، هي غير تلك المعاني المتداولة في الحياة الاجتماعية. فهم وإن كانوا يصدرون عن اللغة فهم يخطون خطوات متقدمة على السلطة التي تحددها اللغة .

 

أصحاب الخيمة البيضاء يلتقون مع تلك المسماة السوداء حين يخصصون مدخل الوجبات لما يسمونه بـ (لَفْرَاجَةْ) لـ "شريفي بويا رحال"، و"بن كبورة أسي احمد".. وعيطة "شريفي بويا رحال" عيطة محورية  للهيمنة المعنوية التي تمارسها الزاوية على سهل الحوز وتساوت، وللمكانة التي تحظى بها عند قسم كبير من الساكنة. ما جعل ذكر "بويا رحال" يخترق الكثير من نصوص العيطة الحوزية، مع تخصيص واحدة له، جعلها شيوخ الخيمة البيضاء كمقدمة لليلتهم، وهي تحمل دلالات التسليم والاستسلام لـ (رْجَالْ لَبْلاَدْ)، فالسيطرة والهيمنة المعنوية لا تكون إلا لرجال الزاوية لاعتبار البركات التي يحوزونها والدور المحوري في التحكيم فيما يطرأ من نزاعات التي يعرفها المجال، هذه العيطة لا تؤدى إلا بآلة "لَوْتَارْ" عكس العيوط اللاحقة التي تؤثث زمن الليلة...

 

- عبد العالي بلقايد، باحث في تراث فن العيطية