مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (12)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (12) الفنان المبدع أحميدة الباهيري يتوسط مول العودة ووجبة كسكس ركراكة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

 

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم ) .

في هذا السياق نقدم الحلقة الثانية عشر من هذه السلسلة، والتي استضافت من خلالها الجريدة فنان الظاهرة الغيوانية، مؤسس مجموعة أبنات الغيوان المبدع أحميدة الباهيري، ليروي لنا قصة ذكريات ارتباطه الروحي والعاطفي مع تربة صلحاء ركراكة، ومن هي الشخصيات التي أثرت في مساره الطفولي، وساهمت في مشواره الإبداعي، وعلاقته بالأمكنة التي ظلت راسخة في ذهنه وشكلت انعطافة في حياته الفنية، وخصوصا ملهى "رياض فاس" لمالكه البطل العالمي في رياضة المصارعة الأمير العياشي الركراكي.

 

زواجي برفيقة دربي هبة ربانية استجابة لأدعية شرفاء ركراكة

كانت الرحلة في سن مبكرة لبادية أرض "ركراكة" سنة 1962، رفقة أسرة جيران الزقاق والحي بمدينة الدار البيضاء غنية بالمشاهدات والصور التي ترسخت في ذهن الطفل أحميدة، وحمل معه بعضا من مفردات البادية وطريقة لعب أطفالها، و بالطبع حكى عند رجوعه كبطل من إجازة عطلة الصيف لأقرانه من أبناء الحي وتقاسم معهم كل ما شاهدته عينة وسمعته أذنه من حكايات وقصص وأحداث عاشها وخالط شخصوها وحيواناتها وأمكنتها وفضاءاتها الجميلة مدة شهر ونصف في ضيافة أناس طيبين وبسطاء.

تلتهم السنين دورة الحياة الطبيعية بكل إكراهاتها وإخفاقاتها ونجاحاتها، وينمو ويكبر معها الطفل أحميدة في أحضان بيت والديه، حيث كان في بعض الأحيان يختلي مع نفسه ويعيد شريط ذكرياته الطفولية، ويتفحص بدقة تفاصيل رحلة عطلة الصيف إلى بادية "ركراكة" التي يعيش أهاليها بالكفاف والعفاف والقناعة، ويتميز أناسها بالجود والكرم والسخاء. ويبتسم وحده لمواقف إنسانية ظل يعتبرها تجربة رائدة في تكوين شخصيته

كان يتساءل كلما استحضر رحلته المبكرة:" كيف استطاعت تلك العائلات المتواضعة والبسيطة أن تتكيف مع واقعها المعيشي خلال فصول السنة المتقلبة المزاج والمفاجآت، في غياب مرافق صحية وتربوية واجتماعية وانعدام بنية تحتية من طرقات وكهرباء وماء؟ و يسأل نفسه في أحايين كثيرة عن أفق انتظارات أطفالهم وعوائلهم، و رغباتهم وطموحاتهم الاجتماعية والمادية والمعنوية والنفسية؟ "

في سياق حكيه عن درس الرحلة يقول أحميدة "تعلمت من رحلتي المبكرة لأرض ركراكة معنى قيم التضامن والتعاون، وتقاسم العمل، وتوزيع الأدوار داخل الأسرة البدوية بمنطقة الشياظمة.." وهذا ما عاينه سنة 1962 " هناك من تسند إليه مهمة إخراج الدواب والبهائم باكرا نحو المرعى، ومن يجلب الماء على متن ظهر الحمار، وهناك من تقوم بتنظيم وتصفيف الأفرشة والأغطية وكنس الفضاءات والغرف، وفتاة أخرى تشمر على ذراعيها داخل المطبخ (الكوشينة التقليدية) لإعداد وجبات الأكل ..بعد جني ما تزخر به بقعهم الزراعية الصغيرة من خيرات"، يوضح ضيف الجريدة الفنان أحميدة الذي تشكلت شخصيته بعجين من ماء و طين وملح أرض البادية ونكهة رائحتها الساحرة.

