محمد بوبكري: الجزائر في كف عفريت

محمد بوبكري: الجزائر في كف عفريت محمد بوبكري
لقد سبق أن أشرت في ورقة سابقة إلى أن الجنرالات سعيد شنقريحة وخالد نزار وتوفيق قد تحالفوا للانقلاب على الجنرالات أتباع "القائد صالح". ومن المعروف أن الجنرال خالد نزار قد تعود على خلق شروط لتسويغ انقلاباته، من خلال اختراق تنظيمات مدنية وتوظيفها لخلق حراك في الشارع العام سرعان ما يضع حدا له. كما يقوم باختراق صفوف جماعات الإسلام السياسي الإرهابية وتمويلها وتدريبها وتسليحها وتكليفها بالقيام بعمليات إرهابية، يقوم هو وعصابته، عند حدوثها، بالتصدي لها حتى يبدو في أعين الرأي العام أنه بطل منقذ من الفوضى والإجرام، وضامن الاستقرار. لكن هذه الأساليب والصيغ قد أصبحت بالية، لأن الرأي العام بات يعيها ولم تعد حيلتها تنطلي عليه. وأخيرا، وبعد عودة الجنرال خالد نزار من منفاه الإسباني وخروج توفيق وآخرين من السجن وحصولهم على براءتهم بقرار من الجنرال "سعيد شنقريحة"، فكروا جميعا في عملية انقلاب يستولون بها على السلطة، وينقضون على خصومهم، فتفتقت عبقرية خالد نزار، كعادته، على تحريك الشارع العام مرة أخرى، كما قام بافتعال مشاكل على الحدود المغربية الجزائرية، فدفع بميليشيات "البوليساريو" لاحتلال معبر "الكركرات"، ووظف مختلف وسائل الإعلام التابعة له بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي التي يمولها، من أجل إلهاء الجزائريين وإقناعهم بأن هناك خطرا خارجيا يتهدد الجزائر يستوجب عليهم الاصطفاف وراءه، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، لأن الشعب الجزائري صار يعي كل تحايلات وافتراءات الجنرال خالد نزار وأفراد عصابته، لأنهم سبق أن دبروا "العشرية السوداء" التي قتلوا فيها نصف مليون جزائري. ونظرا لتغير الظروف والأحوال في بلاد الجزائر، فإن هذا الجنرال لم يجد سبيلا لتطبيق أسلوبه القديم المتجاوز المبني على التحايل والتضليل لمنح شرعية لما يقوم به من تقتيل حتى تستتب الأوضاع له، ويستولي على السلطة ويتمكن من تصفية خصومه، فلجأ هذه المرة إلى استصدار قرارات إقالة بعض الجنرالات والضباط الذين لا يرضى عنهم، كما دبر اغتيال بعض الذين لا يتفقون معه، ويعتقد أنهم كانوا في صفوف الجنرال " القايد صالح"، الذي كان قد حكم على خالد نزار وعصابته بالسجن.
ولما أغلقت في وجه الجنرال الآفاق، ولم يجد إمكانية للسطو على السلطة بأسلوب يلمع صورته، لجأ إلى الدفع بـ "الجنرال سعيد شنقريحة" إلى إقالة خصمه اللذوذ "الجنرال علي بن علي" حتى يتمكن من إزاحته من الطريق، لكن هذا الأخير رفض التوقيع على قرار إعفائه من مهامه وإحالته على التقاعد، لأنه يعي جيد أنه إذا قبل ذلك، فان الخطوة الموالية ستكون هي اغتياله، أو اعتقاله ومحاكمته، في أحسن الأحوال. ولما تمسك الجنرال علي بن علي بالبقاء بمهامه على رأس الجيش الجمهوري، استشاط خالد نزار غضبا، وانفعل، وأمر "سعيد شنقريحة" بتصفيته جسديا، وقام هذا الأخير بتكليف الجنرال "مصطفى سماعلي" قائد الناحية العسكرية الأولى بتنظيم هجوم مسلح عليه واعتقاله، فتم الهجوم على قصر "المرادية" بالجزائر، فكانت ليلة يوم السبت الماضي ليلة دامية بين الحرس الجمهوري بقيادة الجنرال علي بن علي وقوات الجنرال مصطفى سماعلي الموالي للجنرال "سعيد شنقريحة".
وقد سقط في هذه المواجهة المسلحة ضابط برتبة جنرال، كما جرحت مجموعة من الكولونيلات والضباط الذين رفضوا جميعهم تلقي العلاج بالمستشفى العسكري "عين نعجة" الواقع قرب الجزائر العاصمة، الذي يسمونه "مقبرة العسكر"، لكونه مشهورا بتصفية الجنرالات والضباط المغضوب عليهم بواسطة الحقن المسمومة. وقد تم نقل هؤلاء الضباط الجرحى على وجه السرعة على متن طائرة إلى مستشفى بالعاصمة الإيطالية، روما. وكان ذلك تحت حراسة الاستخبارات الخارجية التي يرأسها اللواء "نور الدين مقري" المتورط هو نفسه في هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ورغبة في عدم افتضاح أمر الجنرال خالد نزار وعصابته، فقد قاموا كعادتهم بتوظيف مختلف وسائل الإعلام بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر وفي موريتانيا للترويج لهجوم وهمي قامت به مليشيات "البوليساريو" على معبر الكركارات، وذلك بهدف التغطية على ما حدث في "قصر المرادية" من مواجهة دامية بين الأجنحة المتقاتلة داخل الجيش الجزائري...
