أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (4)

أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (4) الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني بجانب مشهد من نقل جثمان السلطان لمدينة الرباط

تعتبر عيطة "شريفي سيدي حسن" من العيوط الجميلة والرائعة التي ساهمت في توثيق أحداث تاريخية عاشها المغرب في فترة حكم السلطان المولى الحسن الأول، وتعرضت هذه "القصيدة" للإندثار والتلاشي والنسيان، إلى أن جمع بعض متونها الشعرية شيوخ العيطة من مدينة أسفي، على لسان الرواد من أمثال الشيخ ميلود الداهمو والشيخة عيدة وغيرهم.

ضيف جريدة "أنفاس بريس" الفنان التشكيلي والمبدع الأستاذ حسن الزرهوني استجاب لنداء ثلة من أصدقائه المهووسين بفن العيطة، فغرد بلبل منطقة الكاب، وقام بتفكيك وتحليل قصيدة هذه العيطة في سياقها التاريخي، وشرح مجموعة من متونها ومفرداتها، فكانت فرصة ثمينة لإشراك القراء في هذا الطبق في انتظار تفاعل المهتمين بفن العيطة والموسيقى التقليدية كتراث مغربي أصيل.

"عْوِينَةْ مازي مْورْدةْ خايْلْ ورجْليَة"

قلنا أنه قد وردت عن طريق الخطأ "حبة" في عيطة خربوشة تقول: "عْوِينَةْ مازي مْورْدةْ خايْلْ ورجْليَة"، وعند تفكيك هذا المتن العيطي وتحليله في سياق الأحداث التاريخية يتضح بأن موقع هذه العين المائية لا وجود له سواء في منطقة عبدة عامة أو بمدينة أسفي خاصة بل أنها توجد بمنقطة وادي زم تحديدا؟

من الممكن جدا، أن فرسان القائد عيسى بن عمر عند رجوعهم من الحركات السلطانية الكبرى، كانوا يأخذون قسطا من الراحة بالقرب من هذه العين التي وصفها الناظم/الفارس /الفنان، بأنها مورد مائي مهم للفرسان والخيول وعابري السبيل من الراجلين : "عْوِينَةْ مازي مْورْدةْ خايْلْ ورجْليَة"، من أجل إرواء ظمئهم وظمأ خيولهم. 

"هَاذو لمْزامْزةْ ركْبوا، هاذو الشْرارْدة ساروا"

تقول "الحبة" أو البيت الشعري، "هَاذو لمْزامْزةْ ركْبوا، هاذو الشْرارْدة ساروا"، و من المعلوم أن المسافة الزمنية الفاصلة بين منطقة المزامزة والشراردة بعيدة. إن قبيلة المزامزة بمنطقة الشاوية كانت تتوفر على مجموعة الزوايا، و أصل القبيلة من الأمازيغ و صنهاجة (عرب بنو معقل وبنو سلمي). استوطنوا المجال خلال فترة المرينيين، وقد خاضوا صراعات وحروب كثيرة في عهد الأدارسة والمرابطين ضد مملكة البرغواطيين.

 إن ذكر اسم قبيلة معينة في عيطة "شريفي سيدي حسن" يحيل مباشرة على القيمة الرمزية الدينية لشرفائها وصلحائها (المقدس) مثل زاوية سيدي عبد الله الناصري، وزاوية أولاد عمر الشريف، و زوايا أخرى سواء بقبيلة المزامزة أو قبيلة  الشراردة.

لذلك كان من المفروض من القبائل التي كان يمر منها "رْكبْ" المحلة السلطانية لابد من أن تدعم و يشارك وينْظمْ فرسانها وخيولهم لجيش السلطان، بل تساهم أيضا بالعدة والعتاد والمئونة لمواجهة التمرد وإخماد الانتفاضات (أوردنا سابقا نموذج القائد عيسى بن عمر الذي كان قد ساهم في دعم الجيش بما يقارب نحو 5000 فارس وجواد).

الحديث مع ضيف الجريدة الفنان التشكيلي و الموسيقي حسن الزرهوني حول عيطة "شريفي سيدي حسن" يعيدنا باستمرار إلى ضرورة تفكيك متنها وتحليل الرمزي والدلالي في بعض متونها الشعرية، وضبط  وتحديد المصطلحات الجغرافية ومجالات القبائل المذكورة في غنائها، في تلك الفترة التاريخية من حكم السلطان المولى الحسن الأول.

