وصلت الرحلة الاستثنائية القادمة من الدار البيضاء إلى باريس في الوقت المحدد لها وهو 17 و45 دقيقة دون تأخر، الى مطار شارل دوغول شمال باريس، الذي يفاجئك بهدوئه المثير والغير عادي، لقلة الطائرات الوافدة إليه أو التي تغادره وكذلك عدد المسافرين في بهو المطار. وكذلك الأجواء داخل المطار حيث ينتابك إحساس غريب، وكأنك تتجول في مستشفى وليس في فضاء للسفر، كل شيء يذكرك بخطر الوباء القاتل الذي يتربص بالجميع. وهو خطر غير مرئي لا يكاد يصدق.
هذه الفضاءات المغلقة التي كانت مخصصة لترفيه او لشراب أو للأكل أو لتبضع بعضهما مغلق والبعض الاخر خالي من الزبناء. وكأنك تزور فضاءا يفتح من جديد بعد حرب او كارثة كبرى وليس في بهو مطار كان أحد أكبر مطارات العالم الذي كان يستقبل سنويا عشرات الملايين من المسافرين.
كنت أقول مع نفسي والطائرة تتجه نحو ممر الوقوف المخصص لها، علي التأقلم والتعايش مع وباء كورونا سواء خلال العمل او خلال السفر. عندما توقفت الطائرة فتحت هاتفي، نفس الاخبار تتردد و اغلبها كالعادة مند خمسة اشهر هي حول تطور وضعية الوباء، الأرقام كانت مقلقة في المغرب من حيث ارتفاع الحالات المصابة، فرنسا هي الأخرى تتجه نحو نفس المنحى،اليوم الخميس 27 غشت تميز بارتفاع كبير في عدد الإصابات بفرنسا الى تجاوزت عتبه خمسة آلاف حالة، والحكومة تقرر فرض الكمامة في شوارع باريس وضواحيها وفي اكبر المدن الفرنسية، لوقف هذا الانتشار ووقف التراخي الذي ساد بين الناس اثناء فترة العطلة التي يتنقل فيها الناس بكثرة.
هي اخبار غي سارة وربما ندخل الى موجة ثانية من هذا الفيروس القاتل والذي خرب اقتصاد العالم سواء في البلدان الغنية او النامية. وأنا اتتبع هذه الاخبار في هاتفي، وجدت نفسي امام شرطة الحدود، صف الانتظار كان صغيرا، وتمت الإجراءات بسرعة وهي طلب الجواز وبطاقة الإقامة، بعدها وجدت نفسي في مكان سحب الأمتعة، وطاولة يوجد بها ممرضون مكتوب عليها " لمن يريد اجراء اختبار حول وباء كورونا" الامر غير إجباري، و لا أحد طلب مني شهادة الخلو من وباء كورونا التي كنت احملها معي والتي اخذت مني يومين تقريبا في المغرب من البحث عن مختبر معترف به، وأداء ثمن هذه الخدمة التي تعادل بطاقة طائرة في الشركات ذات التكلفة الرخيصة.
اغلب المختبرات الطبية لم يكن ممكنا إيجاد موعد بها. أحد المختبرات بشارع عبد المومن بالدار البيضاء الذي يسمي نفسه مختبرا دوليا، طلب مني بعث رسالة الكترونية أوضح فيها توقيت السفر و طلب تحليل مستعجل. في البداية اعتقدت ان الامر جدي، وبعث بالرسالة كما طلب مني مرفوقة بالمعلومات المطلوبة. لكن حتى اليوم مازلت انتظر جوابا على رسالتي الالكترونية التي بعثتها يوم الاثنين 24 غشت سواء بشكل إيجابي و سلبي.ربما البريد الالكتروني مازال ديكوارا لا اكثر بهذا المختبر "الدولي".
من حسن حظي تتوفر مدينة الدار البيضاء على معهد باستور الذي كان فعالا، ولذي أرشدني إليه أحد الزملاء مشكورا، وله فريق عمل دو كفاءة عالية، قمت بالتحليلة الطبية في الصباح وحصلت على النتيجة في المساء، وكان بإمكاني أيضا الحصول عليها عبر البريد الالكتروني. لكنني فضلت التنقل للحصول على هذه الشهادة التي أصبحت أساسية قبل كل سفر.
لكن كم كان الإحباط كبيرا عند صولي الى مطار باريس لان السلطات الصحية الفرنسية لم تطالب بهذه الشهادة أي مسافر في الرحلة التي كنت بها، على عكس ما أعلنته السفارة الفرنسية بالرباط حول اجبارية الحصول على كشف كوفيد أو ما أعلنه الوزير الأول الفرنسي جان كاسطيكس الخميس الماضي، يوم سفري، امام الصحافة، ان هناك مراقبة بالمطارات الفرنسية، لكن يبدو ان هذه المراقبة تتم بشكل عشوائي ومن حين لأخر. لهذا سيبقى على المسافرين القادمين من المغرب التوفر على هذه الشهادة المخبرية التي ثتبت عدم الإصابة بالوباء. قلت مع نفسي ان غياب المراقبة ربما يعود ان وزراة الصحة الفرنسية لا تتوفر على العدد الكافي من الأطر للقيام بهذه المراقبة في المطارات، او لان اغلب هذه الأطر هي منهمكة في خوض المعركة ضد الكوفيد 19 الذي اخد يرتفع بفرنسا واوربا.
