العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أكبر مركب طبي بالمغرب بمرس السلطان بالبيضاء سنة 1929 على مساحة 40 هكتارا (ح. 27 والأخيرة)

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أكبر مركب طبي بالمغرب بمرس السلطان بالبيضاء سنة 1929 على مساحة 40 هكتارا (ح. 27 والأخيرة) مستشفى كولومباني بالدار البيضاء سنة 1928، المستشفى الجامعي ابن رشد اليوم - ولحسن العسبي

نعود هنا، إلى الدار البيضاء، التي ستشهد طبيا انعطافة غير مسبوقة في كامل المغرب (سواء في أجزائه المحتلة من قبل فرنسا في الوسط، أو تلك المحتلة من قبل إسبانيا في الشمال والصحراء بالجنوب، أو بالمنطقة الدولية بطنجة)، ابتداء من سنة 1928. حيث ولد لأول مرة بالمغرب، ما يمكن وصفه بـ "المركب الطبي الضخم"، بذات الشكل المتحقق في كبريات العواصم الغربية مثل لندن وباريس وبرلين وموسكو وروما.. وكل الوثائق التاريخية التي تمكنا من الوصول إليها تجمع على أنه مشروع طموح جدا، في حجمه وأدواره، للمقيم العام الفرنسي الماريشال ليوطي، الذي كان يكاد يشرف أسبوعيا على تتبع تقدم الأشغال في إنجازه، في رحلة بالسيارة من العاصمة الرباط، حتى وإن لم يكتب له أن يحضر تدشينها، بسبب إنهاء مهامه كمقيم عام بالمغرب سنة 1926 بسبب تداعيات حرب الريف. مما يجعل شخصية هذا المحتل الفرنسي تستوجب إعادة قراءة من موقع مدرسة التاريخ المغربية (أنجزت حوله العديد من الدارسات التاريخية الفرنسية لعل أهمها كتاب "ليوطي المغربي" لبيير فيرميرن، وكذا الكتاب القيم من الناحية العلمية والأكاديمية "المغرب من ليوطي إلى محمد الخامس" للمؤرخ دانييل ريفي).

 

لقد شكلت سنوات 1928/ 1931، نقطة انعطافة غير مسبوقة في تطور خدمة الطب الحديث ببلادنا، من خلال إنشاء 3 مؤسسات طبية ضخمة بمدينة الدار البيضاء بالمرتفع الصغير لمرس السلطان، التي تشكل اليوم مجموع المركب الاستشفائي الجامعي الضخم "ابن رشد". كان المخطط المديري للدار البيضاء الجديدة، الذي أنجزه المهندس المعماري الفرنسي بروست سنة 1915، بطلب من المقيم العام ليوطي، يتضمن ليس فقط خلق مدينة أوروبية حديثة، على مستوى عماراتها ومبانيها ومصالحها الإدارية العمومية وأسواقها وأحيائها المغربية (ذات المعمار المغربي الأندلسي)، بل أيضا خلق خدمتين حيويتين هي مساحات خضراء ضخمة وكبيرة (مثالها الأكبر حديقة الجامعة العربية الممتدة على هكتارات متعددة)، وفضاء طبي خدماتي بمقاييس عالمية حديثة.

 

بالتالي، فإنه ابتداء من سنة 1925، بعد التدرج في تنفيذ ذلك المخطط المديري (العمراني) الجديد، الذي مكن من توسيع نسيج ساكنة الدار البيضاء بشكل غير مسبوق في مسافة زمنية لا تتجاوز 20 سنة، كان لابد من تغيير بنية المشهد الطبي بها، حتى يتوازى والمستوى المعماري والخدماتي الذي بلغته المدينة تلك (ابنة الميناء الجديد، الأكبر حينها بكامل إفريقيا.. والتي ستبنى بها أيضا في سنة 1949، عمارة الحرية بطوابقها 17، التي ظلت حتى بداية الثمانينات أعلى عمارة في إفريقيا). كان القرار التدبيري هو تحرير الضغط على المؤسسات الطبية التي ولدت بداخل أو بمحيط المدينة القديمة، سواء في شقها العسكري أو المدني، من خلال إطلاق مشاريع إنشاء 3 مركبات صحية ضخمة، واحد منها عسكري (مستشفى جونفيال، الذي هو المستشفى المدني 20 غشت اليوم) والآخران مدنيان (مستشفى كولومباني ومستشفى موريس غو)، ابتداء من سنة 1925. حيث سيفتتح مستشفى كولومباني سنة 1928، وبعده بفترة قليلة مستشفى موريس غو، فيما افتتح المستشفى العسكري سنة 1931.

