عزالدين مصطفى جلولي: ماذا لو أطل ابن خلدون على الجزائر اليوم؟

عزالدين مصطفى جلولي: ماذا لو أطل ابن خلدون على الجزائر اليوم؟ عزالدين مصطفى جلولي
في التحليل الاجتماعي لقضايا الأمة الإسلامية يتميز ابن خلدون (رحمه الله) بمنهجية لا يتميز بها علماء الفكر «السوسيولوجي» الغربي. فالرجل يستعمل أدوات قرآنية لا يمتلكها غيره في تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية… استقرأ هذا العَلَم الكبير الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وحركة التاريخ لدى العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، وكان في عمله ذلك يسبر ويقسم، يجمع ما تشابه ويحتفظ بما شذ؛ فيخرج بقواعد عامة عرفت بقوانين ابن خلدون في العمران.
كثيرون يتعاملون مع نظرية العصبية، التي أخذت حصة الأسد من «مقدمة» ابن خلدون، تعاملا فاترا، وكأنهم لا يتحسسون في العصبية إلا دعوة بدائية جاهلية، أو كأني بهم أعجبوا كثيرا بالديمقراطيات الحديثة، ورأوا فيها نتاجا للانتقال الإنساني من طور القبيلة إلى طور المدينة، فلا حاجة للعودة إذن إلى نظرية العصبية، وقد بدت اليوم مفهوما عفا عنه الزمن.
لست في صدد معالجة هذا الرأي، وظني به أنه غير حصيف بما يكفي لنلقي عنا من أجله تركة ابن خلدون، وما أحوجنا إليها اليوم لفهم أوضاعنا التي استعصت على الشيب والشبان.
إسقاطات النظرية على الحكم في الجزائر
في تركيبة الحكم في الجزائر تتوارى خلف الستائر أيد تنتظم في عصبية، وإن بدا المسرح السياسي خلوا منها رئاسة ووزارة وبرلمانا وإعلاما، ولكن الإحساس الشعبي يدركها ويتداولها في أدبياته اليومية كثيرا، بيد أنه لا يجد سبيلا للحديث عنها رسميا، ربما كان ذاك أسلوبا سياسيا برمج الناس عليه بليل للتعمية عليها أيضا.
هوس الشاوية (لقب لبطن من بطون الأمازيغ، من الشاء، لأنهم في الأصل كانوا رعاة) بالجيش لا ينكر، وما يروى عما تفعله بعض العجائز في الأوراس من الغرابة بمكان، فعند استهلال المولود عندهم تتناوله إحداهن من قدميه وتصفع مؤخرته حتى يصرخ قائلة: «اتجيبها كابران أو كابران شاف بربي أو بلا…» (ناقل الكفر ليس بكافر)؛ طبعا هذا خلاف ما يفعله المتدينون منهم، الذين يحرصون على تنفيذ أحكام العقيقة كما هي في السنة المشرفة.
إن ولع الشاوية بالعسكرية، واقتحامهم الوظيفة فيها حتى التقاعد، وكثيرا ما يتجاوزون السن القانونية للخدمة ويستمرون فيها حتى الهرم أو المنية. بل إن عددا من قيادات الجيش يسجى وعلى نعشه قبعته. إن فرز المنتسبين إلى هذه المؤسسة المستحكمة في الجزائر على أساس قبلي من الصعوبة بمكان، وإن كان وجود هذا الفصيل من الأمازيغ طاغيا كما ونوعا، ويمكن معرفة شخوصهم ومراتبهم من خلال الألقاب الشائعة في مناطقهم، خصوصا الولايات الشمالية الشرقية من القطر: باتنة وخنشلة وأم البواقي وتبسة وسوق أهراس…
بومدين، زعيم تجري في عروقه دماء شاوية، وفي عقله تعشش ميول يسارية، كان سعيه في تشكيل نواة الجيش الوطني الشعبي بارزا، عندما جمع حوله شتاتا من الثوار وأشرف على تدريبهم من وراء الحدود الغربية والشرقية للجزائر، ودخل بهم العاصمة مدججين غداة الاستقلال، ليفرض الأمر الواقع على الجميع، بأن قيادة الأركان هي صاحبة اليد الطولى في مستقبل البلاد، وقد كان له ذلك. ورغم الخضات التي تعرض لها جيشه وكادت أن تودي بحياته شخصيا، فقد جرت الرياح بما يشتهيه رفقاء دربه وبكل ما أردوا، ولكنها إرادة أبدت لنا الأيام أنها كانت كارثية على حياة البلاد والعباد.
عقيدة الجيش الجزائري
للجيش الجزائري كغيره من جيوش العالم عقيدة، لا تتشرب كثيرا قضايا الهوية وحق الشعب في اختياراته المصيرية، ولا تبعد أغوار تلك العقيدة عميقا، لتتجاوز واجب الحفاظ على حدود البلاد، وحفظ النظام العام. الحدود الموروثة عن جلاء الاستعمار بطبيعة الحال، لا الحدود المفترض قيامها بعد توحيد الشمال الإفريقي كما في بيان ثورة التحرير. أما حفظ النظام العام إن وجب فهو بإيعاز من السلطة الفعلية القائمة كما في تسعينيات القرن الماضي، حين وُرط الجيش في عار لا يزال يلاحقه إلى اليوم. بعبارة أخرى، الجيش يقاد من قبل النظام القائم أيا كان؛ وتلك نقطة ضعف كبيرة في عقيدة هذا الجيش، بحيث غدا أداة بيد ممسك الأعنة مهما كانت شرعيته، وأضحى طوع أمره، ينفذ الأوامر بلا عقل يقدر الأوضاع بتجرد، أو يتدبر في عواقب الأمور.