من بين المتون الشعرية الجميلة التي وردت في عيطة شريفي سيدي حسن بيت يقول : "مالكْ يا عيْن السْبعْ

جيتي ف مرْبْ عالي

 حافوا فيك الهيجات/ الوالعات

 ما صابوا ليك دْخالي"

إن مفردة "الْهايْجاتْ" أو "الْوالْعاتْ" الواردة في المتن لا تختلف في المعنى المقصود ـ حسب الزرهوني ـ الذي أكد على "إنهن الفتيات اللواتي تمردن ضد أعراف وعادات العائلة والقبيلة، وكن مولوعات بالفن والموسيقى والغناء والطرب الشعبي، وهن اللواتي رضخن لميولهن الفني، و غادرن القبيلة من أجل اختيارهن غناء "فن العيطة"، وبسببه تحولن إلى شيخات و رائدات في مجالهن الفني. على اعتبار أن تلك الفترة التاريخية قد اشتهرت بنشاطين أساسيين فقط، وهما نشاط الفروسية و عروض فن التبوريدة نظرا لجماليته وفرجته الترفيهية، ثم النشاط الثاني والمتعلق بفن العيطة.

أما بخصوص معنى "ما صابوا ليك دْخالي" فالشاعر/الناظم يمرر رسالة مشفرة مضمونها تحصين المنطقة وحراستها من طرف الصلحاء والأولياء، وزواياهم التي تدافع عن حضور الجانب الصوفي والديني في العلاقات الإجتماعية والأخلاقية، فضلا عن تمرير رسالة تشبث الساكنة بعاداتها وتقاليدها و ترسيخ خصوصية طابع المحافظة.

دلالة ورمزية كلمة "عين السبع" الواردة في المتن العيطي؟

حسب حديثنا مع الفنان حسن الزرهوني نستنتج بأن كلمة "عين السبع" تحيل على اسم قبيلة، عرفت بدورها مواجهات وحروب كثيرة مع القبائل المحيطة بها، خصوصا "مديونة" و "زناتة" و " وأولاد زيان" و "الزيايدة"، وهي قبائل كانت تابعة لقبيلة "زناتة"، والتي كانت بدورها في صراع مع صنهاجة و مصمودة في زمن ما يسمى بالسيبة.

"عين السبع" التي تعتبر اليوم هي النواة ومركز مدينة الدار البيضاء، كانت قد استوطنتها بعض الطوائف القادمة من الشاوية و مديونة وأولاد حدو، و الهراويين و المعاريف، بالإضافة إلى تواجد بعض الدواوير والمداشر التي يقطنها بعض السكان الذين اضطروا للهجرة بسبب الجفاف و الفقر وتفشي الأوبئة  والمجاعة ، وكانت هذه التجمعات السكانية تستقر تحديدا بسيدي عثمان وسيدي معروف وسيدي رحال.

وهي منطقة كانت معروفة بأراضيها الفلاحية الخصبة والحقول والبساتين (وادي بوسكورة)، وسميت بعين السبع عل اعتبار أنها كانت تتوفر على مساحات كبيرة من الغابات التي تأوي الحيوانات المفترسة ومن بينها الأسود "لقد اشتقت أسماء بعض الأولياء والصلحاء من الأسود، وهناك منهم من لقب بإسمها، والنموذج سيدي علال القيرواني الذي كان يطلق عليه إسم "أبو الليوث"، بحكم أنه عرف بتربيتها وترويضها والتحكم فيها، نفس الشيء ذكره المؤرخون ومن بينهم حسن الوزان بأن "أسفي كانت عبارة عن أدغال وغابات تأويها الحيوانات المفترسة من بينها الأسود" ، وتحكي الروايات الشفهية بأن "لالة فاطنة محمد، كانت تربي أسدا" ونفس الشيء بالنسبة للولي الصالح "مول البري".

