رشيد صديق الصغير: استعادة الثقة

رشيد صديق الصغير: استعادة الثقة رشيد صديق الصغير

على هامش الفيضانات التي تعرفها بعض المدن والمناطق المغربية، وخصوصا في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، وفي سياق تداعياتها (الفيضانات)، والمتمثلة في تعرية هشاشة البنيات التحتية، وانهيار المنازل القديمة وسوء تدبير الشأن العمومي؛ "أنفاس بريس" تعيد نشر هذا المقال للأستاذ رشيد صديق الصغير، خبير محاسب، الذي سبق وأن نشرته في شهر شتنبر من العام 2017:

 

"جاء الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش في وقت مناسب وضمن سياق اجتماعي واقتصادي كشف عن العديد من الاختلالات على مستوى تدبير الشأن العمومي، والذي أصبح محط احتجاج واستنكار متزايد من طرف الرأي العام، وضع يترجم امتعاضا وفقدانا للثقة لدى المواطن تجاه الهيئات المكلفة بالحكامة.

 

هذه الوضعية تأتي بعد مرحلة انتظار تلت الانتخابات والتي لم تمكن نتائجها من تشكيل حكومة إلا بعد أن تدخل الملك- بعد عدة محاولات- لتجاوز هذا المأزق...

 

فإلى جانب الأثر الاقتصادي السلبي لوضعية الجمود والانتظار، فإن الملاحظة البارزة هي أن فقدان الثقة لدى المواطن يجد ما يبرره من خلال هيمنة الحسابات السياسوية التي تحجب المصلحة العامة وتهدد مصلحة أمة بأكملها .

 

وبعيدا عن الاعتبارات السياسوية' فإن تحليل الوضعية يسمح بالرجوع إلى جملة من المبادئ الأساسية التي يجب بالضرورة أن تحكم حياة التنظيمات أيا كانت طبيعتها.

 

يقول ستيفان م.ر. كوفي (Stephan.M.R. covey) في كتابه القيم "سلطة الثقة" (Le pouvoir de Confiance): "الثقة المتدنية تخلق البلادة، والمغامرات السياسية، والصراع بين الأشخاص، والتنازع بين المصالح، وأنماط تفكير -رابح/ خاسر-". ومن هذا المنطلق تكون الثقة هي العنصر المشترك بين الأفراد والفرق والعائلات والمنظمات والأمم والاقتصادات وكل ثقافات شعوب العالم. وبإلغائها يمكن تدمير أي حكومة مهما كانت قوتها، وأي اقتصاد مهما كان صلبا وأي مقاولة مهما كانت مزدهرة وأي صداقة مهما كانت متانتها وأي حب مهما كان عمقه.

 

فالأمر يتعلق في الواقع بإعادة بناء العلاقة المنفرطة بين الحاكمين والمجتمع. إن "ديمقراطية الثقة" تقتضي حكامة جيدة، لكن أيضا تشترط حاكمين جيدين.. وإعادة الثقة تقتضي توفير عناصر أساسية:

1- قول الحقيقة وبصدق.

2- احترام الواقع الاجتماعي والكرامة.

 

ولأجل ذلك يجب ليس فقط وضع مقاربة ترتكز على الممارسات الفضلى للحكامة من خلال آليات المراقبة والتواصل والإخبار الدوري بالحصيلة والنتائج.

ومن المؤسف أن نلاحظ بأن "الناس يبنون الكثير من الجدران ولا يبنون ما يكفي من القناطر". فالحكامة الجيدة تفرض وتقتضي وضع صمامات أمان من شأنها أن تقي وتمنع وقوع المخاطر المرتبطة بحماية الأصول (Actifs) وحماية جودة المعلومة وتطبيق الاستراتيجيات والسياسات المحددة .

 

إن الحكامة الجيدة تضمن انخراط المحكومين من خلال الثقة التي تخلقها وتغذيها. وهي تجبر كذلك الحاكمين على تقديم الحساب وكشف الحصيلة التي تسمح بتقييم الإنجازات وأيضا تمكن من تصحيح الاختلالات والفوارق الملاحظة مقارنة بالأهداف المحددة .

