مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (25)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (25) صورتان تحكيان عن ذاكرة رجل التعليم عبد الجليل جبران في أحضان الشايظمة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

 لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم).

في الحلقة الخامسة والعشرين نقدم الجزء الثاني والأخير من ورقة نتناول فيها بعض مظاهر الكرم والطيبوبة في سلوك الإنسان الشايظمي وانخراطه في متابعة دور المعلم والمدرسة في التنشئة التربوية والاجتماعية، حيث نستضيف الأستاذ عبد الجليل جبران الذي قضى ما يقارب مدة خمس سنوات بمجموعة مدارس حد الثوابت ليحكي للقراء عن تجربة رجل التعليم المهنية بين أحضان أهالي بادية الشياظمة، والتي أغنت حياة "لفقيه" المعلم، وأكتسب من خلالها دراية مهمة على مستوى العلاقات الاجتماعية وعادات أمهات و آباء وأولياء تلامذته سواء بفرعية الصعادلة أو بمدرسة منطقة المالح التابعتين لمجموعة مدارس حد الثوابت، حيث تتراقص أمامه وهو يحكي عن رحلة سفره المهنية في كنف كرم وطيبوبة ناس "ركراكة"، صور ومشاهد لأمكنة وشخوص ظلت راسخة في ذهنه ورسمت خرائط جغرافيا عشق الجبل والبحر والغابة وضفاف نهر تانسيفت الشاهدة على محطات إنسانية صقلت مواهبه التربوية والفنية والثقافية والاجتماعية..

 

تعلمت معنى الحياة على ضفاف مصب تانسيفت في حضرة "ركراكة"

يحكي معلم مجموعة مدارس حد الثوابت أنه: "لم أشعر بالغربة في كنف أهالي ركراكة بالشياظمة منذ أن وطأت قدمي تربة أرض أجدادهم.. نسجت علاقات طيبة مع البحارة من شباب المنطقة الذين يمتهنون صيد الأسماك، وتعززت روابط الاحترام والأخلاق مع الفلاحين البسطاء، وأصبحت المدرسة نقطة جذب وتنافس بين الأسر وأبنائهم على مستوى التواصل الدائم والمستمر"، هو أسلوب مهني زاوج بين المسؤولية التربوية والتواصل مع الساكنة التي رحبت بضيف يصفونه بـ "الفقيه".

 

لم يتردد هذا الأخير في توسيع دائرة محيطه الاجتماعي بالمدرسة العمومية وتحقيق بعض رغبات وتطلعات شباب المنطقة "لاحظت أن رجال البحر رجالا وشبابا يخرجون على متن قوارب الصيد للبحث عن رزقهم من بين أنياب كماشة الأمواج العاتية ولا يعودون للدوار إلا في آخر يوم من الأسبوع منهكين القوى، فقررت أن أخفف من تعبهم وأفتح أمامهم فرصة للتخفيف من ضغط المغامرة فقررت إشراكهم في مجموعة من اللحظات الجميلة"، يقول المعلم عبد الجليل جبران.

 

كانت أقوى اللحظات التي انبهر لها أهالي المنطقة رغم غياب الربط الكهربائي حين "اقتنيت جهاز تلفاز صغير بالأبيض والأسود مع بطارية ولاقط هوائي، ووضعت غرفة من الغرف التي شيدها الأهالي بمجهودهم الخاص لاستقبال مجموعة من الشباب لمشاهدة برامج التلفزيون، وكانت كل ليلة سبت تمثل لحظة للمؤانسة وصناعة الدهشة والفرح على وجوه ضيوفي من أهالي الدوار سواء العاملين في البحر أو بعض الفلاحين".

 

هذا العمل الاجتماعي في زمن الثمانينات شكل نقطة تغيير أخرى في سلوك كل من أتيحت له فرصة الاستمتاع بمشاهدة أفلام وتمثيليات وسهرات التلفزيون التي لم تكن متاحة بالبادية المغربية آنذاك "حتى التلاميذ خصصت لهم حيزا زمنيا خارج أوقات العمل لمشاهدة برامج تلفزيونية كانت مخصصة لفئة الأطفال، وتعاملوا مع اللحظة باستغراب واندهاش".

