محمد بوبكري: النزعة القومجية تقتل الشعوب وتفتت الأوطان وتنتحر

محمد بوبكري: النزعة القومجية تقتل الشعوب وتفتت الأوطان وتنتحر محمد بوبكري

عندما نتأمل في مختلف الأبحاث الأكاديمية التي أجريت حول النزعة القومجية نجد أنها تكاد تجمع على أن القومجية هي امتداد لثقافة القبيلة التقليدية في الجزيرة العربية أيام الجاهلية. لقد كانت القبيلة هي نواة المجتمع الصحراوي البدوي، حيث كان يعيش البشر في قبائل تجمعها روابط القرابة. ونظرا لكونها ترتحل وراء الماء والكلأ والعشب وخيرات طبيعية أخرى، فإنها لم تكن مرتبطة بمكان، حيث لم يكن لها ارتباط عاطفي بأي فضاء. فإذا جفت منابع الماء، وضرب الجفاف المكان الذي تقيم فيه القبيلة مؤقتا، فإنها تستأنف الترحال بحثا عن مكان آخر تتوفر لها فيه مقومات العيش. وإذا تاهت في الفيافي، ولم تجد موضعا ملائما لعيشها، فإنها تلجأ إلى خوض "صراع صفري" ضد قبيلة أخرى تعيش في مكان آخر تتوفر فيه شروط الحياة. والمقصود بالصراع الصفري أنه صراع وجود، ومعناه هو أن أوجد أنا أو أنت، ولا يمكن أن نتعايش معا، أي "إما أنا أو أنت". فالثقافة القبلية تقتضي من القبيلة الدخول في صراع ضد القبائل والأقوام الأخرى، لأنها تعتقد أن القضاء على القبيلة الأخرى هو الحل الوحيد لاستمرارها في الوجود. هكذا، فإن قسوة الطبيعة طبعت البدوي، وجعلته ينظر إلى الموت بكونه شيئا اعتياديا. وإذا كانت ظروفه الطبيعية قد جعلته ينخرط في صراع مع الآخر من أجل البقاء، لأنه يعتقد أنه بدون تصفيته للآخر، فإنه حتما سيموت جوعا، فإنه أصبح مقتنعا أن استمراره في الحياة رهين بالقضاء على غيره.

 

هكذا، فإن الثقافة القبلية تعتقد أن زوال الآخر شرط لبقائها. ومن هنا جاء رفضها للآخر وكراهيتها له. فلكي أوجد يجب أن أقتل الآخر لأتمكن من أن أحل محله. لذلك فإن استراتيجية "إما أنا أو أنت" هي استراتيجية عدوانية همجية؛ إنها دعوة إلى الحرب والدمار. لهذا، يرفض القومجيون اليوم الحوار مع إسرائيل من أجل السلام في الشرق الاوسط. وهذا ما جعلهم لا يقبلون باتفاقية الرباط بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، كما يمكن تفسير موقفهم السلبي من هذا الحوار بكونهم يسترزقون بالقضية الفلسطينية، ويريدون دوام هذا النزاع حتى لا يتحولوا إلى أناس بدون مهنة ولا مدخول. لذلك، فقد جعلوا من القضية الفلسطينية مصدرا لكسب قوتهم....

 

وعندما نتأمل في ثقافة النزعة القومجية وممارستها اليوم، نجد أنها ترفض الآخر ولا تقبل بوجوده، ولا حتى بالحوار معه. إنها ترفض اعتماد إستراتيجية "و...و..." التي هي استراتيجية الانفتاح والاكتشاف، وقبول الغيرية والتجديد والتنمية، وما لم يكن منتظرا؛ لذلك، فهي تقدس الانغلاق والجمود والتكلس، ولا تقبل التغيير والتطور والانفتاح والاكتشاف والإبداع. إنها تريد إرجاع مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أصل ثقافي واحد، ما يعني أنها لا تعترف بتعدد الثقافات واللغات والفنون والخصوصيات....  ولا يرفض هذا التعدد إلا الذين لا يفقهون شيئا في مبادئ علم الاجتماع ولا يعرفون تاريخ بلادهم. فخرافة الأصل السلالي أو الثقافي الواحد لا صحة لها في أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة على الإطلاق، وهي نادرة، ولا توجد إلا في الجماعات المتوحشة.

 

ويمكن تفسير النزعة التوسعية للقومجيين بالأصل الثقافي القبلي لهذه النزعة، التي لا تقبل التعدد، ولا ترى فيه إغناء لثقافتها، بل إنها تنزع إلى محو المختلف بغية القضاء عليه، أو قبوله بالانصهار في ثقافتها المنغلقة، التي زجت بمجتمعات الشرق الأوسط في حروب مأساوية عبر تاريخها. فالقومجية وأختها الطائفية تمزقان المجتمعات وتفتتان الأوطان...

 

وعندما نلاحظ ما يجري في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نجد أن الثقافة القومجية تدفع في اتجاه التوسع والهيمنة، ما انعكس سلبا على بعض الدول التي تحكمت فيها قومجية عمياء، حيث إن ما تعيشه العراق وسوريا وليبيا واليمن اليوم من تطاحنات داخلية هو ناجم عن النزعة القومية التي رسخت الاستبداد في هذه البلدان. لذلك فالقومجية لا تنجب إلا الاستبداد والتسلط الذي يفتك بالشعوب وبنفسه وبالوطن في آن واحد، وبالتالي لا نجد اليوم تجربة سياسية قومجية ناجحة واحدة. ونظرا لنزعتها القبلية، فهي لا تؤمن بالوطن، ولا بالمواطنة. ولا بالديمقراطية. إنها تلغي الفرد وتسعى دواما إلى التوسع بغية الهيمنة على غيرها، ما جعلها مأخوذة بالحرب ضد الآخر الذي غالبا ما تكون عاجزة عن خوض الصراع معه، لأنها لا تمتلك وسائل ممارسة هذه الحروب.