حمزة شكري: واقعة السقيفة.. بين السلطة الدينية والتشريع السياسي

حمزة شكري: واقعة السقيفة.. بين السلطة الدينية والتشريع السياسي حمزة شكري

نزعت جل المرويات التاريخية إلى إماطة اللثام عن عروب الوقائع السياسية في تاريخنا الإسلامي، بل وجنحت -بإسفاف- إلى التفصيل فيه وسبر أغواره.

 

أفردنا سابقا كلمة بسيطة حول ظروف نشأة المعتزلة (هكذا تكلم المعتزلة)، حيث بدأنا  ب "واصلهم" وتوقفنا -بقناعة- عند حدود تساؤلات موضوعية شكل الصراع السياسي على سدة الحكم محورها، وهذا ما دفعنا -بإكراه هذه المرة- إلى شحذ نواجد العين -وإن أصبحنا في مسميات علتنا "أعشى"- وركوب الجرشى "الحشرية" والبسبسة في متون سوامح الكتب، وتبليل الأباخيس لتقليب بطون الصفحات، بغرض التنقيب والجس داخل غمد بدور الحكم في بواكر المرحلة الزمنية المتقدمة، ونخص بالذكر بعيد وفاة النبي (صلعم).

 

ومن هنا، يمكننا صياغة مجموعة من الإشكالات باعتبارها منطلقات موضوعية لنا للبحث في تاريخنا الإسلامي/السياسي.

ـ كيف بدأت عوالم الحكم السياسي في الإسلام؟

ـ هل شكلت واقعة السقيفة مرجعا تأصيليا و إطارا تشريعيا للتشاور على منطق الحكم في الإسلام؟

ـ ما مدى غلبة ورجحان الرأي بمقولة الصراع السياسي كان سببا في خلق صراع ديني محتدم؟

 

تجمع كل المصادر التاريخية، باختلاف أصول فكرها، على أن واقعة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، شكلت خطبا جلل، كاد يذهب بحجا الناس وقلوبهم، على الرغم من الحوادث المتسلسلة التي سبقته (حجة الوداع/ ختم القرآن..) إضافة إلى شدة مرضه صلى الله عليه وسلم، مما ولد لدى لفيف من صحابته رضي الله عنهم، هواجس محدودة، لم تتعد محتوم مرضه وحتمية دنو أجله، ولعل هذا ما جعل نبأ التحاقه بالرفيق الأعلى واقعة صادمة.

 

بعيد خبر وفاته انقسم المجتمع (المدني) إلى ثلاثة أحزاب قشيبة، وحدت نفسها ضمن سجال اجتماعي محدد، بحيث انزوى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورهطه في بيت فاطمة البتول رضوان الله عليهم، منشغلا بتجهيز جنازة سيد الخلق، في حين توحد الأوس والخزرج في ثوب "الأنصار" واجتمعوا بسقيفة بني ساعدة للخوض في وضع الدولة الإسلامية بعد موت نبيها، بل ووضعوا سيناريو محتمل للحكم، بتولية "سعد بن عبادة" مقاليد حكم دولة إسلامية، منظمة الكيان، متراصة البنيان، متسعة الأركان، وسندهم الرمزي في أحقيتهم السياسية وأهليتهم للخلافة سابقتهم في الدين ونصرتهم للنبي (صلعم).

بينما وجد المهاجرون وعلى رأسهم "أبو بكر" و"عمر" رضي الله عنهم، أنفسهم خارج دائرة القيادة، وبدأ الإحساس بانكماش وانحصار دورهم كأصحاب النبي المقربين على الجوانب الدينية والرمزية فقط، في تغييب مقصود لهم عن الخارطة السياسية الجديدة، ولعل هذا ما دفعهم دفعا إلى البسبسة صوب السقيفة بدل انتظار تجهيز جنازة النبي، فهم بطن المهاجرين ورعيلهم الأول، ومشاركتهم في اجتماع السقيفة يعتبر واجبا لتمثيل فريقهم داخل المنظومة الاجتماعية الجديدة، وبسط وجوده على الرقعة السياسية المقبلة.

 

دارت على بقيع السقيفة واقعة سياسية بامتياز، مازال موكب التاريخ يتحلق حولها كلما مر قطار عرضه من صفائح بدايات الحكم و ضوابط الخلافة، لعلنا، نبالغ قليلا، إن قلنا عن هذه الواقعة أنها شكلت، بقوة الفكر، مهد الفرقة الشيعية كرد فعل تلقائي على إقصائها المتعمد من النقاش والشورى حول الحاكم الجديد.

فكما أفردنا سابقا، تزامن نقاش السقيفة مع لحظة انشغال أهل النبي في تغسيل جسده الشريف ولحده ودفنه، مما قوى دعوى منتسبي "الشيعة" في رواية الإقصاء من الحكم، وجعلها أكثر منطقية وإن اختلفت الدوافع والأسباب بطبيعة الحال.

 

ولعل ما يمكن الوقوف عند حده، كسجال سياسي، هو اقتراح الأنصار -المتجاوز من البداية- بتولية أمير منهم، وآخر من المهاجرين، وهو ما لا يقبله المنطق الاجتماعي السائد وقتها، إضافة إلى توثر المناخ الاجتماعي، كل هذا أكسب مبادرة "عمر بن الخطاب" بمبايعة "أبو بكر الصديق" مشروعية، باعتبارها خطوة ديبلوماسية. فقد كان الصديق رجل توافقات، يحظى بالإجماع التام على مكانته بين المهاجرين والأنصار معا.

 

وبهذا نكون أمام أول واقعة تشريعية للحكم في الإسلام، وإن وصفها الفاروق رضي الله عنه، بعد ذلك فيما رواه البخاري عن ابن عباس بأنها  كانت "فلتة و تمت" ولعل الغالب من هذا القول قصده رضي الله عنه، بأن تولي الصديق جاء فجأة دون استشارة عامة الناس، بل اقتصر توليه الحكم على مشروعية من بايعه من الملأ يوم السقيفة.

 

تماشيا مع منظور الواقع، وتغليب منظوره يمكن تسجيل غياب مبدأ الشورى التي أوصى بها "التشريع الديني" باعتبارها تتعارض -وإن بمنطق مختلف- مع التشريع السياسي، وبهذا يكون حكم الخليفة الأول للرسول، قد ثم بمنطق سياسي محض بإيعاز من السبق الديني للصديق رضي الله عنه. وعليه فإن الصراع السياسي، إن احتملت هذه العبارة مجازا -التعليق على الأحداث التاريخية- نشأ منذ وفاة الرسول، حتى وإن لم يحضر بارزا ممشوقا -الصراع السياسي- بين الصحابة ساعتها، فقد حضر بشكل أو بآخر، عند المشتغلين بأمور الفكر و المنطق بعدهم، بطرحهم لمجموعة من الأسئلة من قبيل:

ـ ألم يكن من الأجدر الانتظار حتى يفرغ (بضم الياء) من دفنه عليه الصلاة والسلام ثم يناقش ويتشاور في منطق الخلافة والحكم بعده؟

ـ ألم يقصى علي كرم الله وجهه -وإن بشكل عفوي- من المشاركة في التواطؤ والتوافق حول حاكم المسلمين وخليفتهم؟

ـ ألم يكن هذا الإقصاء العفوي سببا من أسباب ولادة المذهب الشيعي الذي وجد في مظاهر التشريع السياسي ضالته لبناء الاختلاف الديني مع أهل الجماعة؟

 

- حمزة شكري، فاعل تربوي