محمد خليفة: الدولة و"البيجيدي".. المرجعية الدينية والوحدة الترابية والقرار المعضلة

محمد خليفة: الدولة و"البيجيدي".. المرجعية الدينية والوحدة الترابية والقرار المعضلة محمد خليفة

تعد السياسة حقلا زاخرا بالرموز والدلالات، وإلا فإن القرار السياسي يتخذ عدة أشكال، فإما أن يكون تصريح، وإما فعل، وإما صمت، لكل فحواه ودلالاته التي تفسرها السياقات والظرفيات النسقية. ذلك ما من شأنه أن يكون توطئة لقراءة حدث استئناف عمل مكتب الاتصالات بين المملكة المغربية و(إسرائيل)، الأمر الذي كان قد توقف منذ مطلع القرن الجاري، لاستخلاص المؤشرات التالية.

 

1- أصل المسألة فيما يميز المغرب

إن نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، تمزج بين التقليدي والحديث، والمعلن والمضمر، بين إمارة المؤمنين، والملك الدستوري، بما يجعل للملك حقلين: حقل مشار له بالفصل 41 وهو الحصري ذي الطابع الديني، الذي يمارس سلطته فيه بموجب ظهائر؛ وحقل سياسي يؤطره الفصل 42 بما يجعله رئيسا للدولة وممثلا أسمى لها، ومما يعضد هذا أن الملك رئيس المجلس الوزاري. وإذا كان الموضوع يختلط فيه السياسي والديني، فإنه لا يعزب عن ذهن متمحص، أن المغرب بلد يعتبر المكون العبري رافد من روافده الوطنية المتعددة، ويعتبر الوحدة الوطنية متعددة الروافد، من الثوابت الجامعة للأمة، لكنه التزم بتعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة.

 

فما بين هاجس استكمال وحدتنا الترابية، التي استنزفت في جزء منها زهاء 45 سنة، وبين التضامن مع الشعوب العربية والإسلامية الشقيقة، يبرز جار شقيق يأبى إلا أن يكون، بما يصبه من زيت على النار، عدوا لوحدتنا الترابية، فضلا عن عداوته لشعبه، على ذلك، يعد المشكل جد مستعصي، فمنطق الدولة القطرية (الوطنية) يقتضي تقديم المصلحة على الأخرى، تبعا للترتيب الدستوري للأولويات.

 

لكن، لا ينبغي تناسي أن المغرب لئن استهل العلاقات تلك لأول مرة، رسميا، فإنه لم يستهلها إلا بمؤشرات: أولا أنها على مستوى منخفض منذ عام 1993؛ ثانيا أنها جاءت بعد توقيع اتفاقية "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وتل أبيب؛ ثالثا أن الرباط جمدت تلك العلاقات عام 2002، في أعقاب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى).

 

2- القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى: بين أجندة أمير المؤمنين والملك الدستوري ورئيس لجنة القدس

إن الدفاع عن القضية الفلسطينية بما فيها الطابع الإسلامي للمسجد الأقصى، يدخل ضمن أجندة أمير المؤمنين، الدينية، ورئيس لجنة القدس، بما على الدولة المغربية من التزام دستوري تجاه قضايا الأمة الإسلامية كما يوحي تصدير الدستور، وهذا ما قد نقرأ من داخله ما جاء في بلاغ الديوان الملكي الذي التزم فيه الملك بـ: "الحفاظ على الوضع الخاص للقدس، وعلى احترام حرية ممارسة الشعائر الدينية لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وحماية الطابع الإسلامي لمدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى"، وكذا قوله: "ونظرا للروابط الخاصة التي تجمع الجالية اليهودية من أصل مغربي، بمن فيهم الموجودين في إسرائيل، بشخص جلالة الملك"، وهذا ما يمكن اعتباره موقفا متوازنا، إذا وضع اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء في الميزان.

 

3- "البيجيدي" وخطيئة الأول مسؤول عربي ذي خلفية إسلامية

مما تنبغي الإشارة إليه، أن توقيع السيد سعد الدين العثماني، بصفته رئيسا للائتلاف الحكومي، سيجعله أول مسؤول عربي من هذه الدرجة ذي خلفية إسلامية، يوقع وثيقة من هذا الحجم "إعلانا مشتركا" مع (إسرائيل)... ويعتقد أنه حدث مع مرور الزمن سيصبح فحوى للاستدلال كواقعة في اللقاءات والمناظرات، وقد يدونها أحدهم في تحليله الأكاديمي... باعتبارها لحظة مفصلية أكتر، ولربما هذا ما أحدث ضجة داخل هذا الحزب.

 

4- القرار في ضوء تصور "البيجيدي" لعلاقته بالمؤسسة الملكية

إن مكانة رئيس الحكومة في النسق المغربي، ما بعد دستور 2011، سيما في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، لا نفهمه في مفكرة رئيس الإئتلاف الحكومي لا السابق أو الحالي، إلا من خلال أمرين:

- أولا: إذا ما استدعينا الفصل 55 من الدستور، دونما عزل للتقاليد السياسية، فإننا لا نجد لرئيس الحكومة في العلاقات الخارجية إلا حيزا جد ضيق، ناهيك عن أن الموقعين بجانبه من رتب بروتوكولية أقل من السيد رئيس الحكومة.

