أحمد عاطف: ماكرون وسياسة الهروب بالإسلام السياسي من الاستسلام السياسي

أحمد عاطف: ماكرون وسياسة الهروب بالإسلام السياسي من الاستسلام السياسي أحمد عاطف

المتصفح لتاريخ العلمانية في فرنسا سيكتشف أنها وليدة الصراعات مع التطرف المسيحي اللاهوتي الذي كان باسم الله والمسيح يسعى لقمع كل معارضي السيطرة السياسية الدينية، لذلك فهي متطرفة ولا تقبل أي وصاية دينية حتى غير مباشرة وهذا كان ناجعا ضد كل محاولات عودة الكنيسة للسيطرة السياسية حتى عبر الديموقراطية، لكن أزمة العلمانية الحالية أنها اصطدمت بواقع مختلف عن ما نشأت فيه فهي أصبحت بالنسبة للكثير من الأقليات والطبقات السياسية الفرنسية متجاوزة ولم تجر أي تغيير ثوري على أدواتها المتراكمة والمتهالكة خصوصا في إدماج الأقليات والحركات السياسية التي أصبحت تعاني من سطوة النخبة الفرنسية التي ما فتئت تتخلى عن الكثير من المكتسبات كالعدالة في التوزيع الثروة النسبي وبدأت في حصار النقابات واليسار الكلاسيكي وكل المثقفين الدعاة للإصلاح الهيكلي، بل تعدت هذا التعنت هذا التراجع برفع الضرائب وسن ضرائب جديدة ...

 

وأمام هذا الصراع الطبقي المحترم بعد تعويض النخب السياسية الفرنسية العريقة بنخب بعقليات نيوالبيرالية جديدة وجشعة تغطي فكرها الاقتصادي بقيم رأسمالية الحديثة وتستخدم في ذلك الأدوات الأمنية العتيقة، بل تسعى للتحكم في الاقتصاد بكل الوسائل التقنية والسياسية الممكنة ومراقبته بشكل مطلق حتى تفقد الخصوصية الشخصية، رغم أنها هي روح الحرية كأساس مبادئ الثورة الفرنسية.

 

لكن مع مقاومة الطبقات الدنيا والأقليات الاقتصادية والأقليات الثقافية لوحشية نظام اقتصادي يفتك بقدراتها المعيشية ومكتسباتها المتهالكة، حينذاك دخلت فرنسا في أزمة سياسية طاحنة زعزعت صورتها الوردية حتى بالنسبة لداعمي فكرها العلماني المنفصم، بالنسبة لمداويخ النخبة الفرنسية في البلدان التابعة لها اقتصاديا ولمعسكرها الفرنكفوني الإمبريالي الذي مزال يمتص ثروات شعوبه وبلدانه لصالحها لحد للآن.

 

لكن مع وصول كورونا لفرنسا كمنقذ مدمر وجدت فرنسا راحة بيولوجية لازمتها الاقتصادية السياسية في تدبير اقتصاد يعاني تراجعا أمام المنافسة الدولية المتأججة وبذلك سيتم تبرير الفشل الاقتصادي الفرنسي المتنامي بأزمة كورونا وسيتم توقيف كل الاحتجاجات المتأججة بدعوى حماية الصحة العامة والأمن العام.

 

لكن معرفة النظام السياسي لخطورة الأزمة وتصاعدها وإرهاصاتها مستقبلا ،كان لابد من خلق أزمة جديدة يثم من خلالها كسب الأصوات الضائعة ولم شمل الرأي العام الفرنسي والذي أصبح يميل يوما عن يوم لليمين المتطرف، عبر كسب المصداقية المفقودة لحزب جديد كشف عن اهدافه مبكرا، رغم أنه كان يقول ما تتمناه العامة في حملاته ،فانتهازية النخبة الفرنسية الجديدة أصبحت انتحارية لأنها نخبة جديدة تستخدم أدوات قديمة في مواجهة تحديات مستعصية وجديدة.