اشتد عود الشاب أحميدة الباهيري خلال بداية مشواره الفني سنة 1999، ومن مكر الصدف، شاءت الأقدار أن يربط علاقة صداقة مع أحد أبناء قبيلة ركراكة الذي كان يقيم  مع أسرته في الدار البيضاء، وتجاذبا أطراف الحديث الذي ساقهما للكلام عن المجال الجغرافي لحاضرة المحيط أسفي ومنطقة الشياظمة و حاحا ودور ركراكة وسبعة رجال، وأحس بنوع من الحنين لذكريات السفر الأول "حكيت لصديقي عن تفاصيل سفري للمنطقة وأنا في سن السادسة من عمري سنة 1962، وكانت جلساتنا الحميمية فرصة سانحة لإنعاش ذاكرتي الطفولية وتمنيت لو خصصنا زيارة لأرض صلحاء ركراكة لإحياء صلة الرحم مع الطبيعة و الأرض والإنسان وتجديد دماء قصة رحلتي المبكرة"

هكذا سيجد الفنان أحميدة نفسه مدعوا من طرف صديقه الركراكي  للسفر مرة ثانية بقرار شخصي بعد أن استقل مادي ومعنويا وفكريا لكنه مازال دون زواج في تلك اللحظة "استمرت لقاءاتنا الحميمية، واستمر معها الحكي عن مناطق عبدة و الشياظمة و حاحا وبالخصوص عن ظاهرة دور ركراكة الذي لم يكتب لي أن زرته وخوض تجربة رحلة ثانية، فكان أن قررنا السفر بمناسبة الدور "

الرحلة الثانية سنة 1999 ، نحو أرض شرفاء ركراكة (السبعة رجال) كانت بفعل اقتناع الفنان أحميدة بقولة: (دير النية والحاجة مقضية) وكذلك بدافع تعزيز الرصيد المعرفي على مستوى العلاقات الاجتماعية وحب الإطلاع على أسرار الصلحاء عن قرب "أعددت العدة للسفر، بعد تحديد موعده في الزمان والمكان مع صديقي، وخططنا مسبقا للزيارة في رحاب دور ركراكة تزامنا مع موسمهم برغبة الإطلاع على طقوس وعادات المنقطة في مواسمها الربيعية التي شنف مسامعي بها صديقي"

"ليس من رأى كمن سمع"، يقول الفنان الأصيل سي أحميدة حيث يصف المجال بقوله: "اكتست تضاريس الجبال والهضاب والتلال زرابي ربيعية بمختلف النباتات العطرية والأزهار الطبيعية التي تحيط بأحواض شجيرات أركان والزيتون، وزادتها بهاء أشعة شمس مارس الذهبية وهي تداعب سنابل القمح والشعير.. و تخترق خيم أهل ركراكة و فرسان الخيل، والمقيمين من الزوار والوافدين والتجار العارضين سلعهم بعناية وجمالية تبهر العين"، هكذا يصف ضيف الجريدة مشهد موسم ركراكة وهو يتجول رفقة صديقه بين الخيم وممراتها ومرافق التبضع لاستكشاف نبضات إيقاع تواصل الناس وحركتهم الدؤوبة، و تعميق النظر في خرائط تجاعيد وجوههم الطيبة التي تحكي تاريخ وجغرافيا المنطقة، و تعبر عن لحظة فرح انتظرها الجميع طيلة السنة.