- ثانيا: يمكننا بالرجوع إلى أطروحة حزب العدالة والتنمية بمؤتمره السابع، فهم ذلك من خلال اعتبار علاقته بالمؤسسة الملكية مؤطرة بالدستور ومبنية على قواعد متوازنة ومنتجة، أساسها الإصلاح وقوامها الثقة والتعاون والتفاهم بما يضمن وحدة واستقرار البلد، لذلك فإن موقفه المؤكد على "أهمية الالتفاف وراء العاهل المغربي في الخطوات التي اتخذها في مجال تعزيز سيادة المغرب على الصحراء، وعلى المواقف الثابتة للبلاد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية"، لا يخرج عن فحوى أطروحة الحزب الذي يترأس الحكومة.

 

5- "البيجيدي" وجدلية الموقف من محتل لأرض إسلامية بين الديني والسياسي

ومما يحجب عنه التحليل، الشخصيات الموقعة على الاتفاقيات الأربع، ما من شأنه أن يترك انطباع أن الشخصية الحزبية الوحيدة هي السيد سعد الدين العثماني عن حزب ذي مرجعية إسلامية، بما يقطع مع ازدواجية الموقف الحزبي، على مستوى الخطاب الشفهي، فلا تصور الحزب للدولة، ولا تعريفه لنفسه وتصوره للعمل السياسي، يسايران اتخاذ موقف مشدود إلى منطق الدين أكثر من منطق السياسة، فأما تصوره للدولة يقول أنها: "مدنية ذات مرجعية إسلامية، دولة يحكمها القانون، مصدره الأسمى الشريعة الإسلامية في معناها الشامل"، فيما أن أصوله الفكرية كحزب مستمدة من: "المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع المغربيين، ومن الرصيد الحضاري للمغرب وقيمه الثقافية الغنية متعددة الروافد."، وأما تصوره للعمل السياسي فإنه لا يخرج عن اعتباره: "عمل تنافسي تداولي، بما تقتضيه نسبيته واختياراته"، معتبرا أن "الانطلاق من المرجعية الإسلامية لا يلغي تعدد الاجتهادات والاختيارات."، ولعل هذا ما يجعل عقل الحزب الفكري إذا ما تفرغ لإعادة صياغة أطروحته قادر على تصور القضية الفلسطينية، أو  الموقف من المحتل لأرض إسلامية بصفة عامة (حسب تعبير افتتاحية "البيجيدي" بين إسرائيل وإسبانيا) لإسماعيل حمودي بجريدة اليوم 24، بما يفرضه سياقه الوطني، لا بما تتصوره حركات الجهاد بالشكل الذي يفرضه سياقها، وبلورته على مستوى الخطاب الشفهي لا أن يبقى التناقض بينه والمكتوب.

 

6- القرار أكبر من أحزاب بقواعد هشة

فبما أن مصدر الظاهرة السياسية يتجلى في التنوع فالاختلاف والقوة، فإن الأخيرة مقياس اتخاذ القرار، فالمُعتقِد بأن المنظومة الحزبية الحالية قادرة على اتخاذ قرارات كبرى، من هذا الحجم، خصوصا وأنها صعبة، ما دامت مقترنة بقضية الوحدة الترابية، لا يضع أبدا سؤال بأي قواعد ستسند موقفها؟ والأمر سيجعلنا نقول أن الأحزاب لها قواعد هشة، تظهرها أرقام آخر انتخابات، وهذا نقد بناء لا يقلل من أهمية الأحزاب، بقدر ما هو استفزاز لها، لإعادة النظر في آليات اشتغالها.

 

ومما ينبغي قراءته، إذا ما اعتبرنا ما حدث تطبيعا أصغرا، فإن التطبيع الأكبر هو الذي يمكن أن يقترفه البرلمان، على الرغم من صعوبة تعريف التطبيع، فالبرلمان بموجب الفصل 55 من الدستور، يرخص لمعاهدات من ضمنها، تلك المتعلقة بالسلم، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة.

 

ملاحظة وإشارة على سبيل الختم

أخيرا، يمكن أن نستخلص من خلال التغطية الإعلامية للحدث، أن هناك من يستدعي لمبرراته الخلط بين تصور المغاربة للدين اليهودي الذي يرتبط به المكون العبري، كرافد من روافد الوحدة الوطنية المتعددة، وبين الصهيونية العالمية (الاحتلال)، فالأول دين من الديانات السماوية، عاش أتباعه وما زالوا بين المغاربة بكل تسامح، بل إن الجالية اليهودية ما تزال مرتبطة (بشخص الملك)، ولا يتصور أن يسألك مغربي عن دينك، اللهم شاذ لا حكم له، فهو آخر اهتمام له، بل المشترك أهم ما يجمعهم، وهذا المشترك هو الوطن، لكن ما ينبغي أن يجمعهم بالدولة هو رابط المواطنة، فيما الثانية حركة قومية عنصرية هدفها إنشاء وطن قومي لليهود، ما يحيل بأن لا جنسية إلا لليهود، دولة دينية وضعت نصب أعينها على أقصانا المبارك مهددة طابعه الإسلامي بالسعي لتهويده، بعقلية عنصرية محتلة.