 

اللافت في ذلك "المركب الطبي الضخم"، ليس فقط مساحته الكبيرة التي تتجاوز 40 هكتارا، ولا عدد أشجاره التي تتجاوز 1500 شجرة، بل فلسفة هندسته العمرانية القائمة على إنشاء مؤسسة طبية ممتدة جغرافيا وليست مركبا طبيا عاليا بطوابق متراكبة. ففي وثيقة هامة جدا، من ست صفحات، للمدير العام لمستشفى كولومباني في سنواته الأولى، السيد أندري لوروي، نجد تفسيرا ملفتا لذلك الاختيار الذي قال بخصوصه: "إن الخصوصية المميزة لبنايات المستشفى كامنة في أنها تمنح تهوية مثالية وأيضا سهولة في التنظيف والوقاية (...). لقد انتقد البعض تباعد البنايات الطبية داخله، لكن علينا تذكيرهم بإيجابيات ذلك، المتمثلة في عدم السقوط في عائق الأعطاب التي تسجل عادة في مصاعد المستشفيات العالية، بكلفتها الكبيرة ماليا، بينما التنقل بوسائل نقل داخلية اليوم بالمستشفى أقل كلفة بكثير. مثلما منحنا ذلك تحكما أكبر في كل الوسائل التقنية الخاصة بكل مصلحة على حدة. بينما منح الأمر للمرضى فرصة التحرك والتجوال في فضاء ضاج بالخضرة، يجعلهم يستشعرون أنهم فعليا في مؤسسة طبية للعلاج والنقاهة، وليس مجرد مرضى مسجونين في غرف طبية داخل طوابق عالية". نحن هنا، إذن، أمام فلسفة طبية علاجية متكاملة.

 

حسابيا، يعتبر المستشفى العسكري الجديد بالدار البيضاء الأكبر من حيث مساحته (20 هكتارا)، يتبعه مستشفى كولومباني (17 هكتارا)، وأخيرا مستشفى موريس غو المدني الخاص بالمرضى المغاربة (3 هكتارات). ولعل من مكر الأمور، أن الاسم الذي اشتهر به ذلك المركب الطبي الضخم مغربيا من حينها إلى اليوم هو "مستشفى موريزغو" (تحريف في النطق بسيط لاسم الطبيب العسكري الفرنسي الشهير موريس غو)، بسبب أن المغاربة في غالبيتهم الكبرى كانوا يلتجؤون إلى المؤسسة الأصغر ضمن ذلك المركب الطبي الخاصة بهم (والمجانية)، وصار التعبير الدارج هو "الذهاب إلى مستشفى موريزغو"، فيما تم حجب نهائيا باقي أسماء المؤسستين الطبيتين الأخريين، رغم أنهما الأكبر، من الذاكرة الجمعية للبيضاويين (كان المستشفى العسكري خاصا بالجنود والضباط وعائلاتهم، فيما كان مستشفى كولومباني يقدم خدماته بمقابل مالي للأوروبيين بالأساس وبعض من أغنياء المغاربة). في مكان ما، فإن دلالة ذلك، هو أن ساكنة الدار البيضاء من المغاربة، وهم الأغلبية، قد اعتبروا أن مستشفاهم هو "موريس غو" وليس المؤسستان الأخريان. هذا ملمح مغر بالدراسة سوسيو/ نفسيا على كل حال.

 

كان حضور المؤسسة الطبية الدينية المسيحية كبيرا في ذلك المركب الطبي الضخم، ليس فقط بسبب حضور "الممرضات الراهبات" من التيار الفرانسيسكاني (بشكل لباسهن وحجابهن الرمادي والأبيض المميز)، بل بملكية الأرض التي بني فوقها ذلك المركب الطبي الهائل بالدار البيضاء، التي هي في ملكية الفاتيكان إلى اليوم، وهي محبسة بقرار بابوي من روما، لتكون مجالا للخدمة الطبية فقط، وممنوع نهائيا استغلالها لأغراض تجارية. من هنا جاء القرار التنظيمي (ضمن المخطط الإداري للمهندس بروست)، أن تضم تلك البقعة الأرضية الشاسعة جدا، المستشفيات الثلاث تلك، وكذا مؤسسة مختبر باستور/ الدار البيضاء، التابع مباشرة إلى باستور/ باريس.