 

رد الجميل والعرفان في ثقافة أهالي الشياظمة كان أكثر حماسا وانخراطا وأضحى مفهوم التطوع والقيام بأعمال التويزة داخل فضاء المدرسة تلقائيا وبمبادرات تطوعية يساهم فيها الجميع "برمجنا أنشطة بيئية وتربوية وقمنا بغرس أشجار الكالبتيس ومتابعة نموها. وتزيين الأقسام، وشارك الجميع في أعمال النظافة بمحيط المؤسسة وتوفير شروط العملية التربوية بشكل تشاركي.. إلى درجة أن أبواب الأقسام والغرف الوظيفية لم تكن لها أقفال ومع ذلك لا يجرأ أي أحد على اقتحامها والعبث بمحتوياتها، بما فيها الحيوانات، خصوصا خلال العطل الدراسية التي كنت أعود فيها لمسقط رأسي". وأضاف قائلا: "لقد أحسست بالاطمئنان والأمن والأمان بين أحضان أهالي المنطقة وأنا أخوض تجربتي المهنية كرجل تعليم.

 

في سياق الحديث عن تجربته المهنية وكيف استطاع تخفيف العبء عن آباء وأولياء التلاميذ بالمدرسة العمومية نظرا للهشاشة الاجتماعية التي كانوا يعانون منها بسط محدثنا تجربة جميلة في الجانب بقوله: "تلقيت مراسلة تؤكد على ضرورة إحضار التلاميذ صورهم الشخصية لإرفاقها بملفاتهم للإدارة، لكن بعد المسافة عن مدينة أسفي ومشاكل ومصاريف التنقل وضعتني في حيرة من أمري لأفاتح الآباء في طلب صور أبنائهم". هنا تفتقت عبقرية رجل التعليم في زمن الثمانينات لتجاوز هذا المشكل بأقل الخسائر المادية الممكنة "سافرت لأسفي وفاتحت مصور فوتغرافي في الأمر لكي يحضر للفرعية وأخذ الصور للتلاميذ، لكنه رفض بحجج موضوعية، واستقر الرأي على منحي آلته المصورة، و قيامي بالمهمة لأنني كنت متمرسا على التقاط الصور في مدينتي". ويستطرد ضيف الجريدة واصفا الحدث الذي رسخ في ذهنه "تحولت بقدرة معلم إلى مصور فوتغرافي بالمدرسة وانبهرت الساكنة لعملي وأثنوا علي بعطفهم لأنهم لم يكونوا قادرين على تلبية طلب الإدارة".

 

تحول الحديث في أوساط مجتمع أهالي الشياظمة عن المدرسة العمومية وسلوك رجل التعليم عصب دورة الحياة على موائدهم وفي تجمعاتهم ومناسباتهم العائلية، مع العلم أن ممثل "المخزن" لم يكن له حضور في هذا المشهد بشكل نهائي:"لم أسجل بشكل قطعي حضور عون سلطة أو تربص عيونه بفضاء المدرسة التي كان يعتبرها الأهالي بأنني المسؤول الأول والأخير عن إدارتها وممارسة مهنتي النبيلة بدون رقابة" يوضح ضيف الجريدة .

 

الوقت الثالث للمعلم في رحاب "ركراكة" كان يقضيه عبد الجليل جبران بين مرتفعات صخور شاطئ البحر رفقة المهووسين بقصبة الصيد ليلا: "كنت أقضي وقتي الثالث في تعلم ثقافة صيد الأسماك مع أصدقائي الصيادين من أبناء الدوار، واكتسبت مهارة الصيد والتعامل مع البحر، وحفظت مصايد الأسماك، وطريقة ومواقيت الصيد"، في هذا السياق يقول الرجل "متعة الصيد ليلا تمنحك خصلة الصبر، والتريث، أمام عظمة البحر وهدير أمواجه التي تتكسر على حافة الصخر وتخرق سكون الليل والمكان".