 

وما لا يساعده في ذلك أن نمط العلماني الفرنسي لم يتطور كالعلمانيات أخرى تصالحت مع الأقليات والاختلافات الدينية، لذلك فنمط لائكيتها الإقصائي ساهم في خلق مجتمعات موازية بقيم متضادة ومعارضة لعلمانيتها العتيقة، لأنها علمانية لا تدمج ولم تعد تحارب الفوارق الطبقية والإقصاء الاثني والعنصرية المتنامية رغم انها تقول عكس ذلك، بل أصبحت فقط تمنع وتجرم كل اختلاف قيمي مع مبادئها، لأنها تعتبرها مقدسة وهذا ما يفعله الدين عندما يسيطر سياسيا على غير معتنقيه تماما.

 

في هذا الزخم المتهافت بدأ مكارون لعبة سياسية قديمة ،لعبها الباباوات وملوك أروبا قبله بمكر ودهاء في القرون الوسطى لتصريف مشاكلهم الاقتصادية والسياسية المتنامية لمحاربة العدو الإسلامي القابع في الديار المقدسة وكان ما كان وفهمت اللعبة السياسية بوسائل دينية...

 

لكن ماكرون عندما صرح أن هناك أزمة للدين الإسلامي فهو كلام حق يراد به باطل، لأن هذه الأزمة هي شجرة التوت، بل وورقتها الأخيرة لتغطية على أزمة فرنسا المتفاقمة بعد صعود نخب سياسية مقاومة، هنا وهناك في دولها المستعمرة اقتصاديا، بل وصل لهيب احتجاجاتها حتى معقل عاصمتها باريس وأصبحت الأقليات وأبناء أجيال مهاجرين كابوس يؤرق الدولة الفرنسية وقابل للانفجار دائما وفي أية لحظة.

 

لكن هذا المجتمع المتوازي ألم يكن رغبة فرنسية سياسية قديمة، كانت تساير مصالحها في حفظ الفوارق الطبقية والمجتمع الفرنسي النخبوي من فقدان قيمه وتفوقه الثقافي، المدعوم خصوصا بعد فشل فرنسا في الحفاظ على مكتسباتها الاستعمارية ثقافيا خصوصا في الجزائر وفي دول تفقد يوما عن يوم سيطرتها عليها كان اخرها رواندا.

 

لكن أليس هذا النمط من الانعزالية الإسلامية والفكر المركزي الإسلامي الذي تحاربه فرنسا الآن، أليس المذهب الذي دعمته منذ ثمانيات وتسعينات القرن العشرين لمواجهة المد اليساري والمعسكر الشرقي الذي كان يهدد مصالحها الاقتصادية في معقل حلفائها!؟ ، والذي أغرق الدول الإسلامية في صراعات وتطاحنات لم تنتهي .لكن هذا الدين الذي تحاول النخب الفرنسية قبل ماكرون وخصوصا معه تصويره كعقبة في طريق تقدم بلده وخروجه من أزمته، أليس هو نفسه الدين الذي كانت تستخدم رموزه لجمع المجاهدين لمواجهة الاستعمار النازي لفرنسا وتحريره!؟...

 

إن الإسلام السياسي كان مدعوما من قبل فرنسا في الخفاء رغم انها كانت تظهر عكس هذا في الظاهر، مدام يتماشى ويحقق مصالحها في حفاظ على عروش نخبها التابعة التي تضمن مصالحها، لكن مع تصاعد دول تستخدم معها وتزاحمها في استغلاله، أصبحت هذا الدين مشكلة لأنه يمنح سيطرة سياسية متنامية لإيران التي كانت فرنسا تستضيف مؤسس نظامها الإسلامي شخصيا عندها، بل الكثير من قياديي الفكر الإسلامي السياسي ومنظريه ...

 

لكن لعل دخول تركيا في صراع مباش مع السيطرة الفرنسية في العالم العربي وأفريقيا مستخدمة نفس وسائلها مع اللعب على الوتر الإسلامي رغم أن أهدافهما واحدة، لكن تركيا تمتلك اوراق أكثر إقناعا ومصداقية ومجتمعا موحدا ولو بقوة السلاح والإعلام، عكس فرنسا التي تعاني من مجتمع مفكك يحتاج لعدو جديد لتوحيده وإنقاض تماسكه، لذلك بدأ نقد هذا العدو الذي اكتشفه ماكرون فجأة بعد طول بحث لحل مشاكله المتراكمة فماكرون هنا، كسياسي غربي يطبق المقولة السياسية الغربية أنه لا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل المصالح هي الدائمة.