"الْبرْنوصي قْبالْةْ حمْريةْ، سيدي حسن ما يْفرًطْ فيًا"

بمدينة "أنفا" قديما كانت منطقة "البرنوصي" قريبة من "عين السبع"، ويحيل إسمها على الولي الصالح "سيدي البرنوصي"، الذي استقر بقبيلة زناتة بعد قدومه من رحلته العلمية والدينية بالمشرق الإسلامي، واشتهرت منطقة البرنوصي لوحدها بالعديد من الأولياء والصلحاء (30 ولي وصالح) مثل "سيدي مول الصبيان" و "سيدي فاتح" و "سيدي أمبارك بودرة" و "سيدي عبد الرحمان"...بالإضافة إلى الولي "سيدي بليوط"، الذي عاصر "مولاي بوشعيب ـ بأزمور"، و "سيدي بلعباس السبتي ـ بمراكش" و " مولاي عبد السلام بن مشيش ـ بالشمال" و "مولاي بوعزة بن عبد الرحمن ـ بزمور".

في كتاب "نزهة المشتاق" يصف مؤلفه الإدريسي منطقتي عين السبع و البرنوصي بالقول: "كانت غاباتها كثيفة الأشجار، ملاذا للحيوانات المتوحشة و الأسود"، وسميت مجموعة من العيون بأسماء "أنواع الحيوانات المتواجدة آنذاك، مثل عين السبع، وعين الذئاب، وعين حلوف". والدليل أن هناك مساحات مهمة من الغابات مازالت موجودة إلى حدود اليوم نذكر منها "غابة بوسكورة، وغابة الكاسكاس، وغابة واد المالح، وغابة واد النفيفيخ..".

بعين السبع كذلك كان يتواجد ضريح ولي صالح مشهور اسمه "سيدي عبد الله بلحاج"، من أصل ركراكي، وقد ورد ذكر اسمه في متن بعيطة "سيدي أحمد" والذي يقول: (سيدي عبد الله بلْحاجْ، باني الزًاوْيا بلْمًاجْ) بحكم أن ضريحه يوجد بمحاذاة شاطئ البحر. في هذا السياق سجل ضيف الجريدة بأن "بعض شيوخ العيطة حوروا اسم هذا الولي الصالح في العيطة  حيث يقولون : (سيد العربي يا بلْحاجْ، باني الزًاوْيا بلْمًاجْ) .

"مدا من جيش حازتو مديونة"

في فترة الحركات السلطانية للمولى الحسن الأول، كانت تمسى بـ "عين مديونة"، نسبة لقبيلة مديونة، (وتسمى أيضا بعين حوت والسوق البالي)، واتخذت هذا الإسم على إثر الصراع الذي دار رحاه بين قبائل صنهاجة وقبائل الحياينة المجاورة لمنطقة مديونة. وهي "من فروع قبيلة صنهاجة ذوي الأصول الأمازيغية، التي كانت تستقر شرق أرض الجزائر، ونظرا للمواجهات والحروب فقد انتقلوا لهذه المنطقة الغنية والخصبة بمواردها المائية (العيون) بحثا عن الأمن والأمان والاستقرار". و ـ حسب بن خلدون في مقدمته ـ "لم يجد تفسيرا لإسم مديونة في اللغة الأمازيغية، وأحاله على التمدين..لأنها قبيلة بربرية بالولاء وليس بالنسب"، وكانت منقطة مديونة تضم العديد من الفرق المنتمية لشجرة بعض القبائل مثل "أولاد مجاط، وأولاد الحاريث، وأولاد حدو، وأهل التيرس، و أولاد مسعود، وأولاد عمر والعمامرة و الجعافرة..".

لقد اشتهرت قبيلة مديونة بسيطرتها على القوافل التجارية القادمة من "فاس" عبر "أنفا" في إتجاه "مراكش" أو العكس، وكانت تفرض ضرائب على القوافل العابرة للطريق التجارية واستخلاص واجبات "الزطاطة" لتأمين تلك القوافل من قطاع الطرق واللصوص.

تأسيسا على ما سبق كانت "مديونة" تعد نقطة تجمع جيوش السلطان المولى الحسن الأول، خصوصا لما يتوقف مدة زمنية معينة من أجل إتمام رحلة المحلة السلطانية، حيث كانت كل القبائل المجاورة توفر مجموعة من المحاربين و الفرسان بخيولهم، بحكم أن ساكنتها كانت ظروفها الاقتصادية لا بأس بها في علاقة مع الفلاحة والحركة التجارية وإمكانياتهم المادية والبشرية منها مثلا الشاوية التي كانت معروفة بتربية الخيول مما حفز الناظم على الغناء بوصفه لـ: "خايْلْ الشًاويةْ جايْبةْ لهْديًةْ" و " لْخيْلْ لْخيْلْ تْعرْيبةْ للشَاوية".