محمد بوبكري: في أخطاء تأويل النص القرآني وإهمال روحانيات الإسلام وقيمه الأخلاقية  

محمد بوبكري: في أخطاء تأويل النص القرآني وإهمال روحانيات الإسلام وقيمه الأخلاقية   محمد بوبكري
لا يجادل أحد اليوم في أن الفكر العربي الإسلامي يعاني من ثنائيات عديدة تعد من المشاكل الجوهرية لهذا الفكر التي تعوق انفتاحه وتطوره ... ومن هذه الثنائيات نجد أن هذا الفكر يضع تقابلا بين التدين والعلمانية. لكن عندما نتأمل مليا في هذه المسألة، نجد أن العلمانية ليست مقابلة للتدين، حيث إنها نشأت في أوروبا في سياق سياسي خاص واتصلت بفصل الدين عن الدولة.
ويبدو لي أنه ليس من الضروري أن تكون القوانين مستمدة من النص الديني، بحيث يتم فرضها باسم الدين. لكن ما لا يفهمه الفقهاء المتشددون وأتباعهم هو أن قراءات النص الديني متعددة ومختلف فيها وعليها، كما أنه نص منفتح ومفتوح ومتعدد المعاني، ما يستوجب تعدد القراءات، إذ بدون ذلك، سيتم الحكم عليه بالجمود والانغلاق، ولا يمكن أن يكون منفتحا على تطور المجتمعات.
إن قراءات النص القرآني وتأويلاته الفقهية المتعددة كلها بشرية، لأن كل الذين قاموا بها هم مجرد بشر لا يمكنهم الإحاطة بعلم الله بشكل مطلق، إذ، كما ورد في القرآن الكريم، لا يعلم تأويل النص الديني إلا الله وحده. وتكمن المشكلة في أن هناك فقهاء يدعون أن قراءتهم للنص الديني هي الحق عينه، رغم أنهم بشر يستحيل عليهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وهذا ما جعلني لا أرى حلا لمشكلات هذه الثنائيات إلا في الحرية التي لا يمكن أن تحدها سوى القوانين التي تنظم العلاقات في إطار التجمعات البشرية.
لذلك، إنني لا أميز بين التشريع البشري والتشريع الإلهي، لأن الجانب البشري حاضر في كل القراءات رغم ادعاءات أصحابها امتلاكهم للحقيقة المطلقة. ويعود ذلك إلى أن القرآن يقرأه البشر، ومهما بلغ هؤلاء من علم ومرتبة، فإنهم، وبحكم طبيعتهم البشرية، يظلون قاصرين عن إدراك الحقيقة المطلقة، إذ لا يمكن للنسبي أن يُدرك المطلق (مراد وهبة).
يخاطب الله تعالى في القرآن الإنسان بغض النظر عن بلده ولونه وعرقه ودينه ومذهبه، لكن المسلمين لا يقرأون القرآن، وإنما يكررون ما قاله الفقهاء والمفسرون عنه. وهذا ما يستوجب الاعتراف بأن القراءات التي قام بها هؤلاء كانت مرتبطة بسياقهم التاريخي، وليست صالحة لعصرنا الحالي، لذلك فهي لا تلزمنا (يوسف الصديق). وهكذا، فعندما قال الغزالي إن الزواج نوع من أنواع البيع والشراء، فإننا لا يمكن أن نحاسبه على وصفه للزواج بأنه عقد بيع وشراء، لأن كلامه هذا مرتبط بسياقه التاريخي، وليس صالحا لزماننا نحن في القرن الواحد والعشرين. فما قاله الفقهاء كان في سياق معين، بيد أن الحياة لا تقف عند ما قالوه....
ليس لنا نحن المسلمون كنيسة تلعب دور الوساطة بين الخالق والمخلوق، بل لنا فقهاء يقومون بمأسسة الدين حتى أصبحنا نخلط بين ما قالوه وما يقوله النص الديني نفسه. هكذا، أصبح الفقهاء المتشددون والمعلقون مقدسين، فأصبح محرما توجيه أي نقد لاجتهادهم، وصار الفقهاء المتشددون وأتباعهم العوام يكفرون كل من ينتقد ابن تيمية، ويطالبون برأسه.
 لا يدرك هؤلاء الفقهاء أن القرآن المجيد هو نص مفتوح، وأن كل قراءة له هي مجرد إمكان ضمن جملة من قراءات مختلفة ومتعددة له. وإذا كان القرآن الكريم نصا مفتوحا يمكن قراءته بمقاربات متعددة ومختلفة. فإن كل مقاربة منهجية له تشكل إضاءة جديدة تمكننا من الاقتراب من فهم معانيه، دون ادعاء القدرة على الإمساك بها بشكل مطلق. 
تقتصر علاقتنا بالقرآن الكريم على الأحكام فقط، وأهملنا أبعاده الروحانية والأخلاقية، فأصبحت علاقتنا به شكلية لا صلة لها بجوهره. إن الهدف من الإسلام أساسا هو الوصول إلى الطمأنينة في الحضرة الإلهية التي بدونها سيكون إسلامنا شكليا؛ أي بدون إيمان. ولكن ما نراه اليوم من اقتتال بين المسلمين يدل على بعد عوام المسلمين والفقهاء المتشددين عن جوهر الإسلام. فبدل أن يعبدوا الله، صاروا يتناحرون ويقتل بعضهم بعضا بسبب اختلاف في تفسير بعض الآيات لاعتبارات سياسية. ويدل الاقتتال بين المسلمين على أن هؤلاء الفقهاء وأتباعهم لا يحترمون روح الإنسان الذي كرمه الله. وبذلك تخلى هؤلاء عن المحبة، فأصبح إسلامهم شكليا، حيث تخلوا عن روحانيات الإسلام وقيمه واخلاقه...
لذلك، ينبغي أن نهتم اليوم أكثر بما وراء الآيات، على حد تعبير إمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas؛ أي بالمقاصد الكبرى الروحانية والأخلاقية التي جاءت الأديان السماوية من أجلها، حيث يقول الرسول (ص): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». كما يقول سبحانه: «اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون» (العنكبوت، 45). هكذا، فالصلاة ليست مجرد حركات، وإنما تنهى عن الفحشاء والمنكر، ما يعني أن الله جعل من ورائها هدفا روحانيا وأخلاقيا في آن واحد. كما أنه أضاف إلى ذلك "ذكر الله" الذي جعله أكبر، ما يعني أنه يجب أن نرى الله في علاقتنا بالآخر وبالطبيعة كذلك حتى نؤكد محبتنا للآخر والكون في آن واحد. فهناك شيء من روح الله في كل مخلوقاته. ومن أحب مخلوقات الله يكون محبا للخالق الذي خلقها. وهذا ما يغفله الفقهاء المتشددون وأتباعهم.