إدريس المغلشي: المكارثيون الجدد.. المنهزمون ديمقراطيا

إدريس المغلشي: المكارثيون الجدد.. المنهزمون ديمقراطيا إدريس المغلشي

المكارثية عملية دنيئة لتصفية خصوم ومنافسين بطريقة غير ديمقراطية والأهم من ذلك فهي تعتبر اتهاما مجانيا يفتقر إلى الحجج والإدانة. المكارثية تنسب إلى "جوزيف ريموند مكارثي"، الذي أسس تيارا سياسيا ظهر في الولايات المتحدة الامريكية إبان احتدام الصراع بين الشيوعية والرأسمالية، حيث اعتمد أسلوب الاتهام المجاني الذي لا تسنده دلائل ولا حجج لزرع ثقافة الخوف من الشيوعية، حيث ذهب ضحيتها رموز في السياسة والفن والعلم من قبيل مارثن لوثر كينغ وتشارلي شابلن وألبرت إينشتاين وحتى الرئيس الأمريكي نفسه هاري ترومان. المكارثية اعتمدت أسلوب التشهير وإلصاق التهم غير المنطقية بالمخالفين والمنافسين ومحاولة تصفيتهم رمزيا وقيميا، وهذا ما اصبح عليه كل من فشل في سباق ديمقراطي بطبيعة الحال.

 

لقد انتهت هذه المقاربة الوضيعة مادامت تعتمد كرأسمال لها وكركيزة على تلفيق الإشاعة والكذب والبهتان، عندنا  فرخت عقليات، مازالت تعمل على تمزيق المؤسسات والتنظيمات وإحداث الفجوات داخل بنيتها التنظيمية وزرع الفتن وصناعة التيارات وتشويه الشرعيات وتحشيد المناوئين للديمقراطية الذين أعمتهم المصالح الضيقة وأبعدتهم اختيارات وإرادة المصوتين في فضاءات مغلقة، من أجل معاكسة أي قرار يصدر عن القيادة الجديدة وإرباك عملها واستراتيجياتها من خلال الاستدراج إلى معارك ثانوية تشوش على الأولويات المرتبطة بمصالح وأهداف المؤسسة والتنظيم، إن شيطنة الآخر لن تؤدي بالنهاية إلا إلى نتائج عكسية؛ وهنا نذكر بما قاله راشد الغنوشي لصحيفة "لوموند الفرنسية": "يجب تفادى خطاب عدو الداخل أي شيطنة من تشترك معه التنظيم أو الوطن أو الجماعة لأن النتائج ستكون عكسية".. وهذا فعلا ما حصل لمن قاد حملة لتشويه المنافسين  في محاولة لصياغة صورة ذهنية سلبية لدى الرأي العام الداخلي للتنظيم أو المؤسسة عنهم من خلال الإساءة لقيادات معينة عبر تصويرها على أنها شخصيات مارقة عن الخط التنظيمي ومبادئه وتشكل عصابة تهدد الوحدة التنظيمية وأمن واستقراره وأنهم يشكلون خطرا على المنظمة وقيمها الجامعة. إن هذه العملية تعتبر إفرازا للشعور بالانهزام واستعجال الخطى لإدراك منصة القيادة والتخلص من المنافسين قبل موسم حصاد "الامتيازات"، إنها من تجليات  الفشل الذريع في السيطرة والاستحواذ على المؤسسة والتنظيم في ظل  مساومات لتوسيع قاعدة المناصرين الذين تم إغراؤهم بالمواقع. وبالتالي فوقع الصدمة وأثرها وهول الفشل الذريع الذي اختل به اتزان المنطق وأضر برجاحة العقل في تدبير ما أعقب نازلة الاحتكام لإرادة المعنيين. وبالتالي عدم استيعاب الانهزام أمام الصندوق وإرادة المصوتين وفي ظل الواقف النبيلة الراقية المتجسدة بكل وثوقية النفس في  اعتذار منافس قوي على  القيادة، وهذا درس آخر من دروس التنافس الديمقراطي ويقظة القواعد الوفية لخطها المبدئي الذي لم يستوعبه دعاة التبخيس والارجاف الذين يسعون بلا هوادة في إرساء حالة التنازع وترسيمها داخل المؤسسة أو التنظيم، لكنه يا سادة الغرور وعمى الطموح المغرور الذي بنى مجده على قشة لن تصمد مع أول هبة ريح، فغرفة الهندسة الخفية ترى في نفسها أنها هي أحق بالقيادة وكل معارض لها هو مناوئ يحتاج الى الرجم. وتتم “شيطنة الآخر” من خلال قوالب وأحكام جاهزة تتهم الآخر بالشر أو الخيانة أو الفساد أو أنه أداة في يد المكوولس الكبير، وتستعمل فيها طرق التشويه والسخرية والتقزيم ووصف الآخر بأقذع النعوت والأوصاف وتصيد زلاته واقتصاص حديثه من سياقه ليؤدي أهدافا غير بريئة حتى لا أقول خبيثة.