 

بالأرقام، بلغت مساحة ما بني من مصالح طبية بمستشفى كولومباني، مثلا، 18 ألف متر مربع (وهذا رقم خرافي بالمغرب سنة 1928)، بينما بلغت مساحة ما بني بالمستشفى العسكري المجاور له، 15 ألف متر مربع، ومساحة ما بني بمستشفى موريس غو اللصيق بهم أيضا، 7 آلاف متر مربع. وكانت تضم مصالح طبية كبيرة جدا، وفرت في مجموعها ما يفوق 850 سريرا، موزعة بين خدمات طبية عامة وخاصة. حيث نجد بناية مستقلة لطب النساء والأطفال، وبناية مستقلة للطب العقلي والنفسي، وبناية مستقلة للمستعجلات الطبية، وبناية مستقلة للأمراض الصدرية، وبناية مستقلة لأمراض العيون، وبناية مستقلة لأمراض القلب والشرايين، وبناية مستقلة لأمراض الأنف والأذن والحنجرة، وبناية مستقلة للأمراض الباطنية، وبناية مستقلة لأمراض العظام، وبناية مستقلة لأمراض السرطان. ثم مقار سكن للمدير العام والطبيب الرئيسي والممرض الرئيسي وسكنى الأطباء الطلبة الداخليين (كانت مخصصة لهم فيلا مستقلة وعددهم لا يتجاوز 7 طلبة أطباء داخليين سنة 1930)، ومطبخا كبيرا وصيدلية داخلية ومعزلا للتنظيف وسكنى مدير الأمن العام للمستشفى ومشرحة للتشريح الطبي وبناية لحفظ الأموات. فيما بلغ مجموع العاملين بها من أطباء وممرضين ومساعدين وحراس ومنظفين وصيدليين، ما مجموعه 315 (181 بمستشفى كولومباني و159 بالمستشفى العسكري و76 بمستشفى موريس غو) ، يشكل الأطباء ضمنهم ما مجموعه 37 طبيبا من مختلف التخصصات.

 

كان المغرب، حينها، أي مع نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات، قد دخل إلى مستوى أعلى في الخدمات الطبية الحديثة، انطلق أساسا بالدار البيضاء، قبل أن ينتقل إلى الرباط سنوات بعد ذلك، مكن من تغيير شمولي للخريطة الطبية والصحية بالمغرب، جعلها ترتقي بمقاييس الصحة العالمية إلى مراتب متقدمة حينها، توازي المتحقق في كبريات العواصم الغربية. هل بقي الأمر كذلك اليوم؟ هذا سؤال كبير، مزعج، لكنه محاسب أيضا. نحن في زمن جائحة كورونا، كنا سنكون تجهيزيا ومؤسساتيا وخدماتيا (من الناحية الطبية والصحية) أفضل بكثير من الحال الذي نحن عليه اليوم، لو تمت المحافظة على ذلك المستوى الذي تحقق من حيث بنية الخدمات الطبية التي كانت في مركبات هائلة مثل مركب مرس السلطان المنجز من قبل الحماية في سنوات 1925/ 1931.

 

ومما يسجل هنا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أن مستشفى موريس غو الخاص بالمغاربة مسلمين ويهود قد كانت خدماته مجانية (والمصالح البلدية للمدينة ومصالح الصحة العمومية هي التي تتحمل ميزانيته العامة ومصاريف العلاج به)، بينما كان المستشفى العسكري مخصصا للضباط والجنود وعائلاتهم والعلاج فيه مجاني أيضا بحكم طبيعة الأمور، بينما كان العلاج بمستشفى كولومباني (الدكتور كولومباني هو الطبيب الفرنسي الذي كان أول مدير للمستشفى العسكري بالرباط وأول مديرعام لقطاع الصحة العمومية بالمغرب)، بمقابل مادي، حسب المستوى الاجتماعي للمريض، فالأغنياء يؤدون 63 فرنكا فرنسيا قديما في اليوم، بينما متوسطو الحال يؤدون 32 فرنكا في اليوم، ويعفى من الأداء الفقراء الحاملون لوثيقة رسمية من المصالح البلدية للمدينة. وفي سنوات 1930/ 1936، استفاد من العلاج بمختلف مصالحه 22 ألف مريض، قضوا في المعدل ستة أيام داخله، 51 بالمئة منهم فرنسيون، 22 بالمئة إسبان، 15 بالمئة إيطاليون، والباقي من المواطنين المغاربة مسلمين ويهود.

 

(انتهى)