مظاهر العسكرة بادية في كل شيء، في سهولة التوظيف في هذا القطاع ووفرة المناصب، في ميزانية وزارة الدفاع، في الطبابة الممتازة للمنتسبين إليها، في التعليم النوعي لمدارس أشبال الأمة والكليات الحربية، في الوضعية الاجتماعية للضباط، في امتيازاتهم المادية المعلنة وغير المعلنة، في الحضور المكشوف في كثير من القطاعات المدنية، في الاحتفاء الرسمي بأصحاب البزز الأمنية في الفعاليات الجوارية والمهرجانات الشعبية، في المثول الطاغي في المخيال الشعبي، في :البروباغندا» الإعلامية على مدار الساعة، في الموقع الفعال للعسكريين بين السلطات العامة للدولة… في كل حدب وصوب ترى الأخضر الكاكي كأنه الربيع أقبل «يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما».
السياسة غير الأخلاقية بحاجة دوما لأكذوبة كي تستمر لأقصى مدى ممكن، والعسكرة ليست بدعا من ذلك، وإن أعوزها الذكاء السياسي غالبا. ربما لأن السياسة والعسكرة مثل لعبة (ماشا والدب) التي يحبها الأطفال، لا يستطيع أن يهنأ أحدهما إلا بالقرب من الآخر ؛ لذلك كانت العسكرة منقوصة الذكاء السياسي عندما استفردت بحكم الدولة، وأنى لها بالدهاء وهي لا تعرف غير منطق القوة، القوة فحسب. والأكذوبة في الجزائر «الإرهاب» باللغة الديماغوجية، أو المعارضة المسلحة بالمصطلح العلمي، فعدم القدرة على استئصال شأفته من جهة، والحاجة إلى المتاجرة به لمزيد من العسكرة، أغلق الأبواب أمام البدائل الراشدة؛ وبدد عقودا من العمل والإعمار، كانت ستفعل فعلها في نهضة البلاد ورفاهية العباد، وما الصين عنا ببعيد.
لماذا تنفي القيادة العسكرية التهمة بالسيطرة على القرار، أليس وراء ذلك سر مخفي؟ وما هو إذن؟ الجواب نستله من فحوى السؤال، هي تتستر على ما في أيديها من نفوذ لأنها تريد السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد؛ ولأنها مسؤولة مسؤولية شبه تامة على مآلات الأمور بعد الاستقلال، لذلك لا ترغب في المحاكمة وتحمل العاقبة. ثم إن كثيرا من القيادات السابقين والحاليين لهم هوى غربي أو ميل شرقي، فكرا ولسانا ووجدانا، يحمي أظهرهم العارية من الشرعية والمشروعية لا تحبذ أن تكون للجزائر صولة كصولة الأسد في بحيرة البحر الأبيض لمتوسط، كما كان ديدنها قبل الغزو الفرنسي في بدايات القرن التاسع عشر. وتلكم ملحمة من ملاحم التاريخ يريدونها أن تذكر لمرة ولا تعاد الكرة.
العسكرة والحراك ومستقبل البلاد
هل الحراك الشعبي الخافتة أنواره هذه الشهور هو الذي استغل المؤسسة العسكرية لتفكيك العصابة الحاكمة، أم هي من استغلته لتبديل ورقة التوت التي كانت تستر جلدها المرقط؟ الأيام أبدت صدق الثاني وسذاجة الأول. من هنا ينطرح سؤال جدي في مسعى الحراكيين لإسقاط النظام بعدما تيقنوا أن الجزائر دولة عسكرية وليست مدنية: هل كان قادة الحراك من الوعي بمكان ليدركوا في أي طريق هم ومن تبعهم ماضون؟ وهل قرؤوا جائحة «كورونا» قراءة صحيحة حينما بهتوا بها وتمنوا أن لو جرت في صالحهم، وما سمعنا أحدا منهم قرأ فيها غير ذلك؟ المقصود من هذه المطارحة، استجلاء الأفكار القائدة للحراك، وهل كانت مرضية بما يكفي لدى صاحب الحق الأول في الجزائر: الله جل في علاه؟
الشعب الجزائري يحب الصدق والمصارحة، ويكره الكذب والمناورة. لما صدقه المجاهدون في ثورة التحرير بالأثمان التي قد تدفع لقاء الاستقلال أقبل على التضحية لا يلوي على شيء، ولما تغير الخطاب السياسي عقب الاستقلال، وتلون بألوان الطيف كافة، حرد عن مجاراة حكامه وقطع حبل الثقة بينه وبينهم، فلم يبق على وصل أو وصال معهم، وإنما هي نقمة كالنار تحت الهشيم، ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم، والعياذ بالله العزيز الرحيم.
مستقبل الجزائر على المحك في هذه السنوات، فإما أن تعود جذعة كما كانت، وإما أن تتدحرج إلى صراع مشرع على كل الخيارات؛ وخيرا يريد بنا الباري عز وجل، إن نحن آثرنا الحكمة والرشاد، وتجنبنا سبل الغي والفساد. ومن أحسن ما قال الحكماء: العدل أقوى جيش، والأمن أهنأ عيش.
 
عزالدين مصطفى جلولي، كاتب جزائري
عن ( القدس العربي)