 

من الغرابة ما أصبحت تعيشه بعض المؤسسات ذات البعد الاجتماعي، وكذا بعض تمثيليات المجتمع المدني، إذ يدعي بعض منتسبيها الدفاع عن الديمقراطية الداخلية لتدبير التداول على المسؤوليات وهناك من يرفع شعار "الزهد في المواقع والمناصب والامتيازات"، لكن يسقطون عند اول اختبار، فبمجرد أن تعقد الجموع والمؤتمرات والمحطات التنظيمية حتى يغادروا دفة القيادة، ويتلقون هزيمة ديمقراطية نكراء من خلال صناديق الاقتراع التي يبقى الحسم فيها لإرادة جماعية وقناعات لا يمكن اتهامها في حالة الهزيمة، يشرعون في تسفيه من ارتضته إرادة العموم، فيلجؤون إلى محاولة نزع الشرعية عنه  أو تأليب مكونات المؤسسة لتصفية المنافسين المحتملين وطرحهم خارج الشرعية من خلال التشكيك في مدى التزامهم بمبادئ التنظيم والمشروع، والشق عن صدورهم واختراق نواياهم واتهامهم بالكولسة والترويج للذات، ولعل المتتبع لخطابهم وتحركاتهم قبل الاستحقاقات بسنوات عديدة وبعدها واستهدافهم لأي منافس محتمل في محاولة يائسة لإخراجه من حضن ووعاء القيم الجامعة والتي ينتظم داخلها التنظيم والمؤسسة  فتجدهم يستدعون الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة طمعا في وضع المخالف في خانة عدم تمثل قيم المشروع بل وخيانته لها، والحقيقة التي لا غبار عليها هي ابتعاد المنهزمين عن الديمقراطية وواقع الحال يفضح ما يدعون، سيما في غياب أي تمثل حقيقي لديهم لمبادئ ومنهاج المؤسسة و التنظيم.

 

هؤلاء المكارثيون يسعون الى احداث ثقوب في مشروعية من افرزته الديمقراطية وصناديق الاقتراع من خلال محاولة مسخ الديمقراطية الداخلية واستبلاد القاعدة الناخبة من خلال التأكيد على أن الكولسة دفعتهم الى التصويت، وينسون أو يتناسون أن من بينهم من طالب بشكل قبلي بهندسة مخرجات المحطات التنظيمية حيث قوبل طلبه بالرفض لأنها مؤسسة تستمد شرعيتها وقوتها من القواعد، ومنهم من أعطى لنفسه حق تصنيف الناس إلى قطيع تبع ومنافحين سباع وكأنه ينهل من كتاب ابن المقفع، ومنهم من وعد بعض حوارييه وأتباعه  المقربين والمتماهين في مشاريع التدليس ما قبل الحسم بالعضوية في مراكز القيادة وغيرهم، وبالتالي آلية المسخ لا تنطلي على أحد، رغم محاولتهم توسيع حجم دائرة التحالف للغاضبين والمنهزمين من خلال اختراق بعض الأجهزة والمجالات، أو اللعب على تجييش من يظهر انهم فقدوا امتيازا هنا أو موقعا هناك.

 

هؤلاء المكارثيون الجدد لم يملوا ولن يملوا هي عادتهم وديدنهم وهكذا هم، فمنهم من أصبح يجاهر بضرورة المحاصصة دون أن يلتفت أنه ينطلق من وضعية المنهزم ديمقراطيا المشروطة بآليات "التخلويض والتنوعير والتخربيق" قياسا على حق الأقلية.

 

إنه زمن المكارثية يظهر من جديد متلبسا تارة بدور مغشوش يدعي الديمقراطية، وتارة بدور الفقيه يوزع النصح والزهد يمنة ويسرة، لكن الواقع يشهد أن أحداثهم يعلمها القاصي والداني فلا رهان ديمقراطي على من لفظته صناديق القواعد.