معلومات مثيرة ضمن كتاب "دوغول غير المنتظر" بخصوص ملف الشهيد المهدي بنبركة

معلومات مثيرة ضمن كتاب "دوغول غير المنتظر" بخصوص ملف الشهيد المهدي بنبركة الحسن الثاني والمهدي بنبركة وصورة غلاف كتاب "دوغول غير المنتظر"

نشرت مجلة "جون أفريك" ضمن موقعها الإلكتروني، يوم الأربعاء 23 شتنبر 2020، تقريرا مختصرا حول معلومات جديدة (مثيرة جدا وغير مسبوقة)، تتعلق بقضية اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بنبركة، استنادا على ما ورد في كتاب صدر في اليوم نفسه (الأربعاء الماضي 23 شتنبر 2020) بباريس ضمن منشورات "العالم الجديد"، بعنوان "دوغول غير المنتظر". وهو كتاب سيثير العديد من التعاليق وردود الفعل لتضمنه معلومات غاية في الدقة والإثارة، تعلن لأول مرة حول شخصية ذلك الزعيم التاريخي لـ "فرنسا الحرة" (رغم الزخم الكبير والوافر للمعلومات حول شخصه التي صدرت بخصوصها عشرات الكتب منذ أكثر من 50 سنة).

واعتبارا للأهمية القصوى لتلك المعلومات المرتبطة بملف الشهيد المهدي بنبركة، نقدم هنا، هذه الورقة لما أوردته بخصوصها مجلة "جون أفريك"، التي تبقى معلومات مثيرة في توقيتها وأيضا في مضمونها، والتي تفرض علينا نقلها إلى القارئ المغربي باللغة العربية، لتنويره حول وجهة نظر جديدة صادرة من باريس حول ملف معقد وشائك مثل ملف جريمة اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بنبركة. فهي معلومات تنسب إلى مصدر رسمي فرنسي رفيع من رئاسة الجمهورية، تنضاف إلى المعلومات التي صدرت في باريس من قبل عبر مسارب متعددة، في انتظار الكشف التام عن الوثائق الرسمية التي لا تزال تحجبها الدولة الفرنسية بخصوص هذه الجريمة السياسية التي ارتكبت فوق أراضيها بباريس يوم 29 أكتوبر 1965.

 

أسرار المبعوث الخاص إلى العاهل المغربي المرحوم الحسن الثاني

"شكلت قضية المهدي بنبركة، الأزمة الفعلية الأولى في العلاقات الفرنسية المغربية، منذ استقلال المغرب سنة 1956، التي كانت تقليديا علاقات جيدة.

فقد استشعر الجنرال دوغول، أن عملية اختطاف المعارض الاشتراكي المغربي بنبركة، يوم 29 أكتوبر 1965، من أمام مقهى ليب بباريس ثم تصفيته، مسا بكرامته الشخصية وبكرامة فرنسا. حيث طالب شهورا بعد ذلك من الملك الحسن الثاني اعتقال (بل التخلص) من كل عناصر المخزن المتورطين في القضية، خاصة وزير الداخلية محمد أوفقير.

بل إن تورط عناصر من جهاز المخابرات الفرنسية لمحاربة التجسس (في شخص لوبيز وسوشون)، التي طرحها الملك الحسن الثاني، قد جعلت الملف أكثر تعقيدا وفضائحية، كونها تعكس تشابك العلاقة بين جهازي البلدين الأمنيين. ولقد أكد العاهل المغربي جهله التام بالقضية، رافضا في الآن ذاته تسليم أوفقير أو تنحيته. فكان رد فرنسا هو استدعاء سفيرها من الرباط وقطع علاقاتها الديبلوماسية مع المغرب، فقامت الرباط برد مماثل حيث تم استدعاء سفيرها الأمير مولاي علي.

 

هكذا، فقد ظلت العلاقات مقطوعة لشهور، حتى تاريخ يوم 28 يونيو 1966، حيث استقبل العاهل المغربي مبعوثا خاصا (لم تعرف هويته أبدا) من رجال السكرتير العام لقصر الإليزي القوي، الملكف بالشؤون الإفريقية، جاك فوكار. وكانت الغاية من الإجتماع  إنهاء الخلاف حول كل المواضيع العالقة بين البلدين الحليفين، وليس فقط قضية المهدي بنبركة. ولقد أنجز ذلك المبعوث تقريرا مكتوبا مفصلا عن زيارته إلى المغرب ولقائه بالملك الحسن الثاني رحمه الله. وهو التقرير الذي تم الاستناد عليه في هذه المادة الصحفية، والمستخرج من أرشيفات فوكار، المتضمنة في الكتاب الجديد حول الجنرال دوغول.

 

ساعة ونصف من المحادثات

يقول ذلك التقرير: "كان الأمير مولاي علي في انتظاري حين وصلت إلى الدار البيضاء، حيث أخبرني أن الملك المتواجد بإيفران يود مقابلتي هناك. صباح يوم السبت، توجهت بالسيارة رفقة الأمير مولاي علي صوب إيفران التي بلغناها بعد الظهر. كان الملك قد خرج في جولة بجبال الأطلس ولن يعود سوى في ساعة متأخرة مساء.