 

استحضار مشاهد لحظات الصيد بالقصبة مع رفاقه الصيادين في الليالي المقمرة بعد اختيار موقع الصيد (مصيد الدفية الواقي من رياح الشرقي) ألهمت المعلم عبد الجليل جبران للحديث عن ساعاتها الجميلة "على ضوء القمر كنا نعد طاجين بالطريقة الشايظمية باللحم أو السمك على نار هادئة تلتهم أعواد العرعار التي يفوح من دخانها رائحة ممزوجة بعبق ملح البحر، وبالقرب من دفء النار يجلس أحد مهرة إعداد الشاي بطريقته الخاصة، وبالقرب منه عازف متمكن على آلة لوتار يساوي ميزان (العيطة) مع مرافقه على الإيقاع، وتصدح الحناجر بأصوات عيطية تناجي الأولياء والصالحين من رجال ركراكة لحرار".

 

خصص "لفقيه" المعلم ركنا بإحدى الغرف بمدرسته لوضع قصبات الصيد ومستلزمات البحر التي كان يستعملها أبناء الدوار في عملهم المتعب والشاق، وكانت الغرفة تمثل لهم رابطا إنسانيا واجتماعيا وثقافيا -حسب حكيه- "كان أصدقائي الصيادين يعرجون على المدرسة أولا عند رجوعهم من البحر بعلم أسرهم التي اعتادت على هذا السلوك، محملين بنصيبي من مختلف أنواع الأسماك قبل الذهاب لبيوت أسرهم، ويتركون عدة الصيد بالغرفة الخاصة للضيافة، ويبرمجون على وجه السرعة نوع الوجبة الغذائية لتلك الليلة سواء شي الأسماك أو طهيها في الطاجين بطريقة تنم على حس راقي في ثقافة المطبخ الشايظمي، وترتيب ليلة سمر على إيقاع نمط موسيقى وأغاني المنطقة التي كانت تزخر بها وممارسة طقوسهم الاحتفالية البدوية الرائعة...أو الإصرار على مشاهدة سهرة تلفزيونية إذا توفرت شحنة البطارية التي تمد جهاز التلفاز بالطاقة الضرورية ".

 

كرم أهل الشياظمة شكل استثناء سلوكيا عند المعلم وأصر على إشراك القارئ في حدث ضيافة أهل المنطقة "تلقيت دعوة غذاء ببيت أحد الآباء الذي كان في خصومة عادية مع جاره بسبب الأبناء وتمكنت من إبرام صلح بين الأسرتين، وطلب مني أن أحضر رفقة بعض المعلمين ومدير المجموعة المدرسية في الزمان والمكان، وفعلا لبينا الدعوة، لكن بمجرد أن انتهينا من الوجبة الدسمة، وأردنا مغادرة بيت الضيافة، تلقفتنا أيادي جميع الأسر بالدوار من بيت إلى آخر، حيث دام تقديم الوجبات من الساعة الواحدة بعد الزوال إلى غاية السابعة مساء إرضاء للأهالي المتنافسين في كرمهم لرجال التعليم".

 

في ليالي رمضان اختلفت طقوس وعادات أهالي الدوار عن الأيام العادية، وانخرطوا بسخاء في تقاسم كرمهم الحاتمي مع معلم أبنائهم بالمدرسة العمومية "كانت تعج موائدنا بمختلف أنواع الأطباق الرمضانية، كل أسر التلاميذ تتسابق قبل آذان المغرب لتقديم وجبات الإفطار بما تشتهيه النفس الصائمة، من شربة الحساء (الحريرية) و أباريق القهوة والشاي والفطائر والحلويات والثمور والتين والأسماك وصحون الزيت البلدي وأركان.. ونفس الشيء بالنسبة لوجبة العشاء والسحور"...

 

هذه هي طباع أهالي ركراكة بمنطقة الشياظمة، وخصالهم الإنسانية والاجتماعية في علاقة بحبهم لطلب العلم واحترامهم للفقيه ورجل التعليم الذي يعتبر في عرفهم ناشر رسالة القراءة والكتابة والمعرفة -حسب تجربة ضيف الجريدة الأستاذ عبد الجليل جبران- الذي مازالت تربطه علاقة قوية بالمنطقة وأمكنتها وشخوصها.