العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول مستوصف بالرباط 1910 بحي سيد فاتح، وأول مستشفى عسكري بالقبيبات 1913 (ح 10)

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول مستوصف بالرباط 1910 بحي سيد فاتح، وأول مستشفى عسكري بالقبيبات 1913 (ح 10) أول مسشتفى عسكري بالرباط سنة 1915 (وفي الإطار لحسن العسبي)

لا يمكن الحديث، عن قصة دخول الطب الحديث إلى الرباط، بدون الحديث أولا عن شغف ليوطي بالطب كأداة حاسمة للحكم والتحكم. وأيضا بدون الحديث عن شغفه بالرباط، المدينة التي اختارها كي تكون عاصمة الدولة المغربية الجديدة بدلا من فاس. فاس التي قلنا من قبل إنها كانت برميل بارود بالنسبة له جد مزعج، كونها تضم نخبة النخب المؤثرة في القرار السياسي والعلمي والتجاري والثقافي بالمغرب حينذاك.

 

كان اختيار ليوطي للرباط عاصمة، كما جاء في كتاب مذكراته "كلمات ميدان" الصادر سنة 1927، والذي سبق أن ترجمت فصولا منه، منذ خمس سنوات خلت، قد نفذ في سنة 1913، مما يفسر السبب في عدم ميلاد أول مؤسسة طبية حديثة بها، فيما حازت السبق مدينة الدار البيضاء منذ 1911، بسبب التواجد الفرنسي فيها منذ 1907 (مع تجارب استشفائية خاصة بطنجة وتطوان منذ نهاية القرن 19، سأعود إلى سياقات ميلادها وأدوارها ومجالاتها بتفصيل في ما بعد).

 

كانت الرباط، منذ 1910، تضم فقط بناية عتيقة لمستوصف فرنسي، كان جزء من المهام القنصلية لفرنسا بالمدينة، مخصص لضمان الرعاية الصحية للأجانب الأوروبيين بها وبمحيطها الفلاحي، تبعا لبنود اتفاقية الجزيرة الخضراء لسنة 1906، المتعلقة بتنظيم التجارة والجمارك والخدمات الطبية في مختلف الموانئ المغربية. وهو المستوصف اليتيم الذي كان بحي سيدي فاتح بالمدينة القديمة للرباط. ولن يظهر بها أول مستشفى حديث سوى سنة 1915، الذي هو المستشفى العسكري المطل على البحر.

 

كانت خطة ليوطي منذ تسلمه مهامه الرسمية كمقيم عام بالجزء الذي تحتله فرنسا من المغرب، يوم 28 أبريل 1912، تقتضي خلق فرق طبية متنقلة تابعة لوحدات الجيش الفرنسي، تكون أداة فعالة لتقديم الرعاية الطبية للجنود الفرنسيين وأيضا توظيف المعرفة الطبية، عبر الخيام البيض، لإقناع المغاربة في مختلف المناطق أن مهمة فرنسا بالمغرب هي مهمة "إنسانية"، فالطب كان سلاحا آخر فعالا بالنسبة لماريشال فرنسا الاستعمارية. أليس هو الذي سيطلب من حكومة بلاده بمجرد تسلمه مهامه بفاس، أن ترسل إليه 60 طبيبا، كما هو وارد في دراسة للباحث الفرنسي بول دوري تحت عنوان "ليوطي والطب" (الصادرة ضمن أعمال "الجمعية الفرنسية لتاريخ الطب" في دجنبر سنة 2000). وأنه سيجيب مدير مكتبه النقيب بينيديك حين استغرابه من طلب ذلك العدد من الأطباء، قائلا بالحرف:

"سأوظف أولئك الأطباء في تكوين طبي متنقل يخترق البلاد رويدا رويدا، حتى يقدموا خدمات الصحة الجديدة والحديثة، وكي يكونوا سلاحا سياسيا لي بكل البلاد".