واعتبارا لسرية زيارتي، فقد طلبت أن يبقى لقاءنا بعيدا عن أية عيون لمنع أي تسرب. ولم ألتق الملك سوى يوم الأحد، حيث ركبنا السيارة وقمنا بجولة طويلة، وكان العاهل المغربي يقود السيارة بنفسه. ولقد دامت محادثاتنا المطولة ساعة ونصف الساعة، بحضور الأمير مولاي علي (...).

أخبرت الملك أنني غير مكلف بأية مهمة، وأنني جئت إلى المغرب استجابة لدعوة من الأمير مولاي علي، وأنني جد سعيد بلقاء جلالته. فرد علي بسرعة أنه رغب في لقائي اعتبارا لعلاقاتنا القديمة، وأيضا لأنه أحس أنه على المستويات العليا بفرنسا، لم يتم تفهم بدقة ردوده بخصوص ملف المهدي بنبركة. فكان ذلك مقدمة لحديث طويل للملك دام ساعة كاملة.

لقد امتعض في البداية من أن محادثاته مع الجنرال دوغول لم تتبعها أفعال. وأن اتصالاته معه كانت مفعمة بحميمية خاصة، وأن دوغول قد اتفق تقريبا على كل مطالب الملك، لكن شيئا منها لم ينفذ، لأن الإدارة الفرنسية حالت دون تنفيذ وعود الرئيس. مثلما نبهني الملك إلى الملاحظة التالية، قائلا: "لقد طلبت من الجنرال دوغول، خلال آخر زيارة لي إلى فرنسا، مساعدة مالية استثنائية. لكنه لم يمنحني سوى 25 مليار، وأنا ممتن لفرنسا على ذلك. لكنه منح للجزائر 300 مليار، مما مكن هذه الأخيرة من التسلح ومهاجمتي".

مثلما عبر الملك عن امتعاضه من كون الحكومة الفرنسية لم تخبره ببعض المبادرات الخاصة بالعالم الثالث، مما كان سيسعد الحكومة المغربية لو تم وضعها في الصورة بشكل مسبق، أن تطابق مواقفها مع موقف الحكومة الفرنسية. وفي الواقع (يقول الملك) منذ قرر الجنرال دوغول مقاومة الأمريكيين والتوجه صوب الروس، لم تعد الرباط تثيره كثيرا، وأن رهانه أصبح على الجزائر والقاهرة. مضيفا: "فبدعوى الأمن الطاقي لفرنسا، نضحي بأصدقاء فعليين لصالح بلد ثائر يلعب بكم. بينما أمنكم الطاقي القادم من الجزائر لن أراهن عليه كثيرا".

 

رعونة

انتقل بعدها الملك إلى قضية المهدي بنبركة، التي شهدت الكثير من الرعونة. وأن بعض الشخصيات الصحفية ومن الإدارة ومن عالم السياسة، قد سعت إلى الإساءة في الآن ذاته إلى دوغول وإلى المملكة المغربية. وأنه متأكد أن بعض الأوساط المقربة من الحكومة الفرنسية كانت تعول على أن تقود قضية بنبركة إلى اضطرابات خطيرة بالمغرب، تصل حد قلب نظام الحكم وإسقاط الملكية. والواقع أن المنفى الطويل للمهدي بنبركة قد جعل الشعب المغربي ينساه تقريبا. و"عليكم تسجيل أنني لم أستغل القضية (وذلك مغر) لتعزيز الوحدة الوطنية حول شخصي ضد فرنسا. لقد درست الحقوق بفرنسا وأعرف جيدا القانون الفرنسي. وبين بلدينا اتفاقية قضائية، ولو نفذت بنود تلك الاتفاقية لكنتم أرسلتم لي ملف القضية بمجرد إنهاء البحث. حينها سأكون مضطرا لتقديم وزير داخليتي أمام العدالة، ورغم صعوبة ذلك، كنت سأقوم به. وبدلا من ذلك تم رفض تسليمي الملف، فيما صرح وزير الإعلام الفرنسي بعد مجلس حكومي، أنه ليس هناك ما يفرض بعث الملف إلى المغرب، في ما معناه أنه لو تم بعث الملف إلي سيكون ناقصا. وأعتقد أن خطأ السلطات الفرنسية الأكبر، هو السماح بمعرفتي التفاصيل عبر الصحافة، قبل أن يخبرني بها سفيركم في اليوم الموالي. هذا الأخير، الذي جاءني رفقة مبعوث هو صديق وفي (الكولونيل تويا)، كي يطلب مني تسليم وزير داخليتي. والحال أنني كنت أعرف مسبقا من خلال قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية، أن الحكومة الفرنسية ستطلب مني ذلك.