 

يقول مثل صيني "أفضل وقت لزرع الشجرة هو قبل 20 سنة، وإلا فاليوم". والأفضل بالنسبة للحاكمين هو أن يعرفوا كيف يبنون الثقة أو إعادة إصلاحها عندما تتضرر.

 

لقد كانت سعادتي كبيرة وأنا أعيد قراءة الدستور وأكتشف قيمة بعض مقتضياته -التي كنا نقرأها دائما بشكل سطحي- حق قدرها .

والفصول من 154 إلى 160 من الدستور تشكل في هذا الصدد باقة من المبادئ والإجراءات التي تمكن من إرساء الحكامة الجيدة على مستوى تدبير الخدمات العمومية.

فإلى جانب المبادئ المؤطرة لمساوان المواطنين في الولوج إلى الخدمة العمومية، يركز الفصل 154 من الدستور على معايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية.

 

على مستوى آخر، يضع الفصل 156 من الدستور على عاتق المصالح العمومية جملة من الالتزامات تتعلق بـ:

- الإنصات للمرتفقين ومتابعة الملاحظات والاقتراحات والتظلمات.

- ضرورة تقديم الحساب فيما يخص تدبير المال العمومي وإخضاعه لمقتضيات المراقبة والتقييم.

وفي سياق نفس الأفكار، يفرض الفصل 158 من دستور يوليوز 2011 على كل شخص منتخب أو معين التصريح بممتلكاته عند تسلم مهامه وخلال فترة تدبيره وفي نهاية مهامه.

وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن دستور 2011 كرس دور المجلس الأعلى للحسابات برفعه إلى مرتبة مؤسسة دستورية عليا لمراقبة المالية العمومية للمملكة وضمان استقلاليته .

 

وتحدد الفصول من 147 إلى 150 من الدستور اختصاصات وصلاحيات المجلس الأعلى للحسابات وحدد له على الخصوص المهام التالية:

- تعزيز وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة.

- ضمان المراقبة العليا لتنفيذ قوانين المالية (قانونية المداخيل والنفقات بالنسبة للهيئات والمؤسسات الخاصعة لمراقبته وتقييم تدبيرها).

- زجر الاختلالات فيما يتعلق بالقواعد التي تحكم العمليات المنجزة.

- مراقبة ومتابعة التصريحات بالممتلكات.

- افتحاص حسابات الأحزاب السياسية والتحقق ومراقبة سلامة النفقات المرتبطة بالعمليات الانتخابية.

- مساعدة البرلمان والهيئات القضائية والحكومة من خلال تقديم الاستشارات.

- ضمان مراقبة حسابات وتدبير الجهات وباقي الجماعات الترابية وتجمعاتها من خلال المجالس الجهوية للحسابات.

 

وتجدر الإشارة كذلك إلى أن المجلس الوطني للمحاسبة في جلسته المنعقدة يوم 17 يناير 2001 صادق على المخطط المحاسباتي الوطني للدولة وكذا توصية المجلس الوطني للمحاسبة في اجتماعه بتاريخ 15 يوليوز 2008 بإخضاع مشروع المخطط المحاسباتي للجماعات المحلية وتجمعاتها للمعايير والقواعد الدولية.

 

ومن المؤكد أنه لا الدولة ولا الجماعات المحلية مقاولات هدفها تحقيق الربح. يتعلق الأمر بمهمة تحقيق المصلحة العامة وبالتالي هناك اختلافات وخصوصيات تميز حساباتها عن حسابات المقاولة الخاصة.

 

وهكذا إذا اعتبرنا الترسانة القانونية الخاصة بالمقاولات التي تقدم طلبات عامة لجلب الادخار، سنجد أن عدة قواعد تتعلق بالمعلومة وحماية المستثمر/ المدخر ملزمة وأكثر صرامة مقارنة بالقواعد المنصوص عليها بالنسبة للدولة والجماعات الترابية.

 

وجدير بالذكر أن هذه الترسانة (المنصوص عليها في الظهير بمثابة قانون رقم 1-93-212 الصادر في 21 سبتمبر 1993) الموجه لحوالي 75 مقاولة مدرجة في البورصة تشرف عليها الهيئة المغربية للأسواق المالية (AMMF) تنص على قواعد منها:

- احترام قواعد صارمة جدا للإدراج في البورصة.

