هكذا كانت حالتي لمدّة أربعة أيام. غضضت البصر عن هذه العوارض مطمئنة نفسي بأنها علامات "التهاب الجيوب " الذي أخذ نصيبه هو الآخر من جسدي المعيوب منذ سنوات.
كسائر الأيام، دونما استثناء، تعاملت مع تعبي هذا على أنه مجرد إرهاق تآمر مع الطقس، وأدرجتُه في قائمة الاهتمامات الثانوية مبجّلة عملي.
كنت أكرّس كل جهدي وطاقتي ووقتي استعدادا لإطلاق حملة توعوية حول العنف المسلّط ضد النساء في الفضاء الرقمي. كنت أرغب في التهام الوقت وبلوغ موعد اللقاء الصحفي الذي لم يكن يفصلني عنه سوى خمسة أيام حرصا مني على إنجاح الحملة واحترام الآجال المتفق عليها مع المموّلين.
لكن سرعان ما خذلني جسدي .. استحال عليّ النظر يمينا أو شمالا دون تحريك رأسي ومع هذا كنت أقول لنفسي "أنت بخير، إنه التهاب الجيوب" حتى أنّي وصفت حالتي للصيدليّ على هذا النحو.
ثمّ سمحت لنفسي بطلب يوم عطلة أسترجع فيه قواي وكان لي ذلك. هدنة بيوم واحد فقط، استلقيت فيه، شربت الفيتامينات ونمت مطولا. هذا ما كنت أستحقّه لـ"أُسكِت" جسدي.
عدت في اليوم الموالي إلى مكتبي وأنهيت عملي. كانت عطلة نهاية الأسبوع ... نعم "أسكتّ" جسدي ولكن أين ذهبت حاسّة الشمّ؟ غريب، لم تداعب أنفي أيّة رائحة منذ سبعة أيام !
بدأ التوتّر يسري في داخلي…
اتّصلت بإحدى الطبيبات المتطوّعات بعد أن بحثت عن رقمها على الإنترنت. وصفت لها حالتي وكانت الإجابة "هذه العوارض من المستحيل أن تكون لالتهاب الجيوب. إنه الكوفيد 19".
في هذه اللحظة تسارعت دقّات قلبي. ارتفعت حرارتي فجأة. تشوّش عقلي وبدا على صوتي التوتّر. واصلت الطبيبة كلامها: "عزيزتي لا تقلقي. من الواضح أنّ مناعتك جيدة. يجب أن تكون معنوياتك مرتفعة. طبّقي الحجر الذاتي لمدّة أربعة عشر يوما وخذي الأدوية اللازمة. نشالله لاباس".
مع أنّ صحّتي كانت قد تحسّنت بالفعل، بل وأصبحت جيدة، إلاّ أنّني شعرت بخوف غريب. كنت كما لو أنّ الفيروس أصبح له صوت وبات يكلّمني! تساقطت على عقلي مئات الأفكار والتساؤلات: هل أنا حقا حاملة للفيروس؟ كنت أسمع عنه وأصبح يسكنني، كيف اجتاح بنيتي ؟ يا ترى هل نقلت العدوى للآخرين / الأخريات ؟ إذا كنت قد فعلت، كيف سأتحمّل عبء هذه المسؤولية ؟؟"
نفذ صبري وتوجهت الى طبيب العائلة. جعل يشخّص حالتي بكل برود وطلب مني إجراء تحليل " بي سي آر ". استحال عليّ القيام به حينها بما أننا كنا في عطلة نهاية الأسبوع فانتظرت حتى يوم الاثنين. عدت الى المنزل وعلى الفور حجرت نفسي في غرفة قلّ ما يقع استعمالها. مرّت الساعات شديدة الثقل. كنت أشعر وكأنني مغتربة في جسدي. كلما أغمضت عينيّ تذكّرت ألم الفحص الّذي طالما سمعت عنه.
ثمّ اتصلت بزميلاتي لإعلامهنّ. وهنا تسارعت الأحداث. بدأ الأمر يأخذ صبغة الجدية المكسوّة بالخطورة. تدفّقت الاتصالات في ذلك اليوم بنسق سريع . بينما كنت أرغب في محادثة شخص فقط، الأقرب الى قلبي والأكثر تفهّما. هدى، صديقتي العذبة والنقية.
في اليوم الموالي، أحدث الخبر ضجّة في مكان العمل. الكلّ – ما عدا القليل- يبحث عن الخلاص! الكلّ يحاول تذكّر في أي يوم وساعة ودقيقة كان له اتّصال بي. الكلّ يتساءل عمّا إذا سيتمّ إخضاع من تعاملوا معي مباشرة إلى الحجر؟ حتى أنّ البعض وجّه لي بصفة غير مباشرة عتابا وكأنني أنا المسؤولة عن انتشار الفيروس في العالم.
حاولت التعامل مع الوضع بشيء من الفكاهة. واصلت العمل عن بعد. جعلت أقرأ مقالات عن الكورونا... باختصار كنت أحاول إذابة الوقت.
بعد انتظار مملّ ومثير للأعصاب، أجريت فحص البي سي آر. لم يكن مؤلما كما توقّعت. مجرّد دغدغة صغيرة. وبقدر ما كان الفحص خفيفا بقدر ما كان الضغط النفسي ثقيلا. أطراف حديث سمعتها صدفة عند الاتصال بزميلاتي، امكانية إلغاء إحدى نشاطاتنا إذا ما كانت النتيجة إيجابية، زيارات جارنا المتكرّرة لمعرفة النتيجة، الحالة الهستيرية التي أصابت أختي الصغرى، وحاسّة الشمّ التي أصرّت على الاختفاء ... كل هذا زاد من توتّري.
كنت أرشّ العطر مباشرة على أنفي، ثم أرشّ مبيد الحشرات في الجوّ! حتى أنني قطّعت البصل ووضعته مباشرة أمام أنفي حتى اهترأ .. دون جدوى، أبت حاسة الشم أن تعود.
في اليوم الثالث، على الساعة الثالثة بعد الزوال علمت النتيجة، كانت سلبية. فور سماعي اتّصلت بزميلتي في العمل لأخبرها وكأني أنتصر لنفسي... مع الأسف حرمت البعض من الحجر لمدة 14 يوما!
عظيم هذا الفيروس. أتدرون ماذا جرى؟ أعتقد أنني أصبت فعلا بالكورونا وأنّ نتيجتي ليست سوى "faux négatif".
لم أعد إلى العمل في ذلك الأسبوع، لتعاودني حاسّة الشم أخيرا بعد 16 يوما من اختفائها ! عدت إلى المكتب وكنت أترقب ردّة فعل الزميلات والزملاء. لا شيء.
غريب هذا العالم تحدث الضجّة في غيابك وتخمد في حضورك.
وبين تجربة مضت ومستقبل ينتظر أخاطب نفسي بكلمات ملهمتي ألفة يوسف "الوعي بكل شيء هو خشوع أمام جميع هبّات الحياة وكل شيء هبة... الوعي بكل شيء لا يكون إلاّ في لحظة الحاضر أمّا القلق او الندم فلا يكونان إلاّ عندما نبتعد عن لحظة الحاضر نحو ماض رحل ولن يعود أو مستقبل لانعرف عنه شيئا".
سينتهي الفيروس يوما ما. كلّنا ذاهبون يوما ما. ولكن المهمّ هو "الآن"... لنكن إنسانيين/ات.