 

لهذا السبب سنجده يركز كثيرا على خلق آلية إدارية مضبوطة لتنظيم خدمات مجال "الصحة العمومية" ومجال "المحافظة على الصحة العامة"، حيث كان حريصا دوما على ترؤس اجتماعات "مصلحة حفظ الصحة" التي إلزامي أن تحضرها كل المصالح العمومية المتعالقة مع ضمان الصحة العمومية. وظل يبحث عن شخص مناسب يستوعب فكرته الاستراتيجية تلك، حتى وجده سنة 1918، في شخص الدكتور كولومباني، الذي سيعينه مديرا للمستشفى العسكري بالرباط بعد إعادة بنائه ابتداء من سنة 1918 وافتتح سنة 1920 (قبل أن ينتقل الدكتور كولومباني إلى الدار البيضاء ويشرف على إنشاء وتدبير أكبر مستشفى طبي مدني بالمغرب في سنة 1929، حمل اسمه لسنوات وهو اليوم المستشفى الجامعي ابن رشد. وسنعود إلى تفاصيل ذلك لاحقا).

 

كانت مقولة ليوطي الدائمة تفيد أن ليس هناك بالنسبة له، طب عسكري وطب مدني، بل هناك طب فقط. صحيح أنه يبدأ عسكريا لظروف احتلال المغرب بالقوة، لكنه يكتمل إلزاميا، بعد فترة قصيرة، بالخدمة الطبية المدنية الموجهة للساكنة المحلية. ذلك ما حدث في الدار البيضاء، كما سبق وأشرنا إلى ذلك، ابتداء من سنة 1911، وذلك ما سيقع بالرباط بعدها ابتداء من سنة 1913.

 

تخبرنا وثيقة مسنودة بتقارير عسكرية طبية فرنسية بالرباط، حررها الملازم العقيد، الطبيب غريندورج، أن أول القرارات المتخذة سنة 1913، هي إخراج المصلحة الطبية الفرنسية من تلك البناية المتهالكة والصغيرة لمستوصف حي سيدي فاتح بالرباط، إلى فضاء أوسع، وقع الاختيار فيه على إنشاء مستشفى عسكري من الخيام البيض، بمنطقة مثالية تطل على المحيط الأطلسي شمال حي القبيبات. وبعد سنة شرع في بناء قاعات طبية من الخشب، مجهزة تجهيزا صلبا يقاوم ظروف الطقس، قبل أن تكتمل بنايات إسمنتية بالجوار سنة 1915. مما يجعل التأريخ لميلاد المستشفى العسكري بالرباط يعود إلى سنة 1915 وليس 1913، اعتبارا لأن الخدمات الطبية الجراحية الحديثة بالشروط اللازمة طبيا لذلك لم تتحقق سوى في تلك السنة.

 

لكن، الماريشال ليوطي، لم يكن مرتاحا لتلك البناية الطبية، ولا لملحقتها القريبة منها الخاصة بـ "مستشفى صغير للأهالي المغاربة المسلمين واليهود"، فقرر عقد اجتماع في أول غشت من سنة 1914، تقرر فيه جعل بناية ملكية قديمة (تعود إلى القرن 18، وهي قصر صغير للاستجمام بناه السلطان سيدي محمد بن عبد الله فوق ربوة مطلة على المحيط الأطلسي) مقرا جديدا لذلك المستشفى. فانطلقت الأشغال لتهييئ بناياته العتيقة والواسعة، وإضافة بنايات جديدة إليها، تستجيب للشروط الواجبة في مستشفى متكامل الخدمات والأقسام الطبية. وطلب وضع تصميم هندسي متكامل لها من قبل مكتب هندسة معمارية، وأصبح واحدا من مشاريعه الكبرى بالعاصمة الرباط الذي يزوره كل أسبوع مرتين أو ثلاث لتتبع تقدم الأشغال، وكثيرا ما كانت بعض زياراته عاصفة بسبب غضبه من عدم التجاوب مع طموحه في شكل البناء. ولقد دامت أشغال التوسعة تلك 5 سنوات، حيث لم يفتتح رسميا ذلك المستشفى العسكري في صيغته الجديدة، سوى سنة 1920 (ذات السنة التي سيفتتح فيها المستشفى العسكري الجديد بالدار البيضاء بحي مرس السلطان). وكان لزوجة الماريشال دورها في ذلك الإنجاز الطبي الكبير آنذاك، أيضا، من خلال إدماجها لمؤسسة الصليب الأحمر ضمن هيئته الطبية والتمريضية والخدماتية.