 

باسم استمرارية الملكية

وأضاف الملك: "لم يعد من حينها ممكنا قبول الأمر. فالجنرال دوغول حريص على كرامة فرنسا، وأنا أيضا حريص على كرامة بلدي. علما أن لي هما آخر، هو استمرارية ملكيتي. وإذا كان وزير داخليتي قد قام بما تتهمه به العدالة الفرنسية، فإنه قد قام به، مهما قيل، من أجلي. لقد حاول بنبركة تصفيتي مرة على الأقل. لقد كان يتواطأ ضدي. فكيف تريدون مني معاقبة وزيري، والحال أنه تصرف بتفان؟ كيف تريدون أن يتبقى لي دعم في هذا البلد؟. وأن يبقى لابني أصدقاء أوفياء إذا خنت سندي الأوفياء؟ ذلك ما لم يقل لكم ربما في باريس، ولابد من معرفته".

مضيفا قائلا: "لو حدث أثناء مؤامرات الجزائر، أن التجئ جنرال فرنسي مجرم إلى المغرب، وأن تقوم أجهزتكم بالتخلص منه بشكل أو بآخر، فإني أؤكد لكم أنه لن تكون هناك أية "قضية". أعرف أن الأمر صعب أكثر في فرنسا، لكن كان ممكنا القيام بالأمر بشكل أفضل. فحين نكون رئيسا للدولة، فليس لدينا الحق في ذلك. لقد قمتم بالمقاومة، لكن الكثير من القتلى سقطوا بسبب أخطائكم. فقد كان الأمر حتميا حينها. فلماذا تريدون مني أن أحزن حول مصير متمرد، لم يأمل سوى في شئ واحد هو التسبب في ثورة بالمغرب لفائدة أعداء بلدكم وبلدي؟ أنتم تعلمون مدى التقدير الذي أكنه للجنرال دوغول، والتفسير الوحيد لموقفه، أنه تم إخباره بشكل سيئ وبمعلومات غير مكتملة حول وضعيتي وحول السياسة المغربية".

 

أنا في حاجة لفرنسا

وخلص الملك إلى القول: "في المحصلة، أنا في حاجة لفرنسا. ففي الشرق لي جار متوثب، ويشكل خطرا في كل لحظة لركوب مغامرة ضد أراضينا، للتغطية على مشاكله الداخلية. لي في الجنوب موريتانيا، التي استقدمت خبراء صينيين يقدمون التوجيه حتى للإذاعة الموريتانية، ما يجعلني باستمرار موضوعا لسبابهم. ولا أوهام لي بخصوص جيراننا في الشمال، وأخشى كثيرا في حال غياب الجنرال فرانكو لهذا السبب أو ذاك، أن تسقط إسبانيا في حرب أهلية ولربما في يد جبهة شعبية جديدة. وفي الغرب أمامي المحيط الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية. ولا أريد أن أقع بين أيديهم. لأنني مدرك معنى ما يمثله استقلال المغرب حينها. فعلى من تريدونني أن أعول مادامت فرنسا تتركني أسقط؟".

 

حدثني الملك مطولا عن موريتاتيا، قائلا: "لقد طلب مني أن أعترف بموريتانيا، وأنا مستعد لذلك، لكن ليس بدون مقابل. لماذا تريدون مني أن أرسل إليهم محصلي الضرائب لجمع مال شعب من الرحل في غالبيته؟. لماذا تريدون مني أن أرسل لهم سعاة البريد ورجال شرطتي؟ إذا كان هناك توافق مع موريتانيا، فإن المقابل الذي سأطلبه في مقابل اعترافي بها هو معاهدة صداقة إلى حد نوع من الفدرالية بين المغرب وموريتانيا. ولفرنسا القدرة لتسهيل ذلك، بل لها الإمكانية المطلقة. وأنا موقن أن الرئيس سانغور (الرئيس السينغالي حينها)، لا تحفظ لديه بخصوص ذلك. بل إنه على مستوى معين قد يكون طرفا في ذلك الاتفاق".

 

ولقد أضاف الملك قائلا: "إننا في طريق مسدود، وعلينا الخروج منها، قبل المحاكمة إذا كان ذلك ممكنا. إنني مدرك أن القضاء الفرنسي، خاصة القضاء الجالس منه، مستقل عن السلطة. وانطباعي أنه سيكون صعبا الحكم ضد أوفقير لمجرد شهادة تنسب إلى لوبيز أو فواتو أو سوشون. وفي هذه المرحلة، كل شيء ممكن معالجته، وتمة الكثير من الزمن الضائع وأكيد أيضا مواقف لا تراجع عنها قد اتخذت من هذه الجهة أو تلك. وفي المحصلة ستجد الحكومة الفرنسية نفسها في وضعية صعبة. فلست أنا من استدعى سفيره، وما كنت لأقوم بذلك لولا مبادرة الحكومة الفرنسية إلى ذلك. هناك العديد من الفرنسيين بالمغرب والعديد من المغاربة بفرنسا. وليس جيدا أن لا تكون لنا تمثيليات (ديبلوماسية) عادية. وإذا ما قررت الحكومة الفرنسية استنادا على عناصرها المادية الخاصة أن تعيد إرسال السيد جيلي إلى الرباط، فإنني سأعيد مباشرة الأمير مولاي علي إلى باريس".

 

كان ذلك ختام محادثاتنا...