"رجال ونساء وشباب وأطفال يتحلقون حول شيوخ وفناني الحلقة وهم يقدمون عروضهم الفنية المضحكة، الجميع منخرط في متابعة تمثيلية أو لوحة ساخرة، أو وصلة غنائية لثنائي أو مجموعة أفراد يتفنون في الإلقاء وإمتاع الجمهور الوافد من محيط دواوير المنطقة " يوضح سي أحميدة وهو يتجول هنا وهناك رابطا سفره الأول بالرحلة الثانية رفقة صديقه

المشهد الأكثر غرابة في حكي أحميدة بموسم ركراكة الذي ظلت مشاهده عالقة بذهنه، هو لحظة إطلاق نداء وجبة الإطعام وتقاسم ملح الطعام مع كل الناس كبر أم صغر شأنهم بعد الإنتشاء والاستمتاع بعروض الفرجة من ثقافتنا الشعبية خلال الفترة الصباحية "في موعد محدد مسبقا، ظهر موكب من الرجال والشباب يحملون على رؤوسهم قصريات الكسكس، أو طواجين اللحم والدجاج البلدي والخبز، وتم ترتيب الموائد وفتح الخيم و أبواب المنازل القريبة، لا فرق بين هذا وذاك، الكل مدعو في ضيافة رجال لبلاد في حضرة أهالي شرفاء ركراكة الذين يتنافسون في ترجمة قيم الكرم والجود"

لكن اللحظة الفارقة التي سيكون لها ما بعدها في حياته تتعلق بدخول الفنان أحميدة رحاب لجواد والصلحاء، و اقتحامه غمار لمة الشرفاء بإحدى خيم ركراكة المنتصبة وسط فضاء الموسم وهم في لحظة ربانية صوفية يناجون فيها الله لقضاء أغراض الزوار "طلبت التسليم، وولجت رفقة صديقي لخيمة الشرفاء الركراكيين بنية صادقة، وساهمت مثل الناس بتقديم هبة مالية متواضعة لمقدم الفقهاء". مباشرة خاطبه الفقيه المكلف بتقديم الأدعية بالقول: "دير النية، وضمر في قلبك آش ناوي من غرا ض.. راك في كاور الشرفة ركراكة ..نوي غرضك تقضى حاجتك".

ماذا سينوي أحميدة في نفسه وهو واقف بين يدي الشرفاء؟ كثيرة هي الأمور التي تتطلب حلولا مستعجلة في هذه الحياة الصعبة المراس، لكن الأوليات والمتمنيات تسابقت في صمت داخل نفسه وقلبه فقررت ـ يقول أحميدة ـ "أن أنوي الزواج ببنت الناس التي سترافقني في درب الحياة، و انغمست بجوارحي ووجداني وروحي في تلك اللحظة العجيبة والغريبة".

رفعت أكف الضراعة و الابتهال والدعاء للعلي القدير، ـ يقول أحميدة ـ واخترقت مسامعه كلمات تخرج كالبلسم الشافي من لسان الفقيه مع ترديد لازمة آمين من الشرفاء "اللهم سخر له العون والقبول واليمن والبركة والتيسير، اللهم ارزقه من حيث لا يحتسب، واقضي حاجته، واجعله من المؤمنين الصادقين الذين لا تتعكس أمورهم، اللهم عجل بأمانيه ". تلا الفقيه الفاتحة وختم أدعيته الربانية التي انخرط فيها الحضور بصفاء ونقاء، وخرج أحميدة من الخيمة مزهوا وهو يردد "يا ربي تجيب ليا بنت الناس وتكون هاذ الدعوة فاتحة خير في حياتي".

في طريق العودة لمدينة الدار البيضاء، باح الفنان أحميدة لصديقه بسر نيته التي تقدم بها في حضرة شرفاء ركراكة "لقد نويت الزواج وأتمنى أن يتحقق مرادي"، هكذا رد على سؤاله والحافلة تلتهم الطريق مودعة أرض دور ركراكة

مرت ثلاثة أشهر بالتمام والكمال وتحديد في صيف سنة 1999 ، لتكتمل الفرحة، و يجد الفنان أحميد نفسه داخل القفص الذهبي، رابطا قرانه مع رفيقة دربه التي يعتبرها هبة ربانية استجابت لأدعية شرفاء ركراكة . يتبع