 

لكن نقطة الاختلاف التي اختار ليوطي أن يميز بها ذلك المستشفى العسكري هي في إطلاق اسم امرأة عليه، هي الممرضة العسكرية ماري فويي، التي سقطت صريعة بسبب المرض والإجهاد سنة 1912، ضمن مهامها الطبية بالمغرب، وبقي لسنوات يحمل اسم "مستشفى ماري فويي"، بقاعاته الفسيحة والجميلة، بهندسته المعمارية المغربية الأندلسية التي حافظت على الطابع المعماري للقصر الصغير للسلطان سيدي محمد بن عبد الله، بحدائقه الواسعة وبمجالات الخدمة الداخلية المتوفرة فيه، من مكتبة وقاعة مطالعة وقاعة محاضرات. فكان أشبه بنواة لمستشفى جامعي، هو الأول من نوعه بالمغرب منذ 1920.

 

كانت الرباط تتوفر عمليا منذ 1915، تاريخ صدور أول ظهير منظم لـ "الصحة العمومية بالمغرب"، على عدد من المستوصفات التخصصية الصغيرة، منها ذلك المستوصف الصغير لسيدي فاتح (الذي تم تجديده ابتداء من سنة 1914)، وكذا مستوصف معالجة مرض السل بذات الحي (أطلق عليه اسم ليوطي)، ومستوصف الأمراض الجنسية بالقبيبات، ومستوصف للأطفال (تابع لجمعية "قطرة حليب"). لكنها ستصبح ابتداء من سنة 1916 تمتلك مستشفى مدني خاص بالمغاربة من المسلمين واليهود، أنشأ باستقلالية عن المستشفى العسكري، في المنطقة ما بين حي المحيط وحي ديور الجامع وحي العكاري. وهو المستشفى الذي حقق تجاوبا سريعا مع الساكنة المغربية، التي جزء منها يجر وراءه تقاليد مدينية عريقة، تدرك أهمية الطب الحديث وفعالية خدماته، مما ظهرت نتائجه في الأرقام الإحصائية الرسمية للإقامة العامة بالرباط ولمصالحها الطبية والصحية. حيث نجد أن عدد المرضى الذين تم علاجهم فيه قد انتقل بالسنوات ما بين 1920 و1935، من 972 مريضا إلى 2873 مريضا. وأن عدد العمليات الجراحية، قد انتقل في السنة الواحدة من 75 عملية جراحية إلى 215 عملية جراحية. وأنه في عشر سنوات تم به تلقيح أكثر من 75 ألف مواطن رباطي مغربي. وأن بنيته الإدارية كانت تعمل كإدارة مركزية تشرف على كل المستوصفات الصغيرة التخصصية الموزعة على باقي أحياء المدينة. مثلما كان يتبع لها إداريا، ابتداء من سنة 1918 مستوصف الولادات الذي افتتح بمبادرة من زوجة الماريشال ليوطي منذ 1914، بحي سيدي فاتح بالمدينة القديمة، ببيت مغربي عتيق يقع بزنقة حمام لعلو، كان يضم في البداية 6 أسرة فقط، وكانت تجرى به 36 عملية ولادة في السنة بالطرق الطبية الحديثة ابتداء من سنة 1915. قبل أن يتم إلحاقها مع مؤسسة رعاية الطفولة ببناية طبية أكبر بشارع دار المخزن، حيث انتقل عدد الولادات به من 206 في سنة 1918، إلى 850 عملية ولادة في سنة 1933.

 

(في الحلقة القادمة تقرؤون: "الدكتور دوبوا روكبير بالرباط، الذي أصبح الطبيب الخاص للعائلة الملكية")