في رحلة الذهاب من باريس نحو الدار البيضاء، السلطات المغربية طلبت شهادتين للخلو من كوفيد 19 وهما شهادتان تم التأكد منهما سواء عند القيام بإجراءات الحجز لدى الخطوط الملكية المغربية او عند الوصول الى مطار الدار البيضاء مع مراقبة درجة الحرارة، وهي اجراءات جدية بالمطار تبعث على الراحة والثقة. وذلك في ظل أجواء الرحلة الجوية التي كانت لا تشبه الرحلات السابقة، في سفر الذهاب كانت ترافقني فرحة لقاء العائلة والأصدقاء وزملاء العمل بالدار اللبيضاء او الرباط. لكن أجواء وباء كورنا فرضت وضعا جديدا، غياب التحية الحارة والعناق والقبل والتي ستبقى مؤجلة الى حين القضاء على هذا الوباء القاتل.
عندما ترتدي الكمامة طوال الرحلة بين باريس والدار البيضاء لا يمكنك الحديث بسهولة مع الشخص الذي يجاورك في المقعد بالطائرة، ولا يمكنك طلب كاس ماء من المضيفة التي تضع قناعا يحجب ابتسامتها او ربما غضبها على العمل في هذه الظروف.اثناء فترة الغداء على مثن الخطوط الملكية المغربية غابت الوجبة الغذائية اللذيذة وما يرافقها من مشروبات وتم تعويضها بسندويتش خفيف، وحتى تبادل اطراف الحديث لم يكن تلقائيا بين المسافرين، وضع الكمامات يذكرنا جميعا ان الوباء مازال منتشرا، بل يزداد انتشاره في الأيام الأخيرة سواء بالمغرب او بفرنسا.
خلال هذه الرحلة الاستثنائية رافقني كتاب " تاريخ الاوبئة والمجاعات في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر" للباحث الجامعي الراحل محمد الأمين البزاز الذي صدر سنة 1990 عن جامعة محمد الخامس بالرباط. الذي انجز دراسة قيمة حول تاريخ المغرب في هذه الفترة ، وكيف عاش اجدادنا هذه الفترة العصيبة، وعرفوا قبلنا ما هي الاوبئة والعزل الاجتماعي، والتباعد وإغلاق المدن من اجل وقف انتشار الأوبئة مثل الطاعون والكوليرا، ووضع الحجاج القادمين من مكة في مكان مخصص للعزل الاجتماعي" الكرنتينا" اذا كان بينهم مرضى بأحد الجزر بمدينة الصويرة.
قلت مع نفسي، لو تم إيجاد شخص مصاب بهذا الوباء في هذه الرحلة هل سيتم تحويل وجهة الطائرة نحو مدينة الصويرة. أحيانا ننسى، لكن التاريخ هنا ليذكرنا انا ما نعيشه اليوم عاشه اسلافنا وفي ظروف اصعب بل ان توالي هذه الكوارث على المغرب افقده السيادة في بداية القرن العشرين. هل تغيرت أشياء كثيرة ام لا ؟ أو ربما ما تغير اني اليوم اقرأ هذه الدراسة على لوحة الكترونية بدل الكتاب الورقي وتصل اخبار العالم عبر الهاتف المحمول؟
أجواء السفر في الطائرة وفي هذه الظروف الاستثنائية كانت يطبعها الخوف والقلق، لكن الغياب عن البلد لمدة 6 أشهر كان قاسيا وغير محتمل، ولا بد من العودة لصلة الرحم، لكن كل شيء تغير، والقارات بما فيها السفر والتنقل تخضع لتطور الوضع الوبائي، كنا ننتظر عودة الرحلات العادية في بداية شهر غشت، لكن تم تغيير الرحلات العادية بالرحلات الاستتنائية. مكان الرحلة تحول من أورلي إلى رواسي، وكذا توقيتها، بطاقتي لسفر تحولت من بطاقة عادية الى بطاقة سفر استثنائية. في المطار، وعند الحجز طرحت علي أسئلة غير عادية، "هل انت مغربي" هل لديك بطاقة تعريف وطنية" هذه الأسئلة لم اكن متعودا عليها ثناء عملية الحجر وتسليم الامتعة.
المهم رغم حالة الاستثناء ورغم الظروف الخاصة للوباء، زرت بلدي المغرب، رأيت العائلة والأصدقاء والزملاء وتمكنت من العمل وقضاء اغراضي في ظل هذه الظروف. ولمست واستمتعت ببحر الطفولة الشاطئ الأطلسي الذي يتميز بالدفء في شهر غشت وتمتعت به رفقة الأصدقاء والعائلة. وتعلمت درسا جديدا، وهو العيش والعمل والسفر في ظل أجواء كورنا التي اصبحت واقعا يجب التعايش وأخذ الاحتياطات اللازمة خاصة التباعد الاجتماعي . في انتظار إيجاد دواء للقضاء على هذه الجائحة التي غيرت مجرى العالم الذي نعيش في كنفه والذي أصبحت فيه شهادة الخلو من الكوفيد 19 شهادة أساسية اليوم من أجل السفر.