 

فمصلحة فرنسا تحتاج الآن لمواجهة هذا العالم الموازي لأنه الجزء الأكبر الذي يهدد الفكر السياسي الجديد في تطبيق أجنداته و خططه النيوالبيرالية والتي ستغطيها بمبادئ الثورة الفرنسية التي قتلت في سبيل نشرها الملايين مثلا، لكن فرنسا ستهرب من الاستسلام السياسي بالإسلام السياسي لخلق إسلام على مقاسها، كما ساهمت في خلق إسلام آخر دمرت به محاولات دول كثيرة للتحرر والحداثة قديما ،عبر دعم أنظمة ادعت زورا انها علمانية وأنها تواجه الإرهاب والتطرف بينما هي قمعت اي نهضة ثقافية إسلامية.

 

هذا الأسلوب القديم الجديد هو ما تقوم به من خلال استغلال الجرائم الفردية وتضخيمها، لكي تبرر تدخلها السياسي في مؤسسات الدين الإسلامي في بلدها رغم أنه يتعارض مع قيم العلمانية التي تدعو لها وهذا لن يتم إلا من خلال تحويره وتعديل مذهبه المسيطر حاليا ولأنه وبكل بساطة لم يعد يحقق مصالحها كنا السابق رغم محاربتها لمعارضيه و مستنيريه في المراكز السياسية، الذي يقبع كثير منهم في سجون أنظمة تدعمها سياسيا في الخفاء أو يتم تهميشهم وجعلهم مجتمعا موازيا في بلدانهم الغارقة في التخلف، وذلك عبر إنشاء مؤسسات دينية جديدة بنمط ديني علماني جديد ،بأفكار منسجمة مع مخططات نخبها الجديدة من خلال التدخل في اختيار منظريه ورؤساء مؤسساته المهيكلة عبر سن قوانين تتدخل في طبيعته، بل تجعل حتى رموزه لا تستحق القداسة، لأن قيم المجتمع الفرنسي وثورته هي المقدسة بالنسبة لها، رغم أن هذه النخبة أول من خان قيم الثورة الفرنسية وهي من خلق الهوامش بظلمها وقمعها الاقتصادي وغياب العدالة والمساواة الاقتصادية في مدنها الكبيرة خصوصا مع الأقليات المسلمة مما جعل التهميش والعنصرية أرضا خصبة للتطرف الديني فيها وخلق أجيالا كثير منها بفكر ضيق الأفق وخارج عجلة التاريخ.

 

لكن طريقة تعامل ماكرون مع المجتمعات الموازية والهوامش الآن عن طريق مهاجمة رمزها الأسمى بدعم كاريكاتيرات من قبل الإدارات والدولة هو إعلان فشل سياسي من خلال صيغ المبالغة المفتعلة والنية المقصودة لخلق صراع حقيقي وواقعي وتجسيد صفات العدو في كل تجلياته من خلال استفزاز مشاعر معتنقي دين برمته، هو في حذ ذاته إعلان على فشل في التأثير وكسب المصداقية والشعبية في الشارع انقلب ضدها قبل أكثر من سنة .

 

لأن نشر كاريكاتير لرمز ديني وجعلها هي الأزمة والحل، هي محاولة غريبة تتوسم الهروب للأمام بالإسلام السياسي من مواجهة الاستسلام السياسي من واقع مخيف اقتصاديا وسياسيا، ينهك بلدا كان في القمة يوما ما.

 

لكن هذا البلد يفقد سيطرته وعظمته، لأنه يهرب من مواجهة أخطائه عبر خلق عدو خفي من خلاله يبرر فشله الذريع ويتهمه بكل أسباب أزماته المتراكمة حاليا وحلول مشاكلها المؤجلة التي يخاف أن تكون سببا في ثورة جديدة من كل المهمشين والثائرين في مجتمعاته الموازية المتراكمة فيه رغم أنها منه.