- نشر المعلومات دوريا -كل ستة أشهر- حول وضعيتها وكذا شهادة مراقب للحسابات تِكد صحتها.

- نشر حصيلة تركيبية عن كل سنة وتقرير مراقب الحسابات المتعلق بها .

- نشر أي فعل أو حدث يقع في تنظيمها أو وضعيتها التجارية أو التقنية أو المالية قد يكون له تأثير ملموس على قيمة أسهمها في البورصة أو على ثروة حاملي السندات.

 

إن القواعد الموضوعة من أجل تأمين حوالي 75 شركة مدرجة في البورصة وتلك المتعلقة بـ 12 جهة و75 عمالة وإقليم و1503 جماعة ترابية تدفع إلى التفكير وتبرر ضرورة إعادة النظر والتفكير في قواعد التواصل ونشر المعلومة بالنسبة للجماعات الترابية والمصالح العمومية.

 

وفعلا فالسياق الحالي المتميز بالاهتمام المتزايد للمواطن بتدبير الشأن العمومي واتساعه من خلال التطور الهائل وغير المسبوق لشبكات التواصل الاجتماعي مع كل مخاطر الانزلاقات التي يمكن أن ينطوي عليها، لابد من تخصيص مكانة مهمة لحق المواطن في المعلومة الذي يجب أن يصبح قاعدة عادية تشكل عقوبة دائمة (سلبية أو إيجابية) تضمن الحكامة الجيدة والشفافية المنصوص عليها في الدستور وتفرض تعبئة الكفاءات المشهود لها في تدبير المرفق العمومي.

 

ويجب التذكير كذلك بأن أغلب المؤسسات الكبرى المدرجة في البورصة تتوفر على هيئات داخلية مكلفة بتدبير تواصلها المالي والتي تساهم في الاستجابة لمتطلبات المستثمرين فيما يتعلق بجودة ومصداقية ووفرة المعلومة المالية.

 

ففي الأسواق الصاعدة يساهم توفر المعلومة المالية الجيدة في إرساء ثقة المستثمرين. وسينطبق نفس الأمر بالنسبة للخدمات العمومية والجماعات الترابية إذا ما جعلنا المعلومة الصحيحة متاحة بالنسبة للمواطن المفروض أنه محور اهتمامات المرافق العمومية.

 

إن تدخل هيئات خارجية للافتحاص والمراقبة مستقلة، مسؤولة وتتوفر على الكفاءة اللازمة، ستسمح بإرساء ثقافة "تقديم الحساب" ولا يمكنها إلا أن تعزز الثقة التي لا يجب أن تلغي بأي حال من الأحوال المراقبة.

 

فالمعلومة الصحيحة والمضبوطة قبل أي إخبار عمومي، تسمح بقطع الطريق أمام حالة الفوضى والخلط وانتشار الإشاعة التي تستعمل في الغالب لتصفية الحسابات.. بعيدا عن أي اعتبار يسمح بإبراز النجاعة والفعالية وتشجيع الكفاءات، وبالأخص تعزيز تلك الثقة التي ستشجع المواطن على الاهتمام أكثر والتفاعل بشكل إيجابي مع تدبير جماعته وبلاده ومن تم وضع تدبير المنتخبين والمسؤولين عن المرافق العمومية أمام الامتحان.

وبالتالي سيكون دور المواطن ذا قيمة لكونه سيكون في قلب النظام في إطار "التدبير الجيد للعلاقة مع المواطن، هذه العلاقة المدعوة للتحسن باستمرار.

 

وهكذا سيتعزز أكثر دور مجلس الحسابات وهيئات المراقبة والافتحاص الداخلية والخارجية الأخرى، وستساهم بشكل أكبر في ضمان سلامة ومصداقية العمليات وتحسين انجازاتها.

 

إن الشفافية وتوفير المعلومات للمواطن ستسمح أيضا بخلق المنافسة بين الأشخاص المعنيين والمنخرطين في تدبير المصلحة العمومية، وكذلك بين مختلف المصالح والجماعات بشكل يبرز الإنجازات والتصرف المناسب عند وقوع الانحرافات المحتملة عن الأهداف المرسومة".

 

رشيد الصديق، خبير محاسب ومؤسس مكتب الصديق للخبرة وشركاؤه