خالد أخازي: دعنا نختفي لنحزن كما نشاء يا عصيد...

خالد أخازي: دعنا نختفي لنحزن كما نشاء يا عصيد... خالد أخازي

نحن في حداد يا عصيد...

كل بيوت المغاربة تبكي في صمت...

نحن في صدمة...

 والمصدوم قد يعبر عن عمق جرحه وألمه غضبا حد التطرف...

لسنا مثلك... بصبرك... ومناعتك الوجدانية..

نحن ضعفاء في هذه المواقف الصعبة..

مرجعيتك قوية عميقة متمكنة.. راسخة... بما بكفي لتمنعك ضد انحراف عن إبدالك الحقوقي..

فهي نتيجة تدريب طويل وترويض مرير...

يا أخي لسنا مثلك..

ولا نملك كل الالهام الذي يلهمك قوة لخوض سجال قانوني وحقوقي في قمة الحزن..

لا أشك أنك حزبن أيضا...

لكن حزنك يختلف عن حزننا الذي يحولنا إلى ما تزعم وحوشا متعطشة للانتقام...

حزنك حكيم... رزين.... كأنه حزن نصف إلاه... يطل على مدينة فاس الجريحة..

حزنك... معقلن... تسطيع أن تتحرر منه، لتلعب معنا لعبتك القديمة..

لعبة اللغة العاهرة التي تقدم نفسها مصلحة في ثوب راقصة..

لم ننصب المشانق... ولم نصدر أحكاما... فقط هو الحزن والغضب..

دعنا نلملم جراحنا... ثم نفتح هذا القوس الذي فتحته...

عدنان... ذاك الطفل الجميل،..

 ذو الابتسامة البريئة، صار منذ وجدت جثثه في حفرة عفنة، ابننا جميعا..

هل رأيت مشهد الأب المنهار...؟

هل رأيت صورة الأمور وهي على حافة الجنون...؟

ما ردده المغاربة من طلب للإعدام... تعرفه كل المجتمعات الغربية والديمقراطية... أمام بوابات المحاكم..

فلمَ تزايد على أبناء جلدك...

الجهر بالمطالبة بالإعدام وتنظيم وقفات صاخبة تعرفها كل قضايا اغتصاب وقتل الأطفال..

إنه شكل من أشكال العزاء الجماعي...

شكل من الأشكال التضامني الوجداني.. يخفف عن الأسرة مصيبتها... كي لا تشعر أنها وحيدة في حزنها..

والقصاء هو الفيصل حسب منظومته القانونية..

نحن معنيون أيضا بهذا الحزن الجارف الذي يهد الجبال..

سلني أنا عن التجربة المرة لموت الولد..

فموت الولد أشق من الموت نفسه...

يا عصيد...

دعنا نحزن بطريقتنا...

بكل ما تسميه وحشية وحبا في الانتقام...

فأنت.... يوما عن يوم تبتعد عن أحزاننا وألمنا... وتتسع الهوة بينك وبينا...

فلا تدع أنك تفهم مجتمعك وأنت تستورد مهدئات للألم منتهية الصلاحية...

لست ضدك...

لكن رجاء... دعنا نحزن بطريقتنا المغربية..

قد نبدو لك متوحشين...

لكن التوحش الحقيقي هو عدم القدرة على البكاء والحزن...

دعنا نبكي كما نعرف كمغاربة...

نولول... نهدد.... نجهر بالرغبة في الانتقام....

فالأمر لا يعدو كونه تنفيسا عن ألم سميته أنت عنفا متواريا..

ما تقرأه في تعابير الناس  ومواقفهم  ..

مهما بدت لك متطرفة، ناقمة، تمهل عليهم... لم ندفن الطفل بعد..

ابتسامته... مازالت عالقة في العقول...

تقتلنا مليون مرة...

أنت.. ستجد  كالعادة من الوقت الكافي لتفكيك تدوينات مغاربة غاضبين وفق مرجعيتك التي أحترمها، وإن اختلفت معك، ففيهم الأب والأم والأخ... الذين ليسوا مثلك... ليس في خطابهم لا مغنما ولا مقعدا ولا ولاء.. هم هكذا لا مسودات لحزنهم..

عدنان  ذو  العاشرة ربيعا... رحل... فلا نريدك أن تركب على أحزاننا لتدبر أفولك...

لا يفتعل سجالا على جثة طرية من بوابة الأحزان إلا الغرباء عن الهم الجماعي للشعوب الجريحة...

يعلم الله... هل سيخرج الأب والأم سالمين من كمد لا يعرف مدى مرارته غير من فقد الولد...

عصيد... لا نريد نقاشا... ولا جدلا حول عقوبة الإعدام...  ومفهوم العقاب والعدالة...

فقط دعنا نحزن بطريقتنا... ولا تحملنا كمغاربة أكثر ما نطيق..

نحن هكذا... حين يموت أبناؤنا نفقد صوابنا..

اعتزلنا... واصمت... المقام مقام حزن..

والحزن على موت الولد يفتت الكبد... وعدنان دخلت ابتسامته كل بيوت المغاربة..

لا تطالبنا أن نجلس معك جوار خيمة العزاء والحزن يعصرنا، لنمحنك حق المرافعة في قضية ليست ذات أولوية...

دعنا ندفن الصبي أولا...

عدنان... مات..

مات طفل من أطفالنا..

يا عصيد..

ملايين الآباء والأمهات سيعبرون عن غضبهم وحزنهم بطريقتهم التي قد لا تتناغم ومرجعتيك قد يصلون... حد التطرف في قول هنا وهناك... لأنهم آباء وأمهات.. وليسوا فلاسفة ولا مفكرين مثلك..

وحدك تستطيع الرؤية في النفق المظلم..

وحدك تسطيع أن تفكر في أجواء حزينة...

وحدك تسطيع أن تظل ثابتا والسماء تمطر جمرا يحرق القلوب والدروب..

لكننا لسنا مثلك.. يا رجل

لم ننضج كفاية... لنكون في مستوى تطلعاتك...

فأنت قوي.. قوية لدرجة أنك قادر على السجال الحقوقي ولم نوار بعد جثمان عدنان...

صدقت...

نحن مسكونون بالضعف البشري... تعمينا الرغبة في الانتقام... وفي ممارسة عنف لا يقل عنفا عن سلوك المجرم... المريض..

هذا المجرم... قد تصيرك مرجعيتك ضحية... وقد تلتمس له الأعذار...

لا عيب في ذلك...

لكن امنحنا حق الاختلاف معك... فالوطن الذي تنظر له ليس الوطن الذي  تعيش فيه...

تمهل على أبناء وطنك...

دعهم يعيشون حزنهم مع أهل الطفل الذي سرق منهم... بطريقتهم... التي تريد استثمارها لفتح جبهات فكرية جديدة، تعود من خلاها إلى دائرة الضوء ولو على حساب جراحنا وألمنا..

عصيد... نحن في حداد...

دعنا نحزن بطريقتنا... كآباء وأمهات.. كمغاربة..

فكل بيت مغربي في عزاء..

توقف رجاء عن وصف تجليات هذا الجرح المغربي بما يليق لا بالمقام...

دعنا نأخذ وقتا... دعنا الآن نختفي لنبكي...

دعنا... نمارس ما تسميه عنفنا المتواري رغبتنا الدفينة في الانتقام..

نحن هكذا... نحن الآباء والأمهات...

حين يموت فينا الولد يقتلنا الحزن... فتتطرف عواطفنا وتفكيرنا...