ادريس المغلشي: نيرودا لم يمت...

ادريس المغلشي: نيرودا لم يمت... ادريس المغلشي

جاء اسمه لحظة شرود وكأنه رجع الصدى قادم من بعيد يشبه لحد ما تغريدات صباحية منبعثة من شفق الحرية أيقظ في اسمه لحظات عابرة لا يمكن تجاهلها. وبدأت أفتش في ثنايا ذاكرتي عن مصدر هذا الطيف الذي حل بمخيلتي دون سابق إنذار يثير بدواخلي كثير من الأسئلة .

 

من هو؟.. وكيف تسلل لإدراكي وكأني به يذكرني بماضي لا يمكن نسيانه مهما كثرت الانشغالات. لا يمكن تجاهل نيرودا ذاك الشاعر اللاتيني الثائر الذي انتفض ضد طفولة شقية لم ينعم فيها بحنان الأمومة. فكابد ضنك العيش منذ نعومة أظافره. رافعا التحدي ليصل بإبداعاته منتهى شهرة منقطعة النظير. شخصية كلما أمعنت النظر فيها وهي تنشد قصائدها ترجعك حتما لزمن كنا نثور فيه لحظة انكسار أمام منظومة لم تستوعب النقاش الدائر الذي طال بنا ذات مرت في رحاب ثانوية محمد الخامس باب أغمات لمدة شهر ويزيد دون أن نكتب حرفا واحدا في بياض عمر لمدة ليست باليسيرة. فضاق زملاء لنا في الفصل من هذا الوضع وبدأوا يطالبون بتنفيذ المقرر بتدوين شيئا ما يجعلهم يثقون في المستقبل ونحن انغمسنا بشكل هلامي في نقاش فكري. ورفعنا سقفه لأبعد مدى وصرحنا ذات خميس على ما أذكر: نحن من يقرر متى نعبر بوعي من جسر الفلسفة إلى الفكر الإسلامي. بعدما خلصنا في الفلسفة لأرضية تمكننا من عدم التيه في سراديب الفكر ونصبح فاقدي البوصلة.

 

أسسنا منهجا فكريا يشكل أرضية تروم عبورا واعيا يقظا يمتلك مفاتيح النقاش للجولة الثانية حيث نريد كل الأدوات التي تمكننا من الاشتغال بالفكر لنعبر للضفة الأخرى حتى لا يقتادنا أحد كما يقاد القطيع طيعة لراعيها ولا نريده تهريبا للنقاش أو هروبا منه؛ هكذا كنا في رحاب هذه المؤسسة التي نحتفظ فيها بأجمل الذكريات .

 

بدأ الأستاذ تدخله بلطف وهو يزاوج بين التوسل وسلطة قرار للعبور، لكن ثلة قيادة الحوار واعية بمركزية دورها في هذا الأمر. فلم تكن متساهلة فيه لوحده بل تعداه لشقيقاتها العربية والفرنسية وعلى وجه الخصوص اللغة الأجنبية الإسبانية التي فرضنا فيها تغيير أستاذ لأنه غير مواكب للمستوى الذي وصلنا إليه. فرضخت الإدارة للمطلب وجاء أستاذ ثان على عجل معوضا لأستاذة إسبانية غادرتنا دون سابق إنذار فدشن دروسه باختيار ذكي رفع به المعرفة، وكأن به يرسل إشارات قوية أنه مستعد لرفع التحدي في باب المبارزة الثقافية. وقد برهن في أسبوعه الأول أن مؤهلاته فرضت احتراما واسعا كيف لا وقد بدأ بغابرييل خوسيه دي لاكونكورديا غارثيا ماركيث جعلته يلق قبول مجموعة القسم ويفرض احترامه علينا جميعا. شعر الاعتقال والمعاناة الغني بجمله الراقية المعبرة تغني معجم المفردات. بدأنا الغوص في هذا العالم المغري وقد تسلحنا بالرغبة وحدة التنافس، وبدا جليا أن أستاذنا الإسباني نجح في استدراجنا لمواضيع متنوعة وغنية برغبة جامحة لا حدود لها.

 

في خضم هذه الأجواء يطل علينا نيرودا بوجهه الطفولي ليعلمنا كيف نعشق الحياة، وكيف نستطيع أن نحقق النجاحات من رحم الأزمة والمعاناة. كيف لا...! وهو يروض الشعر لينقله من اتجاه عاطفي رومانسي ليصبح سلاحا يؤثر في النقاش العام. اخترق الشعر جدار الصمت ليكتب في سن مبكرة عشرين قصيدة حب وأغنية حزينة يائسة. كتجربة فريدة هكذا بدأ نيرودا محاولاته الأولى حين يستفز الشعر الراقي قريحتك ويدفعك للغوص في مكنوناته لتقف على أسراره وكيف كان سلاحا يخشاه النظام فيثير القضايا المصيرية كما تهتز المشاعر الوطنية. فصار مناجاة للطبيعة والحب والعشق والهيام .

 

صبرا...! لقد أصبح يرثي ظروفا بكناية تقلبات جوية ويحكي مأساة ديمقراطية بهجر الحبيب ويقدم تقارير للفساد كعاهرة تتحدث عن الشرف في منابر إعلامية. ويخطب فينا دينا بورع شديد كقصيدة صوفية. وقد تصبح أرجوزة تنصب لك شراكا من خلال مفرداتها الملغومة.