يؤكد هذا الحدث الدامي أن الجزائر قد أصبحت من جديد في قبضة الجنرال خالد نزار الذي سماه ابنه في تغريدة له على صفحات تويتر بـ" السفاح"، لأنه قتل زوجته بدم بارد أمام أعين أبنائها قبل أن يحضر إلى البيت زوجته الثانية. وبعد عملية القتل، أمر صديقه الجنرال توفيق بأن يقوم أفراد الأمن التابعين له بجمع أشلائها، وتنظيف منزله من دمها، وتكفينها ووضعها في صندوق، ثم نقلها إلى قبرها...
لذلك، فهل يمكن لمن قتل زوجته أمام أبنائها أن يرأف بالشعب الجزائري ويخدمه؟! إنه سيقتله تقتيلا بدون شفة ولا رحمة، لأنه لم يرحم زوجته وأم أبنائه، لمجرد أنها اعترضت على تركه إياها وزواجه من امرأة أخرى. وقد كان اغتيال زوجته الأولى أمام أعين أبنائها سببا في إصابتهم بعاهات نفسية مستديمة...
يؤكد الانقلاب الأخير الفاشل أن خالد نزار ما يزال يتربص بالجزائر، حيث يبذل كل ما في وسعه للانقضاض على السلطة. ولحد الآن ما يزال أغلب المتتبعين لا يعرفون القوى التي تقف وراء خالد نزار، ولا مصلحتها في ذلك. ويفسر بعضهم عودته بهشاشة الوضع السياسي في الجزائر وضعف الأحزاب والمجتمع، وعجز سعيد شنقريحة ومعاونيه... وتجدر الإشارة إلى أنه ظل يتمتع براتب شهري لوزير الدفاع لأنه كان يشغل هذا المنصب، كما سيتمتع بهذا الراتب ومزايا أخرى طيلة حياته. أضف إلى ذلك أنهم منحوه شركة تذر عليه دخلا سنويا ربحا يقدر، على الأقل، بـ 60 مليار دينار جزائري.
يرغب هؤلاء الجنرالات في التحكم في خيوط السلطة، كما أنهم يرفضون الوصول إلى منصب رئاسة الدولة، لأن ذلك سيفضح فسادهم، وسيعرضهم للاغتيال. فهم واعون بدروس التاريخ الجزائري الذي يؤكد أن مصير رئيس الدولة يكون دائما هو الاغتيال أو السجن أو المنفى في أحسن الأحوال. إنهم يريدون التحكم في أجهزة الدولة، لا الرئاسة، لأن التحكم يمكنهم من السطو على أموال الشعب الجزائري وتهريبها إلى الخارج بهدف إيداعها في المصارف الأجنبية، أو استثمارها في مختلف القطاعات هناك. إنهم لا يؤمنون بالجزائر وطنا لهم، بل استبدلوا وطنهم الأصلي بحساباتهم البنكية في الخارج. لذلك، فلا غيرة لهم على الجزائر التي ينهبون أموال شعبها، ويهربونها إلى الخارج، لأنهم يكرهون الجزائر التي ينهبونها، ولا يحبون إلا أرصدتهم البنكية وممتلكاتهم في الخارج التي يسعون إلى تنميتها باستمرار على حساب القوت اليومي للجزائريين.
وما دامت الجزائر في قبضة جنرالاتها الدمويين، فإنها ستظل في عزلة عن جيرانها، كما ستبقى مرفوضة من قبل المحيط الدولي. فهؤلاء الجنرالات أهملوا الشعب الجزائري ولم يتوقفوا عن تفقيره وتجهيله، حيث ينهبون عائدات النفط والغاز الجزائريين عبر الصفقات الوهمية ويهربون الأموال إلى الخارج، كما يبالغون في التسلح ضد جيرانهم غربا وشرقا وجنوبا، ويتدخلون في الشؤون الداخلية لجيرانهم بهدف التوسع على حساب أراضيهم، وهو أمر صار مكلفا للبلاد. كل هذه العوامل وغيرها هي التي أغرقت الشعب الجزائري في مشاكل اجتماعية تكاد تخنق أنفاسه.
هكذا يتبين أن هناك صراعات بين جنرالات الجيش على السلطة والمال، كما أن هناك مشاكل اقتصادية واجتماعية تعيشها البلاد. ونظرا لانعدام أي حس وطني لدى حكام الجزائر، وجهلهم وافتقارهم لأي مشروع تنموي سليم، فقد أصبحت الجزائر مجتمعا بدون دولة، ما لا يبشر بالخير، حيث بات مستحيلا أن تعرف هذه البلاد النماء والاستقرار وتبقى بعيدة عن الفتن والاقتتال.
ومع ذلك، أتمنى أن تتوفر شروط الاستقرار والنماء للشعب الجزائري عبر إقامة دولة مدنية ديمقراطية. وهذا أمر يبقى من اختيار وإنجاز الشعب الجزائري الشقيق.